ثقافة

الدعاء والتضرع في السراء والضراء

الدعاء والتضرع في السراء والضراء

ولابد من الإشارة إلى أن الجؤار وسابقتها الدعاء العريض حالتان ممدوحتان، ولكنهما وردتا من القرآن في سياق الذم.

ولنقرأ سياق كل منهما من القرآن من سورة فصلت:

{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ }[1].

{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ }[2].

وليس من شك أن السياق سياق الذم وليس من شك أن الجؤار والدعاء العريض عند الابتلاء ممدوح جيد.

يقول تعالى:

{ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ }.

والجواب: أن الذم في الآية الكريمة ليس على الجؤار والدعاء العريض، وإنما الذم على اقتصار الإنسان على الجؤار والدعاء العريض في ساعة المحنة والابتلاء فقط، فإذا كشف الله تعالى عنه الضر والمحنة عاد إلى لهوه وغفلته وانصرافه وإعراضه عن الدعاء والجؤار.

{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ }[3].

وهذا هو الذي يذمه القرآن، وأما الجؤار والدعاء العريض فهما من الإقبال على الله والذي يحبه الله تعالى ويدعو إليه.

وإنما يذم القرآن لجوء الإنسان إلى الله ساعة المحنة وإعراضه عنه تعالى ساعة اليسر والعافية، لأن فقر الإنسان إلى الله وحاجته إليه لا تنقطع أبداً، ولا تختص بفترات المحنة والشدة. يقول تعالى:

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }[4].

ولكن الإنسان لا يشعر بفقره وحاجته إلى الله في أوقات الراحة والعافية، كما يشعر بها في ساعات ضرّه ومحنته، وإذا يسّر الله تعالى أموره تراءى له أنه استغنى عن الله، هو أشد ما يكون فقراً وحاجة إلى الله.

وبتعبير القرآن في هذا الشأن:

{ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى }[5].

فهو لا يستغني عن الله في حال، ولا يفارقه فقره وحاجته إلى، وإنما يتراءى له في ساعات اليسر والعافية أنه قد استغنى عن الله { أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى } فيطغى عندئذ، ولو كان يعي فقره حاجته إلى الله لم ينفك عن التضرع إليه تعالى.

إن المسألة مسألة رؤية ووعي، فمن يرى حاجته وفقره الدائم إلى الله يتصل تضرعه وإقباله على الله، ومن لا يعي فقره إلى الله يطغى ويعرض عن الله.

وأن الحجاب الذي يحجب الناس عن فقرهم وحاجتهم إلى الله هو الأسباب التي يتوسل بها الناس إلى حاجاتهم، فإذا تقطعت بهم الأسباب شعروا بحاجتهم وفقرهم إلى الله.

ولو أن الناس كانوا يعرفون ويعون أن هذه الأسباب بيد الله، وهو خالقها، ومانحها الوجود والقوة والفاعلية، وهو قادر على أن يسلبها وأن الله تعالى مسبب الأسباب، بيده أسباب السماوات والأرض جميعاً، ولا يخرج سبب عن قبض قدرته وسلطانه لم تكن تحجبهم هذه الأسباب عن وعي فقرهم وحاجتهم إلى الله في السراء والضراء.

إن الإنسان إذا أراد أن ينتقل من منطقة إلى أخرى في بلده يملك أسباباً كثيرة وبدائل وخيارات عديدة للانتقال فلا يشعر بحاجته وفقره إلى الله.

وأما إذا حدث خلل للطائرة التي تحمله في أعماق الجو وتقطعت به الأسباب وهو على بعد شاسع عن الأرض لجأ إلى الله وتضرع إليه، لأنه لا يعرف عندئذ بديلاً عن الله ينقذه من الهلاك، ولا يعرف خياراً آخر يلتمسه للنجاة من السقوط غير الله تعالى… وهذا هو معنى الاضطرار إلى الله.

ولو أن الإنسان عرف حاجته وفقره إلى الله في كل من الحالتين، وأن حالته وهو على الأرض، في داخل بيته، لا تختلف عن حالته وهو أعماق الجو، وهو في كل منهما فقير إلى الله، مضطر إليه، ولو شاء الله لتقطعت به الأسباب جميعاً، فلو يتمكن أن ينقل خطوة واحدة من مكان إلى مكان، لكان له شأن آخر من التضرع والإقبال على الله.

إن الإنسان يصيبه الصداع الخفيف، فتتيسر له أسباب العلاج فلا يتضرع إلى الله، ولا يلتمسه الشفاء، ولا يشعر بالحاجة إليه، فإذا أصابه السرطان الذي أعيى الأطباء علاجه وتساقطت أمامه أسباب العلاج لجأ وتضرع إلى الله.

ولو علم صاحب الصداع أنه هو وصاحب السرطان سيان في الحاجة والاضطرار إلى الله، ولو شاء الله لم ينفعه علاجه، ولو شاء الله لامتدّ به الصداع حتى يسلبه كل قوته ونشاطه.. لكان له شأن آخر في معرفة الله واللجوء والتضرع إليه.

وقد ورد في الحديث القدسي في خطاب الله تعالى لموسى بن عمران (ع): (يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك، وملح عجينك)[6].

وعن رسول الله: ( ليكون لأحدكم الحاجة، فليطلبها من الله تعالى، حتى لو أنقطع شسع نعل أحد، يستعين بالله في إصلاحه ) [7].

وهو درجة عالية من الوعي والمعرفة جاء بها الأنبياء^ من عند الله إلى الناس، ليشدّوا بها الناس إلى الله في كل حالاتهم، حالة السراء وحالة الضراء، وليس فقط في حالة البأساء والضراء.

يقول تعالى: { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ }[8].

{ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }[9].

وهذه الحالة من الانقطاع عن الله في ساعات اليسر والعافية والانقطاع إلى الله في ساعات اليأس والشدة هي التي يذمها القرآن، وليس الدعاء العريض والجؤار.

تأملوا مرة أخرى هذه الآية الكريمة:

{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ }.

إن مصيبة الإنسان في علاقته بالله أنه لا يعي هذه الحقيقة التي يجلبها القرآن ويؤكدها: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ }، ولا يعرف الله إلاّ إذا مسّه الضر، فإذا عرف { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } لم ينفك عن الإحساس بالفقر والاضطرار والحاجة إلى الله في كل حالاته، ولم ينفك عن الجؤار والتضرع إلى الله في حال من الأحوال، تيسّرت له الأسباب أم تقطعت به الأسباب.

إن من أعلى مراحل الوعي والمعرفة معرفة الفقر والحاجة إلى الله، وإن من أسوأ الحجب التي تحجب الإنسان عن الله حجاب الأسباب.

فطوبى لمن رزقه الله تعالى هذه المعرفة، ومكّنه من اختراق هذا الحجاب.

نسأل الله أن يرزقنا هذا الوعي والمعرفة، ويمكننا من اختراق الحجاب، كما صنع بعباده الصالحين.

عود على بدء

هذه هي المردودات الإيجابية للابتلاء في نفوس المؤمنين: (النداء، والدعاء، والدعاء العريض، والإنابة، والجؤار إلى الله).

وتلك هي المردودات السلبية للابتلاء في النفوس المريضة: (اليأس، والكفر، والقنوط، والجزع، والإعراض عن الله).

ومن عجب فإن الابتلاء هو الابتلاء، ولا فرق بين ابتلاء وابتلاء، ولكنه في نفوس الصالحين يثمر الإنابة والتضرع، وفي النفوس المعرضة عن الله يثمر اليأس والقنوط والكفر.

إن الفرق ليس في الابتلاء، وإنما في النفوس التي ينزل عليها البلاء.

إن المطر ينزل من السماء، فيعطي في التربة الخصبة الأثمار الطبية والأوراد والزهور، ويعطي في التربة السبخة العوسج والشوك.

وليس الفرق في المطر، وإنما في التربة التي ينزل عليها المطر.


أقرأ ايضاً:

المصادر والهوامش

  • [1] ـ النحل: 53 ـ 54.
  • [2] ـ فصلت: 51.
  • [3] ـ يونس: 12.
  • [4] ـ فاطر: 15.
  • [5] ـ العلق: 6 ـ 7.
  • [6] ـ مستدرك الوسائل 5: 172 ح6 عن عدة الداعي لابن فهد.
  • [7] ـ المصدر السابق ح5 عن تفسير أبو الفتوح الرازي.
  • [8] ـ يونس: 22 ـ 23.
  • [9] ـ العنكبوت: 65.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى