ثقافة

الملائكة – حضيض الدعاء وقمته

حضيض الدعاء وقمته

وللدعاء حضيض وقمة، ويبدأ العبد في الدعاء من الحضيض، حيث هو وذنوبه وسيئاته، وينتهي إلى القمة، حيث رحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء، ونذكر مثلاً على ذلك: الحضيض والقمة في دعاء (كميل) المعروف، والذي علّمه أميرالمؤمنين (ع) لكميل بن زياد النخعي ، أما الحضيض في هذا الدعاء فحيث يكون من حيث التقصير والإسراف، >وقد أتيتك يا إلهي بعد تقصيري وإسرافي على نفسي معتذراً، نادماً، مستغفراً، منيباً، مقراً، مذعناً، لا أجد مفراً مما كان مني<. وهذا موقع العبد والدعاء من هذا الموقع >اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء<.

وقمة الدعاء حيث رحمة الله تعالى الواسعة: >وهب لي الجدّ في خشيتك، والدوام في الاتصال بخدمتك، حتى أسرع إليك في ميادين السابقين، وأسرع إليك في البارزين، وأشتاق إليك في المشتاقين، وأدنو منك دنو المخلصين، وأخافك مخافة الموقنين<.

تفصيل الدعاء

وإليك بيان وتفصيل لدعاء الملائكة، وهي خمسة أدعية:

الدعاء الأول

وهو غفران الذنوب، فإن الذنوب تحجب رحمة الله عن الإنسان، وتعيق حركة الإنسان إلى الله، فإن حركة الإنسان إلى الله برحمة من الله، والذنوب تحجب هذه الرحمة، >واغفر لي الذنوب التي تغير النعم<.

ولكي ينطلق الإنسان إلى الله يحتاج إلى شوق وحب، فلا يمكن أن يسلك الإنسان هذا الطريق الصعب من غير شوق وحب.

ويحتاج إلى عزم وجد، فالشوق والحب وحده لا يكفي إن لم يكن معهما عزم وجدّ.

ويحتاج إلى تسديد وتوفيق من الله فليس كل من جدّ وعزم كان على الطريق، ووصل إلى الغاية إن لم يوفقه الله ويسدده.

وكل هذه الثلاثة من رحمة الله بعباده، تنزل على الناس من عند الله، والذنوب تحجب هذه الرحمة عن الإنسان. والدعاء الأول لحملة العرش المغفرة {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ}.

وإذا غفر الله ذنوب عبده، فتح عليهم الرحمة، وفتح عليهم الطريق إليه تعالى.

فتتحول المغفرة في كل مرحلة إلى باب من أبواب الرحمة فتتحول المغفرة إلى شوق وحب إلى الله، تتحول إلى عزم وجد في السلوك إلى الله، تتحول إلى توفيق وسداد وهداية من عند الله.

والمغفرة تعد الإنسان لدخول الجنة، ولذلك تأتي بعد هذا الدعاء والدعاء بالوقاية من عذاب الجحيم… الدعاء بدخول الجنة{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم}.

والسؤال الثاني

أن يقيهم عذاب الجحيم، والوقاية من عذاب الجحيم هي بالوقاية من أسباب عذاب الجحيم، والوقاية هي العصمة. فالسؤال الثاني أن يعصمهم الله من أسباب العذاب، وأسباب العذاب هي الذنوب.

فالسؤال الأول هو التجاوز والغفران عما ارتكبه العبد من الذنوب.

والسؤال الثاني أن يعصم الله عبده ويحفظه من الذنوب، وهو غير السؤال الأول.

وسؤال الوقاية والعصمة يأتي بعد السؤال عن المغفرة.

والسؤال الثالث

{وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم}، ويأتي هذا السؤال بعد سؤال المغفرة للذنوب والوقاية من الذنوب.

وهما يُعدّان الإنسان ـ كما ذكرنا ـ لدخول الجنة.

وقد وعد الله تعالى عباده الصالحين بالجنة، والله تعالى لا يخلف وعده بلا ريب. ويذكر الملائكة هذا الوعد في دعائهم: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم}.

فما هو وجه الحاجة إلى الدعاء والالتماس في أمر وَعَدَ الله تعالى به عباده، وأوجبه على نفسه، وهم يعلمون أنه لا يخلف الميعاد؟

وأوضح من ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}([1]).

ففي الدعاء نفسه إشارة إلى وعد الله تعالى{مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ} ، وإشارة إلى أن الله لا يخلف الميعاد. ومع ذلك يتضرع العبد إلى ربه تعالى بالدعاء: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا…} ، فما وجه الحاجة إلى هذا الدعاء؟ أقول: وحاجتهم إليه تعالى باستمرار، وهو أمر يحبه الله، ويقرب العبد إلى الله، وما من شيء يوصل بين العبد وبين الله مثل الدعاء، والملائكة هنا يدعون للذين تابوا واتبعوا سبيل الله: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ}.

وقد أوجب الله تعالى على نفسه قبول التوبة من التائبين، يقول تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ}([2]).

فقد جعل الله للتائبين حق قبول التوبة، ومع ذلك.. يتوجه الملائكة إلى الله بالمغفرة للتائبين، وهذا من رقائق أسرار هذا الكتاب.

ذلك إنما أوجب الله على نفسه من فضل ورحمة على العباد لم يوجبه عليه أحد بقهر وقوة وفرض، فهو تعالى يفعل ما يشاء، ولا يفعل ما يشاء غيره، وهو القاهر غير المقهور، والحاكم غير المحكوم، ولم يجب عليه باستحقاق، فلا أحد يستحق على الله شيئاً من الرحمة، إلاّ أن يوجبه الله على نفسه، فهو الغني عن عباده، وعباده هم الفقراء إليه.

فما يجب على الله تعالى ـ إذن ـ لعباده من الرحمة، فهو مما أوجبه الله على نفسه لعباده… وهو فضل من عند الله، ولا ينافي ذلك أن الله تعالى قد أوجب على نفسه هذه الرحمة لعباده، فكل عطاء الله من فضل الله، وإن كان مما أوجبه الله على نفسه.

وسؤال فضل الله من ناحية العبد جميل، كما أن إيجاب الفضل من الله تعالى على نفسه لعباده أجمل.

وإذا كان من جميل فضله ورحمته تعالى أنه أوجب على نفسه لعباده الرحمة، فمن لؤم العبد وبؤسه أن ينال هذه الرحمة من عند الله بلا سؤال ولا دعاء ولا شكر.

إذن الدعاء جميل في كل وجوه الرحمة، ما أوجبه الله على نفسه، وما لم يوجبه.

ولقد كان رسول الله (ص) حين يبكي ويتضرع ويطيل البكاء والتضرع، فيقول له أصحابه: أوَ ليس الله قد غفر لك ما تقدم ما ذنبك وما تأخر؟

فيقول (ص): >أفلا أكون عبداً شكوراً؟< ([3]).

وهذا هو الذي ذكرناه في مكافئة الجميل بالجميل.

والسؤال الرابع

تعميم الدعاء لمن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}.

والدعاء لهذه الطبقات الثلاث يأتي بالتبع للدعاء للذين تابوا واتبعوا سبيل الله.

ومن ذلك يظهر أن الطبقة الأولى الذين استحقوا هذه الرحمة من عند الله والدعاء من الملائكة هم الذين كمل إيمانهم وصلحت أعمالهم، وهم في الدرجة الأولى من مدارج رحمة الله تعالى.

والطبقات الثلاث الذين جاء ذكرهم من بعد في الدعاء {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} يقعون في الدرجة الثانية من مدارج الرحمة الإلهية.

وهؤلاء ثلاث طبقات، أصولهم من الآباء والأجداد وهم الذين سبقوهم بالصلاح والتقوى، وإن لم يكونوا كذلك لم يكونوا أصولاً لهم، وإن كانوا قد ولدوهم.

وفروعهم من الذرية الصالحة الذين يأتون من بعدهم، ويعيشون على الصلاح والتقوى، وإن لم يكونوا كذلك لم يكونوا فروعاً لهم، وإن كانوا قد ولدوهم، قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}([4]).

وقرناؤهم وهم أزواجهم الذين يعيشون معهم على الصلاح والتقوى، وإن لم يكونوا كذلك لم يكونوا قرناء له ومثلهم في القرآن مثل زوجة لوط (ع).

وهؤلاء ثلاث طبقات تنالهم رحمة الله تعالى ودعاء الملائكة بالتبع، تبعاً لانتسابهم إلى المؤمنين من الطبقة الأولى، والله تعالى كريم، إذا أكرم عبده المؤمن أكر أصوله وفروعه وأقرانه. والمؤمن مبارك، إذا حلت عليه الرحمة من عند الله فاضت منه على أصوله وفروعه وأقرانه. والمؤمن شجرة طيّبة مباركة كله في الجنة، أصوله وفروعه وثماره، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ}([5]).


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ آل عمران: 194.
  • [2] ـ النساء: 17.
  • [3] ـ بحار الأنوار 46: 57.
  • [4] ـ هود: 46.
  • [5] ـ الطور: 21.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى