ثقافة

اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم

يدخل في سلوك الإنسان مجموعتان من العوامل هما:

(الحوافز) و(الضوابط).

والحوافز: هي العوامل التي تدفع الإنسان إلى سلوك وحركة معينة.

والضوابط: هي التي تضبط الحوافز، ضمن حدود، وأُطر، وقوانين إلهية أو طبيعية أو إجتماعية، يتفق عليها الناس وتستقر عليها حياة الناس وسلوكهم وعلاقاتهم.

وهذه الضوابط هي (العصم) التي تقوم بدور كبير في ضبط أهواء الإنسان وغرائزه وشهواته، وهي موضوع هذا البحث.

وتعتبر عنصراً من العناصر الأساسية في منهج التربية الإسلامية، وفيما يلي نحاول إن شاء الله أن نلم إلمامة موجزة ومقتضبة بهذا الموضوع من خلال كتاب الله.

فنتحدث أولا عن معنى العصمة، ثم عن دور العصم في حياة الإنسان، ثم نتحدث عن جملة من مفردات العصم واحدة بعد أخرى.

ثم عن العوامل التي تهتك العصم في حياة الفرد والمجتمع.

وقبل أن ندخل في هذا البحث لابد من توضيح ثلاثة مصطلحات قرآنية لها صلة مباشرة بتوضيح معنى (العصمة في سلوك الإنسان).

وهي (الفتنة) و(الهوى) و(الابتلاء).

1ـ الفتنة

يسقط الإنسان من خلال عوامل الإثارة والإغراء والطمع كما يسقط من خلال النوائب والمصائب. والبأس والضر، وفي حياة الإنسان توجد مجموعتان من عوامل السقوط خارج النفس الإنسانية، في ساحة الحياة:

المجموعة الأُولى: هي عوامل الإثارة والإغراء.

والمجموعة الثانية: هي عوامل البأس والضر.

والآية التالية من آل عمران تعدد طائفة من عوامل الإغراء والإثارة في حياة الإنسان خارج النفس {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}[1].

وهذه طائفة من أمهات مصادر وعوامل الإثارة والإغراء في واقع حياة الإنسان وفي ساحة الحياة خارج النفس.

النساء، البنون، الذهب، والفضة، الخيل المسومة، الأنعام، الحرث.

وآية البقرة تشرح طائفة من المجموعة الثانية وهي عوامل البأس والضر:

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}[2].

وهذه طائفة من مصادر البأس والضر في ساحة الحياة، خارج النفس.

وبإمكاننا أن نسمي الطائفة الأُولى بعوامل (البسط) من قبيل المال ـ الجنس، الكرسي، والموقع الاجتماعي ـ الأولاد والبنون.

وتسمّى الطائفة الثانية بعوامل «القبض»، من قبيل الخوف، وعوامل الجوع، والمرض، والسجون، والتعذيب، والمطاردة.

وكلتا هاتين الطائفتين في الثقافة الإسلامية (فتنة). وتقعان خارج النفس; إلا أن الطائفة الأُولى (فتنة خير) والطائفة الثانية (فتنة شر).

يقول تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}[3].

وعن الطائفة الأُولى من الفتن يقول تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}.

وفي هذه الطائفة من الفتن ورد عن رسول الله “ص”: «إن في مال الرجل فتنة, وفي زوجته فتنة»[4].

وورد في صفة عيسى بن مريم “ع” عن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب “ع”: «ولم تكن له زوجة تفتنه»[5].

وعن أميرالمؤمنين× أيضاً لرجل يسمى (حرب)، كان يمشي معه، والإمام “ع” راكب:

«إرجع فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن»[6].

وفي الطائفة الثانية: (فتنة الشر) ورد عن رسول الله “ص”: «الفقير عند الغني فتنة والضعيف عند القوي فتنة»[7].

وورد عن أميرالمؤمنين “ع” في فتنة بني أمية وما أدت إليه هذه الفتنة من هلاك النفوس، والحرث، والنسل، والأذى، والعذاب للمؤمنين: «ألا إن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية»[8].

والإنسان قد يسقط في (فتنة الشر): كما قد يسقط في (فتنة الخير).

ومن الناس من يسقط في (القبض)، في البأساء والضراء، ومن الناس من يهلك ويسقط في (البسط)، في اليسر والرخاء، وفي وسط عوامل الإثارة والإغراء. وعلى عكس ما يتصور الإنسان فإن خطر عوامل البسط في اليسر والرخاء أعظم على الإنسان من خطر عوامل القبض في البأساء والضراء.

والذين يسقطون في الطائفة الأُولى من عوامل الفتنة أكثر من الذين يسقطون في الطائفة الثانية.

وقد روي عن رسول الله “ص”: «أنا لفتنة السرّاء أخوف عليكم من فتنة الضراء، إنكم إبتليتم بفتنة الضراء فصبرتم، وإن الدنيا حلوة خضرة»[9].

وكما أن (الفتنة) في بعديها من مزالق السقوط في حياة الإنسان كذلك هي سلم للصعود والإرتقاء إلى قرب الله تعالى في حياة الإنسان. وعلى هذا السلم يصعد ناس إلى الله تعالى في السرّاء والضراء, كما يسقط ناس آخرون في أحضان الشيطان من على هذا السلم في السراء والضراء.

2ـ الهوى

والهوى في مقابل الفتنة، فإن الفتنة قائمة في واقع الحياة خارج النفس، والهوى في داخل النفس.

والهوى يطلب الفتنة، وينجذب إليها. والفتنة تجذب الهوى. ومثال ذلك (الغريزة الجنسية) و(الجنس الآخر). فإن الغريزة تطلب الجنس الآخر، وتنجذب إليها، والجنس الآخر يجذبُ الهوى.

وهكذا (حبُّ المال) و(المال)، يقول تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} فإن حب المال هوى نابع من داخل النفس، والمال فتنة خارج النفس، وغريزة حبّ المال تطلب المال، والمال يجذب الغريزة. وهكذا نجد في مقابل كل فتنة خارج النفس هوى داخل النفس.

يطلب الهوى الفتنة، وتجذب الفتنة الهوى. هذا في فتنة الخير.

وفي فتنة الشر الأمر بالعكس يجزع الهوى من الفتنة، وتضغط الفتنة على الهوى، وسقوط الإنسان في فتنة الخير الاستسلام للفتنة ودعوة الهوى، وفي فتنة الشر الجزع والانهيار تجاه الفتنة.

والهوى في حياة الإنسان يعتبر من أقوى عوامل السلوك، وقد ورد في القرآن عن إمرأة العزيز: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}[10].

وقد إستخدم القرآن في هذه الآية مجموعة من أدوات التأكيد[11] لتركيز هذه الحقيقة.

ولأمر ما خلق الله تعالى الهوى بهذه الدرجة من القوة والتأثير في حياة الإنسان فإن (الهوى) من أقوى عوامل السلوك في حياة الإنسان، ولولا الهوى لم تستقر حياة الإنسان، ولم تتصل ذريته، ولم يعمر على وجه الأرض ولم يدافع عن نفسه.

إلا أن الهوى مع ذلك يعتبر أخطر المزالق والمهالك في حياة الإنسان.

وليس في حياة الإنسان خطر أعظم من خطر الهوى.

3ـ الابتلاء

وإبتلاء الإنسان في علاقة الهوى بالفتنة. فإن الهوى يطلب الفتنة. والفتنة تدعو الهوى، كما ذكرنا، وفي هذا الطلب والدعوة، وهذه الجاذبية في الفتنة للهوى، مصدر الابتلاء في حياة الإنسان. فإن الأهواء تطغي وتُلِحّ في الطلب. وهي قوية مؤثرة ونافذة.

وليس في أصل الاستجابة للهوى بأس في الحدود التي يقرها العقل والدين.

فإن الاستجابة ـ مثلا ـ للغريزة الجنسية في الحدود التي يقرها العقل والدين تحفظ الإنسانية من الاندثار.

والاستجابة لغريزة الغضب في الحدود التي يقرها العقل والدين تحفظ الإنسان من عدوان الآخرين، وتمنح الإنسان المقاومة أمام تجاوز الآخرين.

إلا أن الهوى يطغى {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}، ويتجاوز حدود العقل والدين، ويملك من القوة والتأثير ما يمكنه من إختراق هذه الحدود.

وفي ذلك إبتلاء الإنسان. فإذا قاوم الإنسان إندفاع الهوى، وتمكّن من أن يضبط أهوائه وشهواته عند حدود الله تعالى والالتزام بحلاله وحرامه، أفلح وفاز، وإذا ضعف الإنسان عن مقاومة زخم الهوى، واستسلم للهوى في طغيانه سقط وهلك {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[12].

وقد يكون إبتلاء الإنسان بفتنة الخير، كما في الابتلاء بالأموال والأزواج والبنين، وقد يكون إبتلاء الإنسان بفتنة الشر، كما في إبتلاء الإنسان بالفقر والمرض والبأساء والضراء.

{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}[13].

وفي كل من هذين الابتلائين لا يستوي حال الإنسان قبل الابتلاء وبعده، فإن الإنسان في الابتلاء إما أن يسقط أو يصعد.

والناس على سلم الابتلاء على طائفتين:

طائفة تسقط إلى الجحيم، وطائفة أخرى ترتقي إلى الجنة.

والابتلاءات في حياة الإنسان خافضة رافعة تخفض أناساً وترفع آخرين.

ومصدر الابتلاء في حياة الإنسان الاحتكاك المباشر الذي يتم بين الأهواء (من داخل النفس) والفتن القائمة في مساحة الحياة (خارج النفس).

أقرأ ايضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] ـ آل عمران: 14.
  • [2] ـ البقرة: 155 ـ 156.
  • [3] ـ الأنبياء: 35.
  • [4] ـ كنز العمال للمتقي الهندي، ح 44490.
  • [5] ـ نهج البلاغة، خطبة رقم: 160.
  • [6] ـ نهج البلاغة باب الحكم ـ الحكمة رقم: 322.
  • [7] ـ كنز العمال: ح 2563.
  • [8] ـ الغارات للثقفي 1: 6 و10.
  • [9] ـ الترغيب والترهيب 4: 184.
  • [10] ـ يوسف: 53.
  • [11] ـ الجملة إسمية: متصدرة بأن، ولام التأكيد ـ وصيغة أمّارة الدالة على المبالغة وكل ذلك من أدوات التأكيد.
  • [12] ـ النازعات: 37 ـ 41.
  • [13] ـ الأنبياء: 35.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى