ثقافة

نظرية “العصم”

إذن لا يصح ولا يجوز أن نسمح لأهوائنا أن تطغى وتتجاوز الحدود، ولا يصح أن ننساق معها، وننقاد لطلباتها ودعواتها، ولابد من عمل جاد لضبط الهوى وتحديده وتعديله، لكيلا يطغى ويتجاوز الحدود وهذا أمر لا يختلف فيه أحد من العقلاء ولكن كيف؟

وبأي منهجية في التربية يمكن ضبط الأهواء والشهوات. النظرية الرهبانية تتجه إلى كبت الهوى وكبح الشهوات والغرائز.

وهذا اتجاه معروف في هذه المدرسة، وله جذور عميقة تمتد إلى أعماق التاريخ وتتلخص هذه النظرية في عزل (الأهواء) عن (الفتن)، وتجنب متاع الحياة الدنيا، والابتعاد عنها. فإن مشكلة الإنسان مادامت تكمن في الاحتكاك، وفي العلاقة بين الهوى والفتنة، فإن سلامة الإنسان تكمن في عزل الهوى عن الفتن، وإعتزال الدنيا ومغرياتها ومثيراتها.

وتتم هذه المنهجية من خلال (إعتزال) الحياة الدنيا، ومن خلال (كبت) الغرائز وكبحها.

وهذه منهجية معروفة في تاريخ الفكر وتمتد هذه المدرسة في بعض خطوطها وإمتداداتها المعاصرة إلى الرهبانية المسيحية. والإسلام يعارض هذه المنهجية معارضة شديدة، ويرى أن (الاعتزال) و(الكبت) و(الكبح) ليس فقط لا يحل مشكلة الإنسان تجاه الأهواء والفتن، وإنما يحرف الإنسان إلى إتجاه معاكس لمسيرة سنن الله في خلق الإنسان. ولنقرأ هذه الطائفة من الآيات من سورة الأعراف:

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْم َ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[1].

وهذه الآية الكريمة تدعو أولا إلى الدخول في الدنيا، والتمتع بطيباتها، من دون إسراف.

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}.

ثم تشجب موقف أولئك الذين يحرمون ما أحل الله من طيبات الدنيا {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}.

ثم تذكر الآية أن الدنيا وما فيها من الطيبات للذين آمنوا، يشاركهم فيها غيرهم من المشركين، وأما في الآخرة فلهم هذه الطيبات خالصة دون المشركين:

{قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.

ثم تبين الآية المباركة أن الله تعالى حرم فقط الفواحش في هذه الدنيا ما ظهر منها وما بطن، وحرم الإثم والبغي والعدوان.

إذن يرفض الإسلام الدعوة إلى مقاطعة الدنيا، ويأمر بالتمتع بطيّبات الدنيا، ويشجب عمل أولئك الذين يقاطعون الدنيا، ويحرمون ما أحل الله من الطيبات.

ومن هذه الطيبات ما يفتن الله تعالى بها عباده، ومع ذلك كله لا يأمرنا الله تعالى أن نعتزلها ونتبرأ منها، وإنما يأمرنا تعالى أن نتجنب الفواحش منها فقط، وأن نحذر التجاوز لحدود الله.

سمع أميرالمؤمنين “ع” رجلا يقول: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة.

قال “ع”: أراك تتعوذ من مالك وولدك. يقول تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} ولكن قل اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن»[2].

وعن أميرالمؤمنين “ع”: <لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن من إستعاذ فليستعذ من مضلات الفتن، فإن الله سبحانه يقول: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}>[3].

إذن ما هي المنهجية التي يتبعها الإسلام في ضبط الهوى وتعديله وتحديده؟

إن الإسلام يطرح بهذا الصدد نظرية جديدة ومنهجاً تربوياً جديداً لضبط الهوى ـ وهذه النظرية هي نظرية (العصم).

إن (العصم) في سلوك الإنسان تشبه (العازل) في الفيزياء.

أرأيت كيف يمكن الإنسان أن يتعامل مع النار والكهرباء من خلال العازل، دون خطر.

كذلك الإنسان يستطيع أن يتعامل مع الفتن والمغريات والمثيرات في الحياة الدنيا من خلال العصم، دون أن يمسه أي خطر من ناحية هذه الفتن والمغريات. ومن الخطأ أن ندعو الناس إلى مقاطعة التعامل مع النار والكهرباء لأنها حارقة وصاعقة، ولكن من الضروري أن يكون التعامل مع النار والكهرباء من خلال العازل الذي يعصم الإنسان ويحفظه من خطر النار والكهرباء.

كذلك لا يصح أن ندعو الناس إلى مقاطعة (الفتن)، ومن هذه الفتن أموال الناس وأولاده، وإنما يجب على الإنسان أن يعصم نفسه في التعامل مع هذه الفتن والمثيرات والمغريات بمجموعة من العصم التي تحميه منها.

وهذه العصم إذا تكاملت في حياة الفرد والمجتمع تقوم بدور هام في تلطيف الغرائز وتعديلها وضبطها وتمكين صاحبها منها.

وهي تُملّك الإنسان وتُمكّنه من أهوائه وشهواته، كما ورد في النصوص الإسلامية.

والتعبير دقيق، فإن من الناس من تملكه أهواؤه وشهواته، ومن الناس من يملك أهواءه وشهواته. إذن لا يصح في دين الله المنع من دخول الدنيا ولكن من يدخل الدنيا يجب أن يملك هواه، ويتمكن منه، وهذا هو المقياس الفاصل بين الهوى والهدى في حياة الإنسان.

وقد روي عن الإمام الصادق “ع”: «من ملك نفسه إذا غضب، وإذا رهب، وإذا إشتهى حرم الله جسده على النار»[4].

وفي حديث آخر: «من ملك نفسه إذا رغب، وإذا رهب، وإذا إشتهى، وإذا غضب، وإذا رضي حرم الله جسده على النار»[5].

توضيح آخر لدور العصم في حياة الإنسان

ولما كانت هذه النقطة هي المحور الرئيس في هذا المقال فلابد من إعطاء توضيح أكثر لرسالة العصم ودورها في حياة الإنسان.

وفيما يلي هذا التوضيح:

إنَّ الإنسان كالحيوان تراكم من الغرائز والأهواء والشهوات، وتؤدي هذه الغرائز والأهواء دوراً أساسياً في حياة الإنسان، فهي أقوى العوامل في حركة الإنسان وسلوكه، ولولا الهوى لتعطلت حركة الإنسان وسعيه. وكذلك الأمر في الحيوان.

ويتميز الهوى عند الإنسان عن الحيوان بأن الطاقة الغريزية عند الحيوان تتحدد غالباً بالإشباع، وأما في الإنسان فلا يتوقف عند حد من الحدود إذا أطلق الإنسان العنان لهواه

وكلما إستجاب الإنسان لغرائزه وأهوائه أكثر تمادى الهوى في الطلب والإلحاح أكثر.

ولذلك فإن طبيعة سلطان الهوى على الإنسان ترشح الإنسان لحياة تشبه حياة الحيوان، أو تزيد عليه.

فإن الحيوان يمارس شهواته وغرائزه من دون رادع ولا عاصم، والقانون الوحيد الذي يحكم حياة الحيوان هو القوة، فإن الضعيف خاضع للقوى وهما خاضعان للغريزة.

والإنسان بطبيعة تركيبه الغريزي مرشح لمثل هذا النظام، لو لم تتدخل عوامل العصم في تعديل الغرائز والأهواء وتنظيم حياة الإنسان.

وهذا النظام الحاكم في عالم الحيوان هو ما يلخصه القرآن في كلمتي (الطاغوت) و(الهوى).

فإن الإنسان إذا أطلق لأهوائه العنان، تَحَكَّم (الطاغوت) في سائر الناس وأستضعفهم، ويتحكّم (الهوى) في الطاغوت.

وهذا النسيج الإجتماعي الجاهلي يشبه إلى حد كبير النسيج القائم في حياة الحيوان، إلا أن الله تعالى أعدَّ الإنسان لخلافته تعالى، وحمَّله رسالة الأمانة الإلهية. وهذه الرسالة التي أعد الله تعالى الإنسان لها تتطلب من الإنسان أن لا يسترسل مع الهوى كما يسترسل الحيوان، وإلا تشغله الطيبات من متاع الدنيا كما تشغل البهيمة.

يقول أميرالمؤمنين “ع”: فما خلقت ليشغلني (لم يخلق الله الإنسان ليشغله) أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها أو المرسلة شغلها تقمّمها، تكترش من أعلافها، وتلهو عما يراد بها»[6].

ولكي يتمكن الإنسان من أن ينهض بمسؤولية الخلافة الإلهية، أودع الله تعالى في نفس الإنسان، وفي المجتمع مجموعة من العصم، وهذه العصم تستر غرائز الإنسان، فلا يخرج الإنسان إلى ساحة الحياة كما يخرج الحيوان بغرائزه وشهواته مكشوفاً عارياً، وإنما تستره العصم{وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ}.

ومن هذه العصم ما أودعها الله تعالى في عمق النفس بصورة تكوينية، والتربية تعمقها وتركّزها أكثر في النفس، كالحياء، والعفة، والرحمة فإن هذه العصم الثلاثة تستر الغرائز بشكل واضح وتلطفها.

فالغريزة الجنسية في الحيوان والإنسان سواء، إلا أنها في الحيوان مكشوفة وعارية وفي الإنسان يكسوها الحياء والعفة، فيمنع الإنسان مما لا يمنع عنه الحيوان، ليس لعجز في الغريزة عند الإنسان، وإنما بسبب من عصمتي (الحياء) و(العفة)، فإنّهما تلطفان غريزة الجنس كثيرا، وتعدّلانها، وتحدّدانها، وتضبطانها، وتكّفان الغريزة الجنسية وتلطّفان إفرازها وعملها و(التربية)، وكذلك (الرحمة) تقوم بدور كبير في تلطيف وتعديل غريزة الغضب.

فإن الإنسان والحيوان سواء في غريزة الغضب، إلاّ أن هذه الغريزة مكشوفة وعارية في الحيوان، وتكسوها (الرحمة في الإنسان).

ومن هذه العصم ما يكتسبه الإنسان، وللتربية دور أساس في تمكين هذه العصم في حياة الإنسان، مثل الذكر، والصلاة، والصوم، والتقوى، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والذكر مطردة للشيطان، والصوم جنة من النار، والتقوى لباس يستر الإنسان، ويحفظه من لدغ الذنوب والخطايا.

{وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ}.

ومن العصم ما أودعه الله تعالى في حياة الإنسان الاجتماعية، كالجماعة المؤمنة، والحياة الزوجية، فإن الجماعة تحفظ المؤمن من الانزلاق والسقوط، والحياة الزوجية عصمة للزوجين، وهذه ثلاث طوائف من العصم في النفس (بالفطرة) وبـ (الاكتساب) وفي المجتمع.

أقرأ ايضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] ـ الأعراف: 31 ـ 33.
  • [2] ـ بحار الأنوار 93: 235.
  • [3] ـ بحار الأنوار 94: 197.
  • [4] ـ بحار الأنوار 78: 243.
  • [5] ـ بحار الأنوار 71: 358.
  • [6] ـ بحار الأنوار 40: 341.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى