ثقافة

فتية الكهف – الإيمان

يقول تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ}. إن الإنسان يخترق حصار المادة والحس إلى رحاب الغيب بالإيمان، وحصار الحس والمادة ضيق، ورحاب الغيب رحاب واسع، ومن بؤس الإنسان وشقائه أن يبقى سجيناً محاصراً في مساحة الحس، ولا يتمكن أن يخترق هذا الحصار إلى الغيب. وعامل الاختراق هو المعرفة، ونتيجة المعرفة هي الإيمان.

والإيمان بالغيب أهم أبعاد شخصية الإنسان. يقول تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.

وقد جعل الله تعالى الإيمان تحت اختيار الإنسان، وسلطان إرادته، بصورة كاملة في الحالات السوية له، فهو مسألة عقلية نفسية داخلية وخاضعة لسلطان إرادة الإنسان.

ولكن الطاغوت يحاول أن يسلب إرادة الناس، ويجرّدهم من القدرة على الاختيار، فيطيعونه حتى في الإيمان والتشخيص والعرفان والإنكار، وليس فقط في الطاعة والتبعية في النظام والأعمال، بل ينكرون ما ينكره الطاغوت ولو كان معروفاً، ويعرفون ما ينكره الطاغوت ولو كان منكراً، ويرون الأشياء والألوان والقيم كما يراها الطاغوت، ويؤمنون ويكفرون كما يريد الطاغوت.

وقد أنكر فرعون على السحرة إذ آمنوا بموسى (ع) دون أن يستأذنوه، {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}([1]).

وهذا الذي يطلبه الطاغوت من الناس أقصى مراحل الاستكبار والاستضعاف.

فإذا اخترق الناس حصار الإرهاب والتبعية الذي يفرضه المستكبرون، ثارت ثائرتهم، واعتبروا ذلك اختراقاً لسلطانهم ونفوذهم، وهددوا، وتوعدوا، وعذبوا، واضطهدوا الذين تجرؤا أن يفكروا ويتعقلوا الأشياء بأنفسهم من دون استئذان.

وقد كان جزاء سحرة فرعون عندما آمنوا بالله تعالى من دون استئذان فرعون أن قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}([2]).

وقد كان الشوط الأول من التمرد في حياة هؤلاء الفتية، أن آمنوا بالله من غير استئذان الملك، وسمحوا لأنفسهم أن يفكروا ويتعقلوا الأشياء كما تعقلها عقولهم، وتهواها قلوبهم، لا كما يعقلها الملك ويهوى.

وكان هذا الإيمان محظوراً في أجواء القصر أشد الحظر، ممنوعاً أشد المنع.

ومن عجب أن القصر بقدر ما يضم بين جدرانه من التحلل من القيم والفساد، يضم كذلك الإرهاب الفكري والسياسي بأبشع صوره.

والإيمان بالله هو بداية التمرد، وتكون هذه البداية داخل النفس، ورغم ذلك لا يعفي الطاغوت صاحبه من العقوبة والاضطهاد.

وهذه البداية هي أشق مراحل التمرد.

وليس في مراحل التمرد السياسي والحركي مرحلة أشق من الإيمان، والمشقة هنا نفسية داخلية، فإذا آمن الإنسان، واخترق جدار الإرهاب، هانت عليه الأشواط اللاحقة من العمل.

واستطاع هؤلاء الفتية اجتياز هذه العقبة، واستطاعوا أن يغافلوا الطاغية ويفاجئوه بإيمانهم، ويواجهوه بالأمر الواقع.

وهذه هي المرحلة الأولى من التمرد.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الأعراف: 123.
  • [2] ـ الأعراف: 124.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى