ثقافة

مقت الإنسان لنفسه

يقول تعالى: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ}([1]).

وهذه الآية تحتوي على مقتين: مقت الإنسان لنفسه وهو المقت الأدنى، ومقت الله للإنسان وهو المقت الأعلى والأعظم، وسوف نتحدث عن كل من المقتين.

ونبدأ بالحديث عن مقت الإنسان لنفسه.

عندما يُحشر الإنسان يوم القيامة، مثقلاً بذنوبه وسيئاته، يمقت نفسه أشدّ المقت. ولن يمقت الإنسان نفسه كما يمقتها عندما يُحشر مثقلاً بالذنوب والسيئات، ولا يضر مقت الإنسان كما يضره إذا مقت الإنسان نفسه.

ولتوضيح هذا المقت نلفت النظر إلى النقاط التالية:

1 ـ كل ذنب ممقوت، يمقته الإنسان بفطرته، ولذلك يعبّر القرآن عن الذنب بـ (المنكر)، لأن الفطرة السليمة تنكره، وترفضه، وتمقته.

فالخيانة، والكذب، والعدوان، والظلم، والغش، والإعراض عن الله ذنوب تزدريها الفطرة، وتمقتها إذا سلمت الفطرة من التلوث بأمراض المجتمع.

وإن الإنسان يكره (السيئة) و(الذنب) ويمقتهما، كما يكره الجيفة، والنتن، والقذارة، كذلك يكره الإنسان الخيانة، والكذب، والفاحشة، والعدوان، إذا سلمت له فطرته.

وإذا فسدت فطرته، فقد الإحساس بالمقت والكراهية بالتدريج.

وبممارسة الذنب يألف الإنسان الذنب، ويفقد بالتدريج الإحساس بالمقت والكراهية للذنب.

كما أن القاتل يألف القتل بممارسته القتل، ويفقد الإحساس ببشاعة القتل وقبحه كلما توغل في هذه الجريمة، حتى يعود القتل بالنسبة إليه أمراً عادياً.

وهذا هو ركام الذنب الذي يغطي الفطرة. فإذا مات الإنسان سقط عن فطرته ركام الانحراف مرة واحدة، فتعود للإنسان الرؤية السليمة، ويرى الأشياء بوجهها الحقيقي، فيمقت عندئذ الذنب أشد المقت، دون أن يتمكن من التخلص منه، لأن الموت أعاد إليه فطرته من جديد، ولكن الذنب أصبح جزءاً لا يتجزأ منه، فيمقت نفسه عندئذ أشد المقت.

2 ـ للذنوب باطن وظاهر، وما نعرفه من الذنب وما نمقته من الذنب هو ظاهر الذنب، أما باطن الذنب فلا يعرفه الإنسان إلاّ إذا كشف عنه الغطاء، وهو في الحياة الآخرة {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}([2])…

عندئذ يرى الإنسان باطن الذنب، وهو ما كان لا يراه في الدنيا، ويجد لباطن الذنب من البشاعة والقذارة ما كان لا يراه للذنب من قبل في الحياة الدنيا.

فيستبشع الذنب أضعاف ما كان يستبشعه في الدنيا، لما تبين له الوجه الآخر (الباطن) من الذنب.

إن (الغيبة) قبيحة، ترفضها الفطرة السليمة، ولكن ما يعرفه الإنسان من الغيبة في الدنيا غير ما يعرفه عنها في الآخرة.

إن الذي يعرفه الإنسان من الغيبة وبشاعتها في الدنيا هو ظاهر من الأمر، أما باطن الغيبة فهو أكثر بشاعة وقبحاً، إنه أكل لحم الميت، بكل بشاعته وكراهيته {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}.

وإن لمال اليتيم الذي يأكله الناس ظاهراً وباطناً. ظاهره قبيح فلا شك، ولكن باطنه أقبح وأبشع، فإن باطن أكل مال اليتيم وحقيقته هو (أكل النار) بكل بشاعته: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}([3]).

وكذلك المال الذي يأكله علماء أهل الكتاب بسبب كتمانهم لما أنزل الله من الكتاب… إنما هو في حقيقته وباطنه نار في بطونهم {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}([4]).

والكنز الذي يكنزه الناس من الذهب والفضة له باطن آخر تحدثنا به آية الكنز من سورة التوبة: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}([5]).

وقد ورد في الحديث (أن النظر عن شهوة سهم من سهام الشيطان)([6]).. وهذا هو باطن النظرة المحرّمة.

وحمل هذه المعاني على المجاز ممكن، ولكن لا مقتضي للحمل على المجاز إذا أمكن الحمل على الحقيقة. وبعض التعبيرات تأبى المجاز مثل قوله تعالى: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ}، {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ}، {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}،… وأمثال ذلك.

3 ـ إن عمل الإنسان يلتصق بالإنسان فلا يفارقه من خير أو سوء، فإذا حشر الإنسان وجد عمله معه، لا يكاد يفارقه.. فإذا كان عمله سيئاً تمنّى صاحبه أن يفر عنه ويفصله عن نفسه، فلا يستطيع {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً}([7]).

فيكون الإنسان رهن عمله، ومطوقاً به. يقول تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}([8])، فيحبسه عمله، ويطوقه، كما يطوّق الغل رقبة ومعصم المجرمين.

يقول الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) في دعاء ختم القرآن (من الصحيفة): >لصارت الأعمال قلائد في أعناقهم<، فيكون عمل الإنسان جزءاً من وجوده، فيحترق به، ويُعذب به، ويُغلّ به، ويحجبه عن رحمة الله الواسعة.. فإذا أراد أن يتخلص منها وتمنى ذلك، كما يقول تعالى:{تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً}.. لم يتمكن من ذلك.

4 ـ عندئذ يمقت الإنسان نفسه أشد المقت، وكل مقت يشق على الإنسان، ولكن أشد المقت أن يمقت الإنسان نفسه، فإن الإنسان قد يمقت شخصاً أو شيئاً فلا يطيقه، ويشمئز منه إذا رآه أو رافقه.. ولكن أشد المقت أن يمقت الإنسان نفسه.

وكل واحد منا يعاني من هذه التجربة الذاتية، بشكل أو بآخر وبدرجة من الدرجات. فإن الإنسان إذا أخطأ أو ارتكب ذنباً يشعر بالاشمئزاز من نفسه، ويمقت نفسه.. وهذا المقت أشد عليه من أي مقت آخر، لأن الإنسان إذا كان يمقت شخصاً أو شيئاً كان بإمكانه أن يتخلص منه، أما لو كان يمقت نفسه فلا سبيل له للتخلص من نفسه فهو يعيش بالإجبار مع من يمقته ويكرهه، كمن يسجن مع من يشمئز منه ويكرهه في زنزانة واحدة أمداً طويلاً من الزمان، من غير أن ينسى كراهيته له أو يخفي حقده عليه.

كذلك حال الكفار في الآخرة، فهم يمقتون أنفسهم، ولا سبيل لهم إلى التهرب من أنفسهم، لأن الذنب قد أصبح جزءاً من وجودهم، ولا سبيل لهم إلى نسيان هذا المقت، كما ينسى الناس مشاكلهم وهمومهم في هذه الدنيا، ويتهربون عنها بالنسيان، ولا سبيل إلى التخفيف من حدة المقت وقسوته، لأن بصرهم يومئذ حديد {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.

فيكون هذا المقت عليهم من أشد المقت، إلاّ مقت الله للإنسان.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ غافر: 10.
  • [2] ـ سورة ق: 22.
  • [3] ـ النساء: 10.
  • [4] ـ البقرة: 174.
  • [5] ـ التوبة: 35.
  • [6] ـ المبسوط للسرخسي 10: 148.
  • [7] ـ آل عمران: 30.
  • [8] ـ المدثر: 38.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى