ثقافة

الملائكة – وعاء العمل ووعاء الدعاء

والملاحظة الأخرى في هذه الفقرة من الدعاء والتي قبلها في كلمة {وَمَنْ صَلَحَ}، فإن الدعاء يخص من صلح من الآباء والأزواج والذرية. والصلاح بنفسه يستنزل رحمة الله تعالى، بغض النظر عن الدعاء، فما هي الحاجة إلى الدعاء لهم بدخول الجنة؟ وهذه النقطة من رقائق معارف القرآن.

إن للرحمة الإلهية وعائين: وعاء الصلاح، ووعاء الدعاء والسؤال، وكما تنزل الرحمة على الوعاء الأول تنزل على الوعاء الثاني.

ولكن الصلاح لا يغني عن الدعاء، والدعاء لا يغني عن الصلاح..

وهذان الوعاءان متداخلان، فإن (الدعاء) إنما يستنزل الرحمة، حيث يكون المحل صالحاً لنزول رحمة الله، والموطن الخبيث ليس منزلاً لرحمة الله، ولذلك وجدنا أن الملائكة يدعون للذين تابوا واتبعوا سبيل الله دون غيرهم، ولكن (صلاح العبد) لوحده من دون سؤال ودعاء لا يكفي لاستنزال رحمة الله، فإن في صلاح العبد الكثير من التقصير والتفريط والإسراف والغفلة، ولذلك كان لابد أن يقترن الصلاح بالدعاء، حتى يكون العبد موطناً لنزول رحمة الله.

إننا عندما نعرّض أنفسنا لرحمة الله تعالى، لابد أن نحاول إعداد أنفسنا بالعمل الصالح لنكون في موضع رحمة الله، وهذا هو الوجه الأول من وجهي ابتغاء رحمة الله.

وإذا سألنا الله تعالى، فلابد أن نعرض فقرنا وفاقتنا وحاجتنا إليه تعالى فقط، وهذا هو الوجه الثاني لابتغاء رحمة الله، فإذا سألنا الله تعالى بأعمالنا الصالحة، حالت هذه الأعمال الصالحة بيننا وبين رحمة الله، وأدخلت (العجب) في نفوسنا، و(العجب) الحجاب الأكبر بين العبد وبين الله تعالى، سواء كان العجب بالعلم أو بالعمل… ومن عجب أن العلم والعمل ـ وهما طريقان إلى الله ومنزلان من منازل رحمة الله ـ يتحولان إلى حجابين غليظين يحجبان العبد عن الله.

فلابد إذن أن يُعدّ العبد نفسه للدعاء بالعلم والعمل الصالح، فإذا سأل الله حاجته سأله من موقع الفقر والفاقة فقط، وليس من موقع الاعتماد على العلم والعمل.

والسؤال الخامس: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ}.

والسيئات هنا هي عذاب النار وأهوال القيامة، وهذه الوقاية غير الوقاية التي سألها حملة العرش للمؤمنين في دعائهم الثاني {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}.

ذلك أن الوقاية الأولى في الدنيا، ولذلك قلنا: إن المقصود بها الوقاية من أسباب العذاب، وهي الذنوب والسيئات.

وأما الوقاية في الدعاء الخامس فمن عذاب جهنم مباشرة، وهو من النتائج وليس الأسباب، فإن العبد إذا قضي أجله، ولم يتقِ الله تعالى حق تقاته، ولم يتقِ الذنوب والمعاصي حق عليه حينئذٍ العذاب.. وقد انقطع من الدنيا والعمل في الدنيا.. عندئذٍ لا يبقى لملائكة الرحمة، إلاّ أن يسألوا الله أن يقيه عذاب جهنم وأهوال القيامة مع استحقاقه للعذاب.

وهذه الرحمة في نفوس حملة العرش من عند الله الرحمن الرحيم.

والله تعالى هو الذي وهبهم هذه الرحمة، وهو الذي أمرهم بالدعاء للمؤمنين، ولكن رحمة الله تجري ضمن أسباب وسنن، ضمن النظام الكوني الكبير، وهؤلاء الملائكة من أسباب رحمة الله تعالى الذين جعلهم الله الرحمن الرحيم سبباً للرحمة بعباده.

وبعد هذا الدعاء الخامس ترد كلمتان عجيبتان تستوقفان الإنسان كثيراً في موقع التأمل:

الكلمة الأولى {وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ}.

إن رحمة الله واسعة في الدنيا والآخرة، وللمؤمنين والكافرين، ولكن الرحمة التي تكفي العبد عن كل رحمة هي الوقاية من عذاب جهنم، أعاذنا الله منها، وإذا سلم الإنسان من ذلك الموقف الرهيب فلا يضره ما فاته من الرحمة في الدنيا، وإن لم يسلم الإنسان من ذلك الموقف فلا تنفعه ما تمتّع به من الرحمة في الدنيا.

والكلمة الثانية: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ومعنى ذلك أن أي فوز دون هذا الفوز ومن غير هذا الفوز فهو صغير، وليس ينبغي أن يشغل بال الإنسان وفكره، إن الإنسان إذا وعى{الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} حق الوعي ، أصبح هذا الفوز هو همه الأول، لا يشغله عنه هم آخر، وكانت سائر همومه في امتداد هذا الهم.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا وعي {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ويهبنا.

أقرأ ايضاً:

تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى