ثقافة

نداء الكفار في الآخرة

{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}([1]).

النداء يشعر بالبعد، والكفار يناديهم الله تعالى والملائكة من مكان بعيد.

وإنما ينادي الله تعالى الكفار يوم القيامة لبعدهم، وهذا البعد ليس من البعد المكاني بالضرورة وإنما هو من البعد في المعرفة والنية والإخلاص. فهم لا يعرفون الله، ولا يخلصون لله، ولا يعملون لله، ولا يعبدون الله، ولا يرون آيات الله، ولا يسمعون نداء الله وهتافه {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}([2]).

{لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا}.

وهذا الصم والعمي والانغلاق على الله هو معنى بعد الإنسان عن الله في الدنيا.

فإذا جاء يوم القيامة كان بعدهم عن الله في الدنيا بعدهم عن الله في الآخرة، لذلك يأتيهم نداء الله والملائكة يوم القيامة من مكان بعيد {يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}([3]).

بعكس المؤمنين الذين يسعون في الدنيا للتقرب إلى الله، ويعرفون الله، وينفتحون على آياته وندائه وبصائره وكتابه ويعملون له، ويخلصون له أعمالهم، فهم في الدنيا قريبون من الله.

فإذا جاء يوم القيامة كان قربهم من الله في الآخرة مثل قربهم من الله في الدنيا، فكانوا في الجنة عند الله، ولا أعرف للإنسان موقعاً من الله تعالى أقرب من أن يكون عند الله، فهو أقصى درجات القرب من الله في الآخرة. تأملوا في هذه الآيات:

{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}([4]).

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}([5]).

وهؤلاء يخاطبهم الملائكة يوم القيامة: {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}([6]).

بل يسلم الله عليهم {سَلامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}([7]).

وهذه أقصى درجات القرب من الله، أن يكون العبد في الجنة عند الله، في مقعد صدق، وأن يتلقى السلام من لدن رب رحيم.

هؤلاء المؤمنون قريبون من الله في الدنيا، يجدون الله معهم في السراء والضراء.

{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}([8]).

{وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}([9]).

وقريبون من الله في الآخرة، يجدون أنفسهم عند الله في الآخرة.

ولا يكون الإنسان أقرب إلى الله من أن يكون مع الله أو يكون هو عند الله.

وأما الكفار فهم يبعدون عن الله في الدنيا، ويبعدون عن الله في الآخرة.

وليس معنى بُعد الكفار عن الله أن الله بعيد عنهم، فهو قريب إلى كل خلقه، المؤمن منهم والكافر على حد سواء، يراهم، ويسمعهم، وهو أقرب إليهم من حبل الوريد {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}([10]).

يحول بين المرء وقلبه، ولن يكون أقرب من ذلك قرب: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}([11]).

فالبعد هنا بعد الكافر عن الله، وليس بعد الله عن الكفار.. ومثل ذلك مثل البصير السميع الذي يتكلم مع أعمى أصم، فهو قريب منه يراه ويسمعه، والأصم الأعمى بعيد عنه، لا يراه ولا يسمعه، فلا يجد بداً من أن يناديه كما ينادي الآخر من مكان بعيد.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ غافر: 7 ـ 10.
  • [2] ـ البقرة: 18.
  • [3] ـ فصلت: 44.
  • [4] ـ آل عمران: 169 ـ 170.
  • [5] ـ القمر: 54 ـ 55.
  • [6] ـ النحل: 32.
  • [7] ـ يس: 58.
  • [8] ـ البقرة: 194، والتوبة: 36.
  • [9] ـ الأنفال: 66.
  • [10] ـ سورة ق: 16.
  • [11] ـ الأنفال: 24.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى