ثقافة

الملائكة – دعاء حملة العرش للمؤمنين والعرش

دعاء حملة العرش للمؤمنين

{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}([1]).

فيما يلي نتحدث عن مجموعة من المواضيع المتعلقة بهذه الآيات الشريفة من سورة المؤمن وأهم هذه المواضيع.

العرش، حملة العرش، دعاء حملة العرش، العلاقة بين العمل والجزاء.

العرش

الْعَرْشَ من الحقائق الإلهية، والمواقع الحقيقية في الكون وليس موقعاً مجازياً، وهو مقام التدبير والهيمنة الإلهية.

وفي هذا المقام تجتمع أزمة الأمور كلها بيد الله تعالى، ومن هذا الموقع يأذن الله تعالى بالتسبيب والشفاعة للأسباب والشفعاء.

إذن هناك ثلاث نقاط في (العرش) تحتاج إلى بسط القول فنتحدث عنها بقدر ما يتسع له صدر هذا المقال.

1 ـ إن الْعَرْشَ من الحقائق الإلهية في الكون، وليس من المجاز في القول.

2 ـ الْعَرْشَ موقع الهيمنة والتدبير الإلهي على الكون، ومن هذا الموقع يهيمن الله على الكون، ويدبر شؤونه.

3 ـ الْعَرْشَ موقع الجمع، وفي هذا الموقع تجتمع أزمّة الأمور كلها بيد الله.

ومن هذا الموقع يأذن الله بالشفاعة، ويسبب الله الأسباب بإذنه وأمره.

وإليك بسط القول في هذه النقاط الثلاث:

النقطة الأولى

أن العرش من الحقائق الإلهية في هذا الكون، وليس هو من المجاز في التعبير، وقد خلق الله ملائكة كراماً يحملون العرش {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}([2]).

وخلق الله تعالى ملائكة يحفّون بالعرش، ويسبحون الله تعالى {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ}([3]).

وفي سورة المؤمن إشارة إلى كلتا الطائفتين من الملائكة الذين يحملون العرش والذين يحفون به: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ}([4]).

ولكن كيف تحمله الملائكة ويحفون به؟ ذلك من الغيب الذي حجب الله تعالى علمه عنا، ولكننا نعلم أن العرش ليس جسماً ولا مكاناً، وإنما هو موقع التدبير والهيمنة الربوبية على الكون، كما سنوضح ذلك فيما بعد إن شاء الله.

إذن فإن العرش، واللوح، والقلم، والصراط، والميزان، وأمثال ذلك من المفاهيم القرآنية أمور حقيقية وواقعية.

وفي هذا الموقع تجتمع أزمة الأمور بيد الله بالولاية والسلطان والملك وهذه المفاهيم ـ وهي الولاية والملك والسلطان والتدبير ـ فينا أمور اعتبارية وانتزاعية، وأما من الله تعالى فالسلطان والولاية والتدبير أمور حقيقية وواقعية.

والاستواء على العرش كناية عن التدبير الإلهي للكون، ولذلك يأتي قوله تعالى {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} بعد قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} على نحو التفسير {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ}.

وتدبير الله تعالى للكون هو العرش الإلهي الذي تجتمع عنده أزمّة الكون بيد الله تعالى وهو أمر واقعي، وليس من الوهم والاعتبار والانتزاع، كما هو فينا، كما أن سلطانه، وولايته، وملكه تعالى أمور حقيقية وواقعية بخلاف الملك والسلطان والولاية فينا فهي أمور اعتبارية وانتزاعية.

النقطة الثانية

إن العرش مقام التدبير الربوبي والهيمنة الإلهية على الكون، فإن الله تعالى خلق الكون في ست مراحل، وفي هذا الخلق الأسباب والعلل التي تدبر أمر هذا الكون كالجاذبية، والسحاب، والأمطار، والرياح، والشمس. وفي هذا الخلق الإنسان الذي هو قمة هذا الخلق والذي آتاه الله العقل والإرادة.

وفي هذا الخلق السنن الكونية والسنن الاجتماعية التي خلقها الله في الكون والمجتمع والتاريخ.

وهذه السنن والقوانين التي أجراها الله في الكون والمجتمع فاعلة ومؤثرة، وهي من حتميات الكون والتاريخ، بمعنى أن هذه الأسباب والسنن تؤدي إلى مسبباتها ونتائجها بصورة حتمية.

ولكن الله تعالى لم يكل أمر الكون والإنسان إلى هذه الأسباب والسنن (الكونية والتاريخية)، وإنما تولى تدبير أمر الكون والإنسان من موقع الهيمنة، وكم من مرة وصل الإنسان إلى طريق مسدود، في الحرب والسلم، ولكن الله تعالى سلّم، وفتح له ما أغلقه الإنسان على نفسه، فهو سبحانه يدبر أمر الكون والإنسان ويدبرهما ويهيمن عليهما.

وليس معنى ذلك أن الله تعالى يغالب الأسباب والعلل التي خلقها، فليس الأسباب والعلل التي خلقها الله أنداداً لله تنافس سلطان الله.

فهي خلق من خلق الله، ولو لم يخلقها الله لم تكن شيئاً مذكوراً، فهي تؤثر وتعقل بإذن الله وأمره. فإذا شاء الله أن يلغيها ألغاها بأسباب وعلل أخرى.

إن الله تعالى جعل السحاب سبباً لنزول الأمطار، ليس في ذلك من شك، فإذا شاء الله أن يسقي قوماً بالأمطار لم يكن ليمطر عليهم من دون سحاب، ولكن يوجه الرياح لتأتي بالسحاب.

والابتلاء من أسباب التضرع، والتضرع من أسباب التوبة والعودة إلى الله، والتوبة والعودة إلى الله تستنزلان رحمة الله، فيأتي الله تعالى بالرياح، وتأتي الرياح بالسحاب، فإذا أحب الله أن يهدي قوماً ابتلاهم ليتضرعوا فيلجأوا إليه عز شأنه، فينزل عليهم رحمته وبركاته.

{أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}([5]).

{فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}([6]).

وإذا غضب الله على قوم استدرجهم إلى النعمة والرفاه فطغوا في البلاد فأهلكهم الله.

فالله تعالى لم يكل أمر الخلق إلى الأسباب والقوانين، وإنما يتولى تدبيرها وإدارتها من موقع الهيمنة والسلطان، وهذا الموقع هو (العرش)، من دون أن يكون معنى ذلك إلغاء الأسباب والعلل في الكون.

إذن هناك مقامان: مقام الخلق ومقام التدبير، ومقام التدبير غير مقام الخلق وإلى هذين المقامين بشير القرآن بوضوح.

في المقام الأول خلق الله تعالى الكون في ست مراحل بهذا النظام وبهذه الأسباب.

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}.

وهذا هو المقام الأول، وهو مقام الخلق، ويظهر من القرآن أن خلق الكون تمّ في ست مراحل {سِتَّةِ أَيَّامٍ}.

ثم بعد ذلك يأتي المقام الثاني، وهو مقام التدبير، وهذا هو عرش الهيمنة والسلطان والإلهي، وهو تدبير الكون، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ}([7]).

وكلمة (ثم) في آية يونس تدل على أن مقام (التدبير) يأتي من بعد مقام (الخلق).

وفي سورة (الأعراف: 54) يجمع القرآن بين المقامين بوضوح ويتبين أن المقام الثاني هو الاستواء على العرش.

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}.

ولا نستبعد أن يكون (الأمر) في آية الأعراف هو موقع التدبير، فإن الله تعالى خلق في المقام الأول المجرات والنجوم والشمس والقمر، وهن مسخرات لأمره، محكومات لسلطانه، ثم تولى تدبير أمرها بالأمر والنهي (الأمر التكويني وليس التشريعي).

هذا هو تقرير القرآن لعلاقة الله تعالى بخلقه، أما الذي يتبناه اليهود فهو أمر آخر يختلف عن تقرير القرآن.

فقد ورد في بدء كتاب التكوين من العهد القديم، وهو التوراة: >أن الله خلق الدنيا في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع فأكملت السماوات والأرض وكل جندها، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل<.

والفقرة الأولى من هذا النص تتطابق مع النص القرآني الذي يقرر: أن الله خلق الكون في ست مراحل، ولكن الذين حرفوا التوراة أضافوا إلى ذلك أن الله استراح في اليوم السابع، فليس له دور في المرحلة السابعة، بعد انقضاء مراحل الخلق الست، وهي المرحلة الأخيرة المعاصرة لنا.

أما القرآن فيقول بصراحة: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}.

يعني: بعد الخلق جاءت مرحلة التدبير، ولم يكل الله تعالى أمر الناس إلى الناس، ولا الكون إلى الكون، بل يدبره ويديره من موقع الهيمنة الكاملة على الكون والإنسان.

وإلى رأي اليهود هذا يشير القرآن ويبطله، يقول تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}.

وهذا الغل الذي يشير إليه القرآن هو ما ورد في التوراة من الركون إلى الراحة في اليوم السابع، والبسط الذي يشير إليه القرآن {مَبْسُوطَتَانِ} هو الاستواء على العرش لتدبير الأمر.

وكما أن العرش مقام التدبير كذلك هو مقام العلم، ولا تدبير من غير العلم، والتدبير الشامل يتطلب العلم الشامل.

يقول تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}([8]).

النقطة الثالثة

إن العرش مقام الجمع، وعالم الملك مقام التشتيت والتفريق. عند العرش تجتمع أزمّة الأمور والأسباب والعلل والعوامل كلها بيد الله يدبرها، ويديرها، ويهيمن عليها. يقول الحكيم السبزواري: (أزمّة الأمور طرا بيده)([9]).

فهو سبحانه المهيمن على الكون، يفعل ما يشاء، يدبر الأمر يحيي ويميت، يعز ويذل، يبسط ويقبض، يعطي ويمنع، يرفع من يشاء ويضع من يشاء، وهذا هو مقام العرش.

فإذا نزلنا من العرش إلى الطبيعة يبدو لنا أن أمور الكون والطبيعة والمجتمع تتشتت بين الأسباب والعوامل والعلل، فترتفع درجة الحرارة في الصيف بسبب موقع الأرض من الشمس، وتنخفض درجة الحرارة في الشتاء بسبب موقع الأرض من الشمس، وتنزل الأمطار بالسحاب ويتكون السحاب من الأبخرة التي تتصاعد من مياه البحار ويتمرض الإنسان بالأوبئة، ويشفى بالدواء ويثرى الإنسان بالجهد والعمل، ويفقر بالبطالة والكسل، ويتعلم بالاجتهاد في طلب العلم.

وكل ذلك حق، وهو قائم في الطبيعة والكون، ويحكم به العقل، وليس في ذلك شك، ولكن إذا أضفنا إلى ذلك ما يقرره القرآن من أن هذه الأسباب، والعلل، والعوامل، والقوى كلها مسخرات لله، والله تعالى يفعل ما يشاء، يعزّ من يشاء، ويذل ويهلك ملوكاً، ويستخلف آخرين، يحيي ويميت، وكل سبب وعلة، وعامل بعمل، ويؤثر في هذا الكون فهو يفعل ويؤثر ويعمل بإذن الله وأمره، وليس في هذا الكون كله على سعته وعظمته سبب يستقل عن الله في شيء، فإذا أشرقت الشمس فبإذن الله، وإذا ارتفعت حرارة الجو في الأرض فبإذن الله، وإذا مرض الإنسان فبإذن الله، وإذا تماثل للشفاء فبإذن الله وما من شيء يعمل باستقلال عن إرادة الله.

وحتى الإنسان الذي آتاه الله الإرادة والاختيار يفعل ما يفعل بحول الله وقوته، ولو شاء الله تعالى أن يحبس عنه الحول والقوة لم يكن يصنع شيئاً وهذا هو التوحيد الأفعالي المعروف لدى الفلاسفة.

وليس معنى ذلك: أن نسلب الأمور طبائعها فنقول ليس في النار إحراق، وليس في الماء رطوبة، كما يقول الأشاعرة (أو بعضهم)،فبين هذا القول وذاك فرق شاسع.

وإنما معنى ذلك: أن العلل والأسباب لا تعمل ولا تؤثر إلاّ بحول الله وقوته، ولو أن الله تعالى لم يخلقها، لم تكن شيئاً مذكوراً، ولم يكن لها حول ولا قوة ولا تأثير ولا فعل، فهو الذي خلقها، وخلق لها هذا التأثير والفعل والقوة، ولو شاء الله أن يلغيها ويبطلها لفعل.. فالأسباب والعلل كله في قبضة سلطان الله وهيمنته، وهو خالقها وما فيها من فعل وتأثير.

إذن فكل تسبب، وتأثير، وفعل من الأسباب، والعلل لا تستقل عن إرادة الله تعالى، بل يتم كل ذلك بعلم الله وإرادة الله وحوله وقوته ولا يؤثر شيء في هذا الكون الكبير ألا يعلم الله تعالى وحوله وقوته وإذنه، وما شاء الله يكون، وما لا يشاء لا يكون.

وهكذا تتجمع أزمّة الأمور كلها بيد الله تعالى في هذا المقام، وهو مقام العرش.

وإلى ذلك يشير قوله تعالى في سورة (السجدة: 4): {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}.

فإن الشفيع واسطة فقط، فإذا أعطى فهو يعطي بأمر من تشفع لديه، وإذا قدر على شيء فهو بتمكين من أقدره على ذلك، وإذا انقطع الشفيع عمن يتشفع لديه، ويتمكن ويقدر به، فهو لا يحسن شيئاً، ولا يقدر على شيء ولا يعطي شيئاً.

وإلى ذلك تشير الآية الكريمة {مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ}.

والشفيع ليس فقط الشخص الذي يتوسط بين الواهب والموهوب، وإنما كل سبب وعلة، وفي هذا الكون يتوسط بين الله تعالى وبين سائر خلقه شفعاء، فالشمس وسيط يهب النور والدفء والحياة للأرض بإذن الله والسحاب وسيط يسقي الأرض بإذن الله وأمره… وهكذا كل الأسباب والعلل.

المال وسيط، والخبز وسيط، والصديق وسيط، والسلطان وسيط.

وكل هذه الوسائط تعمل بإذن الله وبأمره، وإذا أنعم الإنسان النظر في هذا الكون لا يجد فعلاً وتاثيراً إلاّ من عند الله، وبأمره وإذنه، ولا يجد في هذا الكون الرحب الكبير مؤثراً غير الله، ولا رازقاً غير الله، ولا معيناً غير الله.

وعندئذٍ يعرف الإنسان الله تعالى وصفات جماله وجلاله ورزقه وفضله ورحمته وجماله وحكمته في كل شيء يلقاه ولا يجد غير الله، لأن كل شيء ينتهي إلى الله وأمره بيد الله.

وهذا باب واسع من التوحيد، وهو التوحيد في الاستعانة… فإن الله تعالى إذا رزق العبد هذا الوعي لا يستعين بغير الله، ويجد الاستعانة بكل شيء من الاستعانة بالله، فإذا استعان بالطبيب والدواء، فقد استعان بالله، وإذا استعان بالمال استعان بالله، وإذا استعان بأصدقائه وأقربائه فقد استعان بالله.

ومن ذلك نعرف أن الاستعانة من مقولة التوحيد والعبادة.

ولذا ورد بصيغة الحصر في سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

والذي يشعر بالحصر هو تقديم المفعول على الفعال {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

 وحصر العبادة حصر الاستعانة في الله بمعنى توحيد الله تعالى في العبادة والاستعانة، وهما أهم بابين من أبواب التوحيد.

وإذا أمعنا النظر نجد أن التوحيد كله يرجع إلى هذين البابين.

والآن نعود إلى ما كنا بصدده في أمر العرش، فنقول: العرش مقام الجمع، وعند العرش تجتمع أزمّة الأمور كلها بيد الله، فلا شفيع، ولا ولي، ولا فعل، ولا سبب، ولا تأثير إلاّ بإذن الله.

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}.

وبهذا التصور فإن العرش قمة الهرم في كل فعل وتأثير، وقاعدة الهرم الطبيعية والملك.

وكلما نصعد إلى قمة الهرم يجتمع الهرم ويتركز، وكلما ننزل إلى قاعدة الهرم ينبسط ويتوسع، والمثال يقرب المعنى، وإن كان لا ينطبق بدقة على المورد.

تصوروا قاعدة هرم (الدولة) وقمتها، إن قاعدة هرم الدولة تتوسع لتشمل جمعاً غفيراً وشتاتاً من الموظفين الذين يتوزعون على مرافق الدولة، كل يعمل في حقله، من الشرطي الذي يحفظ الأمن، إلى محاسب البلدية، إلى معلم المدرسة، إلى المضمد والطبيب في المستشفى، إلى مسؤول الكمارك، فإذا صعدنا هرم الدولة بعض الشيء اجتمعت أمور التعليم عند مدير تعليم المحافظة واجتمعت أمور الصحة عند مدير صحة المحافظة، واجتمعت أمور الأمن والانضباط عند مدير الشرطة.

ولكننا نواجه مع ذلك مساحة واسعة من المدراء العامين وشتاتاً من الموظفين الكبار، فإذا صعدنا هرم الدولة مرة أخرى اجتمع مدراء التربية والتعليم مع وزير التربية والتعليم، واجتمع مدراء الصحة مع وزير الصحة، ومدراء الشرطة والأمن مع وزير الداخلية.

ولكننا مع ذلك نواجه شتاتاً من الوزراء كل يعمل في حقله، فإذا صعدنا قمة هرم الدولة مرة أخرى وجدنا أن القوة التنفيذية في الدولة كلها تجتمع في يد رئيس الوزراء، وهو الحاكم على أجهزة الدولة التنفيذية، يعزل، وينصب، ويمنح الصلاحيات الإدارية ويسلبها.

وهذا مثال، والمثال لتقريب الأذهان إلى المعنى فقط.

فالعرش إذن مقام الجمع والوحدة، والطبيعة والملك مقام السعة والانبساط والكثرة، والعرش قمة الوحدانية والهيمنة الإلهية التي تجتمع الأمور فيها كلها بيد الله تعالى.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ غافر: 7 ـ 10.
  • [2] ـ الحاقة: 17.
  • [3] ـ الزمر: 75.
  • [4] ـ غافر: 7.
  • [5] ـ الأعراف: 94.
  • [6] ـ الأنعام: 42.
  • [7] ـ يونس: 3.
  • [8] ـ الحديد: 4.
  • [9] ـ شرح المنظومة (قسم الفلسفة): 8.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى