ثقافة

المذهب التاريخي في القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} – الرعد: 11

فلسفة التاريخ

علم حديث بالمعنى المنهجي المطروح اليوم في الثقافة المعاصرة. ومهما قيل في الجذور التاريخية لهذا العلم، فإن هذا العلم ـ بالمنهجية المعاصرة ـ أمر جديد في ثقافة الإنسان.

هذا العلم يعنى باكتشاف القوانين الحاكمة على التاريخ، لتقنينه واكتشاف العلاقة بين حوادثه.

ولئن كان هذا العلم أمراً جديداً، في الثقافة الإنسانية، فإننا نجد أن القرآن الكريم يطرح أفكاراً، وآراءً، وقوانين محدّدة، في هذا المجال، ومن الممكن تجميع هذه الأفكار، والتصورات، والقوانين وتنظيمها واستخراج المذهب القرآني في التاريخ منها.

تمهيد

في تفسير وفهم التاريخ أمامنا ثلاثة اتجاهات علمية معاصرة نقف وقفة قصيرة عند كل واحد منها، ليتسنى لنا الانطلاق منها ـ في هذا التمهيد ـ إلى معرفة المذهب التاريخي في القرآن.

  • الاتجاه الأول:

ينفي إمكان فهم وتفسير التاريخ، على أساس قانون العليّة، وينفي وجود الحتمية العليّة في التاريخ بالقوة والوضوح اللذين نجدهما في الفيزياء والميكانيك ـ مثلا ـ من دون أن ينفي أصحاب هذا الإتجاه قانون العلية رأساً في التاريخ.

وإنما يعتقدون أن حضور (إرادة الإنسان) في ساحة الحضارة والتاريخ، بما تمتلك هذه الإرادة، من حرية القرار، والاختيار، يحدّد دور قانون العليّة، ويقلل من حجم الحتميّة والتعميم، في مساحة التاريخ.

  • الإتجاه الثاني:

يفسر أحداث التاريخ بنفس الطريقة التي يفسر بها عالم الفيزياء والميكانيك قضايا الفيزياء والميكانيك، ويعتقد أصحاب هذا الإتجاه، أن الحتمية العليّة تحكم التاريخ، كما تحكم الفيزياء، وبنفس الوضوح والقوة.

  • الإتجاه الثالث:

يعترف بحضور وحاكمية إرادة الإنسان في التاريخ، كما يعترف بحاكمية قانون العليّة في التاريخ، ويعتقد أصحاب هذا الاتجاه إننا يمكن أن نفهم التاريخ، من خلال هذين العاملين، دون أن يقلل أحدهما من قيمة الآخر… دون أن يأخذوا بنظر الإعتبار دور الرعاية الإلهية للتاريخ والإنسان.

وإليك تفصيل هذه الاتجاهات:

الإتجاه الأول

أصحاب هذا الإتجاه ينفون علاقة العليّة والسّببية في حركة التاريخ، ويعتقدون أن من غير الممكن أن يخضع الحدث التاريخي والحضاري والإجتماعي لقانون العليّة، بنفس الطريقة التي تخضع لها قضية فيزياوية أو ميكانيكية لقانون العليّة، بما في هذا القانون من الحتمية والتعميم.

ففي حقل الفيزياء، يمكننا أن نعمم نتائج كل تجربة في ظروف وأسباب مشابهة، على امتداد المكان والزمان، كما يمكننا أن نحكم بحتمية هذه النتائج في الظروف المشابهة، فحين يثبت لنا بالتجربة غليان الماء، عندما ترتفع درجة الحرارة إلى مائة درجة مئوية، عند مستوى البحر يمكننا أن نعمّم نتيجة هذه التجربة، على الحالات المشابهة الأخرى، كما يمكننا أن نحكم بحتمية هذه الحالة (الغليان) في الحالات المتشابهة.

وهذان الأصلان (الحتمية والعليّة) تابعان لقانون العليّة، في الفيزياء والميكانيك، كما في سائر العلوم المادية التجريبية.

أما في مساحة الحضارة، والمجتمع، والتاريخ… فلا يمكن أن نحكم بجريان قانون العليّة بنفس القوة والوضوح، وذلك لأن حضور العنصر الإنساني، في مساحة التاريخ، وحريّة إرادة الإنسان، وحرية إختياره وقراره يحدّد دور قانون العليّة، ويقلل من قيمته في حركة التاريخ، وبالتالي فإننا لا نستطيع أن نفهم التاريخ بصورة واضحة، بموجب قانون العليّة، كما نفهم الفيزياء مثلا، ولا يمكن أن نتنبأ بالمستقبل، ونكتشف مجاهيل التاريخ، بموجب قانون العليّة، كما نفهم ذلك في الميكانيك والفيزياء، وذلك لأن التاريخ مسرح واسع لحركة الإنسان، وحرية إرادته، وقراره وهذا ما يجعل للتاريخ صفة متميزة وخاصة.

يقول كارل د. بوبر في كتابه «The poverty of Historicism»: (إن النظرية القائلة بأننا نستطيع أن نأخذ التعميم من الفيزياء، ونستعمله في التاريخ، والحضارة، والاجتماع تؤدي إلى نفي حركة التكامل في المجتمع)[1].

ثم يقول في موضع آخر من كتابه:

(والفيزياء تستفيد من التجربة، وعن طريق التجربة يستطيع هذا العلم أن يعرف طريقة إيجاد الحالات المتشابهة من الأوضاع المتشابهة، وأوضح أن ذلك يتوقف على الفكرة التالية: في الأوضاع والظروف المتشابهة تتكون الظواهر المشابهة.

يقول أصحاب المذهب التاريخي أن هذه الطريقة لا يمكن الإستفادة منها في علم الاجتماع، وعلى فرض إمكانية تطبيق هذه القاعدة (التجربة) في دورة خاصة، فلا يمكن نقل التجربة من دورة إلى دورة أخرى)[2].

ويقول (أدوارد هالت كار) في التعليق على نظريتي توينبي واشبنكلر:

تعتمد نظرية إشبنكلر وتوينبي على أساس وحدة التاريخ والعلم (يقصد العلوم الطبيعة القائمة على التجربة والتعميم)… وهذه الوحدة بين التاريخ والعلم وحدة كاذبة، ولا أساس لها من الصحة، ولا يمكن إجراء الأحكام التي تجري في العلم (العلوم الطبيعية) على التاريخ بالشكل الدقيق… فإن الظاهرة العلمية تتكرر، كلما تكررت نفس الظروف، وذلك لأن العناصر التي تتكون منها الظاهرة العلمية (الطبيعية) عناصر فاقدة للإرادة والشعور تجاه الماضي والعناصر الأخرى… بعكس الظاهرة التاريخية، فإن العناصر التي تتكون منها هذه الظاهرة تتمتع بالشعور والإرادة، هذه العناصر تعرف نهاية الدورة من بدايتها، فلا يمكن أن تتكرر الدورة السابقة[3].

والمحصل من استقراء أطراف هذه النظرية أن القائلين بها ينفون حاكمية مبدأ العليّة، في حركة التاريخ، بالشكل التفصيلي والدقيق الذي يجري بموجبه هذا المبدأ، في حقول الفيزياء، والميكانيك، وسائر العلوم التجريبية، وينفون إمكانية التنبؤ بأحداث التاريخ والمستقبل، كما نتنبأ بأوضاع الكواكب، والنجوم، والشمس، والقمر مثلا… والسبب في ذلك هو وجود العنصر الإنساني في مجرى التاريخ، والتعقيدات التي ترافق حضور الإنسان في حركة التاريخ، مما يجعل التطبيق لقانون العليّة والتنبؤ بالأحداث المستقبلية بموجب هذا القانون عسيراً جداً[4].

الإتجاه الثاني

الإتجاه الثاني يتجه باتجاه معاكس للاتجاه الأول، ويؤمن بأن التاريخ ليس بدعاً من أمور هذا الكون، ويخضع لقانون العلية والسببية بالدقة، كما تخضع سائر الأشياء في حقل الفيزياء، ويجري فيها التعميم والحتمية، كما يجري في الفيزياء والعلوم التجريبية الأخرى.

وحركة التاريخ، في هذه النظرية، لا تزيد على الآلية التي يتحكم فيها قانون العليّة بشكل مطلق، ولا يوجد ثمة عامل آخر غير عامل الحتمية العلية، وعجلة التاريخ تتحرك كما تتحرك عجلة أي جهاز ميكانيكي، بموجب قوانين حتمية، غير أن التعميم والحتمية تجري في حقل الحياة الاجتماعية والتاريخ، وليس في حقل الميكانيك…

ونلاحظ في هذا التصور غياب العنصر الإنساني، وإرادته, وحريته، واختياره بشكل كامل، فإن الإنسان يجري ضمن هذا الجهاز الواسع بصورة آلية، دون أن يملك اختياراً لنفسه في الحركة والسكون، ودون أن يملك إرادة في تقرير مصيره.

إن الإنسان، في هذه النظرية، يتحرك ويجري بموجب قوانين حتمية، دون أن يستطيع التحكم فيها، أو يستخدم إرادته ضمنها.

ومن رواد هذه النظرية، في الغرب (مونتسكيو) مؤلف كتاب (روح القوانين) و(إشبنكلر) في كتابه الكبير[5] عن تدهور الحضارة الغربية و(توينبي) في كتابه (مطالعة في التاريخ).

يقول (إدوارد هالت كار) في كتابه المجتمع الجديد:

(هناك صلة مباشرة، وعلاقة قوية بين الماضي والحاضر، على أساس التأثير والتأثر، والفعل والإنفعال، ولا يمكن فصل الماضي عن الحاضر والمستقبل، ونحن مدينون، في هذا التصور الجديد للتاريخ، للاتجاه العلمي الجديد الذي يبحث في العلوم، عن القوانين، والأصول القابلة للتعميم)[6].

يقول: (مونتسيكو) في مقدمة كتابه (روح القوانين):

(أنا في هذا الكتاب شرحت الأصول فقط، ولاحظت مواضيع كثيرة تنطبق بصورة تلقائية على هذه الأصول… ومن هذا الانطباق القهري اكتشفتُ أن التاريخ ليس إلا مُعطيات ونتائج هذه الأصول والقوانين).

ثم يقول (أدوارد هالت كار) بعد ذلك:

(كان إشبنكلر يعتقد بأن الحضارة الإنسانية تتبع بصورة دقيقة قوانين العليّة السببية وتخضع لها… وهذه القوانين هي التي تقرر بصورة دقيقة مصير الحضارة والبشرية، والنظام الذي يتبعه إشبنكلر في استدلاله من الإستحكام والقوة بمكان لا يمكن رفضه والتشكيك فيه، في حدود المباني التي يتبعها صاحب النظرية)[7].

ومن هذا المنطلق يمكن التنبؤ بالمستقبل، وحركة التاريخ والحضارة.

والماركسية، وإن لم تكن تؤمن بقانون العلية، بالشكل الذي نؤمن به نحن في الفلسفة، لكنها تؤمن بهذا القانون، على طريقة جديدة (هي طريقة ـ الإطروحة والطباق والتركيب) إلا أنها تنتهي إلى نفس النتيجة، من إمكان التنبؤ بالمستقبل، وفهم مستقبل الحضارة، من خلال قانون التناقض والصراع الطبقي، وقد حدد (ماركس) المراحل الخمسة للتاريخ من خلال هذا التصور للتاريخ (قانون العلية بشكله الفلسفي المألوف) أو قانون (الأطروحة والطباق والتركيب) تكتسب في هذه النظرية الصفة الحتمية، وهي التي يطلق عليها عادة في هذه المدارس الفلسفية بـ (الحتمية التاريخية).

المذهب التاريخي عند دوركهايم

ومن العلماء الذين يذهبون إلى الحتمية التاريخية، في حركة التاريخ، ويؤمنون بحاكمية المجتمع الحتمية، على حياة الفرد، وعدم قدرة الفرد على الإنفلات من سلطان المجتمع، هو (آميل دوركهايم) العالم الإجتماعي الفرنسي الشهير… فهو يؤمن بأن الأمور والشؤون الاجتماعية من معطيات الحياة الاجتماعية، وليست حصيلة فكر وإرادة الأفراد، ويعتقد بأن الشؤون الاجتماعية ذات ثلاث خصال دائماً، وهي الخارجية ـ والحتمية ـ والتعميم، فهي (خارجية) لأنها تُفرض على الفرد، من خارج وجود الفرد (من المجتمع)، وهي موجودة في المجتمع قبل وجود الفرد، ويتقبل الفرد هذه المعطيات الاجتماعية ويستقبلها بتأثير المجتمع… والعادات، والأعراف، والتقاليد، والأخلاق الاجتماعية من جملة هذه الأمور.

وهي (حتمية) لأنها تفرض على الفرد فرضا، ولا يملك الفرد الخيار في قبولها ورفضها، وتطبع ضمائر، وأحاسيس ومشاعر، وعواطف، وأفكار، وتصورات الأفراد بطابعها الخاص.

وهي (عمومية) لأنها تنطبق على كل الأفراد، في الظروف والحالات المتشابهة[8].

يقول (أنتوني كيد نز) في دراسته الجديدة عن (دوركهايم):

(من الملاحظات التي أوردها الأساتذة الذين ناقشوا رسالة دوركهايم للدكتوراه أن دوركهايم يعتبر العامل الاجتماعي هو العامل الوحيد لتكامل الأخلاق…

والمجتمع عند دوركهايم جزء من الطبيعة، فلابد أن يخضع علم الإجتماع لنفس الأصول التي تخصع لها العلوم الطبيعية.

ويقول دوركهايم في رسالته للدكتوراه، عن (مونتسكيو): إذا كان «كنت» إستطاع أن يتجاوز معطيات عصره والمتقدمين عليه من العلماء… فلم يكن يتيسر بعد لمونتسكيو شيء جديد في هذا الحقل إلا القول بأن القوانين الحاكمة على المجتمع لا تختلف عن القوانين الحاكمة على القوانين الطبيعية، ولا تختلف طريقة اكتشاف القوانين الاجتماعية عن طريقة إكتشاف القوانين الطبيعية في الطبيعة…)[9].

ويبلُغ (دوركهايم) أقصى ما يمكن أن يقال، بهذا الصدد، فيقول:

إن القضايا الاجتماعية ما هي إلا «أشياء»: «Things» ولربما يكون هذا المعنى هو أكثر المفاهيم التي طرحها دوركهايم في كتابه (قواعد علم الاجتماع) إثارة للنقاش والجدل.

واعتبار القضايا الاجتماعية (أشياء) بمعنى أن تجريدها الكامل… أمر لابد منه، يعني نحن نستطيع أن نفهم القضايا الاجتماعية مستقلة عن كل فرد، ونستطيع أن نخضع المجتمع لدراسة موضوعية، فإِنّ أهم خصيصة في (الأشياء) هي أنها لا تتبع إرادة شخص، إننا إذا دفعنا الكرسي يندفع كما نريد، ومقاومة الكرسي النسبية خارجة عن حيز الإرادة، ولا تتبع إرادة شخص من الأشخاص.

وهذه الحقيقة تنطبق على القضايا الاجتماعية تماماً، إلا أنها ليست كالكرسي من القضايا المرئية والمحسوسة، فإن القضايا الاجتماعية توجد دائماً خارج الأفراد، وتضغط على الأفراد، وتقيدهم.

فإن كل إنسان يولد في مجتمع قد تحدَّد شكله ونظامه وطبيعته، من قبل ولادته، ولم يكن للفرد دور في تحديد شكل، ونظام، وطبيعة المجتمع من قبل، ومن الطبيعي أن يحدد للفرد، في هذا الحال، شكله ولونه الخاص، ولربما تمر على المجتمع قرون طويلة لا يتغير فيها شكل المجتمع، وتعيش أجيال من الناس في هذا المجتمع، وعليه فإن الفرد لا يزيد على أن يكون جزءً من كلٍّ كبير واسع الأطراف، وليس في الإمكان أن نفهم خواص الكل من خواص كل فرد من أفراده، ويحاول (دوركهايم) أن يقرب هذا المفهوم بالتمثيل بالعناصر والتركيبات الكيمياوية، فالخصائص التي يتميز بها كل من الأوكسجين والهيدروجين لا توجد في قطرة الماء التي تتركب منهما… ولقطرة الماء خصائصها التي تختلف تماماً عن خصائص العناصر التي تشكلها، وكذلك المجتمع بالنسبة إلى العناصر البشرية التي تشكلها[10]، وبهذا النحو من الفهم يفهم (دوركهايم) المجتمع والتاريخ، ويعتبر القضايا الاجتماعية بالصراحة (أشياء) خارجة عن نطاق إرادة الفرد، كما هي حالة (الأشياء) في الفيزياء، ويعتبر الفرد محكوماً بهذا النظام، وليس له من سلطان أو حاكمية على التاريخ والمجتمع.

الإنتقاص من قيمة الإنسان في الحتميّات التاريخيّة

بطبيعة الحال إنَّ النظريات الحتمية تنتقص من قيمة الإنسان، وتلغي دوره في صناعة التاريخ، فإن التاريخ والحضارة والمجتمع يتكون بموجب قوانين حتمية، تجري بمعزل عن إرادة الإنسان، ورغبته. وتتحرك كما تتحرك الأشياء ـ كما يقول دوركهايم ـ خارج دائرة إرادة الإنسان، ويتولد الإنسان، ويفتح عينيه على مجتمع أخذ صورته، وشكله، ونظامه من قبل أن يولد الإنسان، فلا يكون له ـ إذن ـ دور يُذكر، في صناعة هذا المجتمع، ويجري، ويتحرك، ويتطور بموجب قوانين حتمية، بمعزل عن إرادته، بينما نجد أن للمجتمع والتاريخ دوراً في صياغة ذهنية الإنسان، وتكوين أخلاقه، وتقاليده، وثقافته، وعقائده.

وهكذا تتطرف نظرية الحتمية التاريخية في الانتقاص من قيمة الإنسان، ودوره في صناعة التاريخ، والحضارة، والمجتمع، إلى حد إلغاء فاعلية إرادة الإنسان (الفرد) في التاريخ والمجتمع، بينما يبالغ أصحاب النظرية الأولى في تعقيد دور الفرد في المجتمع، والتاريخ، إلى حد إلغاء إمكانية التنبؤ بالمستقبل، والانتقاص من قيمة العلية في التاريخ، أو رفض الحتمية، والتعميم الجاريتين في الفيزياء والميكانيك، في حقل التاريخ والمجتمع.

الإتجاه الثالث

والاتجاه الثالث، في النظريات المادية، لا يلغي دور الإرادة، ولا قانون العلية، ويؤمن بهذا وذاك، ويُسْهِمُ العنصر الإنساني في بناء التاريخ، في الوقت الذي لا ينفي الحتمية والتعميم العليّ، وتعتقد بإزدواجية العامل المحرك للتاريخ (قانون العلية) بآليتها المعروفة، وإرادة الإنسان، و(حريته) في اتخاذ القرار…

هذه النظرية تقيم حركة التاريخ على أساسين فقط، وتنفي حضور الرعاية والمشيئة الإلهية في التاريخ، وتفهم هذه الحركة على أنها حصيلة التفاعل القائم بين إرادة الإنسان وقانون العلية، وبالتالي تكون حركة التاريخ خاضعة لإرادة الإنسان، وفي إستطاعة الإنسان أن يوجّه الحتمية العلية بالشكل الذي يريد، ويكون (الإنسان) هو العامل المهيمن في هذه الحركة… ولكن من دون حضور لـ(المشيئة الإلهية) ورعاية الله لحركة التاريخ. وقد يؤمنون بشكل أو بآخر بالله تعالى، وبأن الله تعالى هو خالق هذا الكون وما فيه من سنن وقوانين، ولكن ينفون حضور المشيئة والرعاية الإلهية، في حركة التاريخ، كعامل أساسي ورئيسي في تحرك التاريخ.

وهذا هو المنطلق اليهودي المعروف الذي يقول عنه القرآن الكريم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ}[11].

هذه هي أهم الاتجاهات المادية المعاصرة في حركة التاريخ، ونقصد بالمادية كل النظريات ذات التوجه المادي في التاريخ، سواء كان أصحابها يؤمنون بالله تعالى كاليهود أو ينفون وجود الله عزّوجلّ.

وهذه الاتجاهات كما شرحناها ثلاثة:

1ـ التشكيك في قيمة ودور قانون العلية في حركة التاريخ.

2ـ التشكيك في دور الإنسان في حركة التاريخ.

3ـ الاعتراف بدور قانون العلية ودور الإنسان معاً في حركة التاريخ، من دون الاعتراف بدور الرعاية الإلهية في حركة التاريخ، وفيما يلي نحاول أن نكتشف أصول المذهب التاريخي في القرآن الكريم.

المذهب التاريخي في القرآن

ليس القرآن الكريم كتاباً في الفلسفة يعنى بدراسة المسائل الفلسفية والتاريخية بصورة مشروحة… وإنما هو كتاب دعوة وهداية وتشريع… ولكننا نستطيع أن نستخرج من ثنايا آيات كتاب الله الأصول العامة للتفكير بشكل دقيق.

وعندما نستعرض الآيات القرآنية نجد خطوطاً واضحة تمكننا من رسم مجمل المذهب القرآني في حركة التاريخ.

إن المذهب الإسلامي في تفسير التاريخ يقيم التاريخ على ثلاثة أسس وليس أساسين فقط، ويؤمن بأن بناء التاريخ لا يمكن أن يقوم على أساسين فقط، ولا يمكن أن نفسر حركة التاريخ على أساس (قانون العلية) أو (إرادة الإنسان) فقط من دون أن نأخذ المشيئة الإلهية ورعاية الله تعالى عاملا أساسياً في حركة التاريخ بنظر الاعتبار.

وهذه الأسس هي:

  1. قانون العلية.
  2. حرية إرادة الإنسان.
  3. الرعاية الإلهية.

أقرأ ايضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] ـ الترجمة الفارسية، أحمد آرام، ص: 18.
  • [2] ـ المصدر السابق.
  • [3] ـ المجتمع الجديد ـ إدوارد هالت كار ـ ص: 11. ترجمة محسن تلاش.
  • [4] ـ ولا يعني ذلك أنهم ينكرون أصل العلية، في الحدث التاريخي، وإنما يعتقدون أن طريقة عمل قانون العلية في الحضارة والتاريخ تختلف عنها في الفيزياء والميكانيك.
  • [5] ـ ترجمه إلى العربية أحمد الشيباني.
  • [6] ـ المجتمع الجديد ـ إدوارد هالت كار ـ ص: 9ـ12. من الترجمة الفارسية محسن تلاش.
  • [7] ـ المجتمع الجديد ـ إدوارد هالت كار ـ ترجمة محسن تلاش ص: 10.
  • [8] ـ المدخل إلى التصور الإسلامي قسم المجتمع والتاريخ للشهيد المطهري ص: 329ـ 330. الأصل الفارسي.
  • [9] ـ دوركهايم: تأليف أنتوني كيدنز الترجمة الفارسية للكتاب ص: 31. ترجمة يوسف أباذري.
  • [10] ـ دوركهايم: تأليف أنتوني كيدنز الترجمة الفارسية ص: 31ـ32.
  • [11] ـ المائدة: 64. نستظهر من الآية الكريمة أنّ اليهود كانوا يقصدون بالغِلّ ما يقابل البسط وما يقابل الفاعلية والتأثير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى