ثقافة

ما هو الصدق ؟

الصدق يأتي بمعنيين:

التطابق بين القول والواقع.

والتطابق بين القول والرأي.

فإذا أخبر الإنسان على خلاف الواقع، كان كاذباً، كما لو ادعى المعرفة بالطب، ولم يكن الأمر كذلك.

وقد يكون الخبر متطابقاً مع الواقع، ولكنه لا يتطابق مع إيمان المتكلم وعقيدته ورأيه، فيكون الخبر كاذباً، رغم تطابقه مع الواقع.

يقول تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}([1]).

وللصدق أقسام:

الصدق مع الله.

الصدق مع الناس.

الصدق مع النفس.

وبالمقابل: الكذب ينقسم كذلك إلى الأقسام الثلاثة المتقدمة.

الصدق مع الله

الصدق مع الله في العهد والخطاب، والصدق في العهد هو الوفاء بما عاهد الله تعالى عليه.

يقول تعالى: {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}([2]).

وهؤلاء الذين يمدحهم الله بالصدق، هم الذين وفوا بما عاهدوا الله عليه من الإيمان بالله والعبودية والعبادة والطاعة ورفض طاعة الشيطان والطاغوت.

يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ، أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا بَلَى}([3]).

وقد تعهد الإنسان، في هذا العهد بالإيمان بالله والعبودية والطاعة ورفض طاعة الشيطان والطاغوت، وان يتخذ الشيطان عدوا.

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}([4]).

فإذا عصى الإنسان الله تعالى، وأطاع الشيطان فقد كذب في العهد الذي عاهد الله تعالى به.

وكذلك, قد يكون الصدق مع الله في الخطاب، فإذا خاطب الله تعالى في صلاته، وقال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وكان صادقاً في خطابه مع الله في توحيد العبادة وتوحيد الاستعانة صدق في خطابه لله، فإن تقديم المفعول على الفعل, في هذه الآية في العبادة والاستعانة، بمعنى توحيد العبادة والاستعانة.

ولن يكون العبد صادقاً في هذا وذاك، في هذا الخطاب إلا إذا رفض كل طاعة من دون طاعة الله، فإن كل طاعة نحو من العبادة، وعبادة الشيطان في قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} هي طاعته، ومن يطع أهواءه وشهواته وينقاد لها من دون الله فقد أتخذها آلهة تُعبد من دون الله، يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}([5]).

فمن أطاع هواه أو أطاع الشيطان أو الطاغوت من دون الله فقد عبدهم، وهو نحو من الشرك في العبودية، وهو يتنافى مع الخطاب التوحيدي في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.

وكذلك الشطر الثاني من الخطاب التوحيدي في سورة الحمد، وهو {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فإذا كان يرى أن السوق، والتجارة والأدوات التي سخّرها الله تعالى لرزق الإنسان مصدراً لرزقه… فإن ذلك نحو من أنحاء الشرك الذي يجافي التوحيد في الاستعانة.

ولا بأس على الإنسان أن يتعامل مع السوق والتجارة وسائر الأدوات التي سخّرها الله تعالى لرزقه، شريطة أن يتم هذا التعامل بذهنية أنها أدوات مسخّرات لرزق الإنسان من جانب الله، و{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}([6]).

ولا ضير على الإنسان أن يراجع الطبيب، ويأخذ الدواء، إذا كان يتعامل مع الطبيب والدواء بأن الله تعالى قد سخرهما لخدمة صحة الإنسان وسلامته وان مصدر الشفاء هو الله تعالى فقط {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}([7]).

وأمّا إذا تعامل مع الطبيب والدواء، ومع السوق والتجارة بذهنيّة أنها مصادر رزقه وسلامته، ومع القوة والسلاح بأنهما مصدر النصر فهو من الشرك في الاستعانة الذي يجافي الخطاب التوحيدي في {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} في سورة الفاتحة.

الصدق مع الناس

والنحو الآخر من الصدق: الصدق في التعامل مع الناس في العهد والخطاب، فمن يحييّ الناس بتحية الإسلام، ويعلن لهم بذلك السلام في العلاقة والتعامل والمعاشرة، والتجارة والصحبة… ثم يمارس الغش معهم في التجارة، والبخس في التعامل وسوء النية، وسوء الظن, في التعاشر والمكر والكيد، فهو كاذب بالضرورة.

أن من يعلن للناس (السلام) في لقاءه وعلاقاته لابد أن يلتزم بالسلام في السر والعلن، وفي الحضور والغياب، وفي داخل نفسه، وعلى طرف لسانه، وفي التجارة والصداقة، والتعامل والمعاشرة.

الصدق مع النفس

وهذا باب آخر من أبواب الصدق، والإنسان كما يتعامل مع الآخرين، يتعامل مع نفسه، وكما يتصف تعامله مع الآخرين بالصدق، والكذب، والخيانة، والغش، والخداع، والمكر، والاستقامة، والأمانة، والسلامة، كذلك يتصف تعامله مع نفسه بهذه الأوصاف جميعاً فهو قد يخادع نفسه {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم}([8]).

وقد يهلك نفسه {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ}([9]).

وقد يسرف على نفسه {أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ}([10]).

وقد يظلم نفسه {ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ}([11]).

وقد يضل نفسه {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ}([12]).

كذلك قد يكذب على نفسه

يقول تعالى: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ}([13]).

فقد يرتكب الإنسان ذنباً أو ظلماً فيتعرض لتوبيخ شديد من ناحية الضمير، والضمير يقسو على صاحبة في التوبيخ والتأنيب كلّما وقع صاحبه في ظلم أو عصيان.

فيحاول الإنسان أن يتخلص من تأنيب الضمير، فيعمل في تبرير ما صنعه من الظلم لنفسه، ويبررّ لنفسه ما أرتكبه من ذنب وظلم، حتى يريح نفسه من تأنيب الضمير… وهذا نحو من ممارسة الكذب مع النفس.

ولو كان يتقّبل قسوة التأنيب من ناحية الضمير، ويتحمل مرارته، ويندم، ويتوب إلى الله لكان أسلم له ولعاقبته.

إن هذا الصدق مع النفس مُُرُّ لاشك فيه، ولكن مرارة هذا الصدق خير للإنسان من الراحة المؤقتة التي يكسبها الإنسان عندما يكذب على نفسه.

فرز الصادقين عن الكاذبين في الفتن

ولا يكاد ينفرز الصادقون عن الكاذبين في أيام العافية واليسر، وفي المداخل السهلة للحياة، ولكي يتم فرز الصادقين عن الكاذبين لابد من المرور بالفتنة، والأيام الصعبة، وظروف الضراء والبأساء… ففي هذه الظروف فقط ينفرز الصادقون من الكاذبين.

إنّ مخاض الصدق مخاض صعب.

تأملوا في هذه الآيات الكريمة من أوائل سورة العنكبوت:

{الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا، وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(1).

وقد امرنا الله تعالى أن نتحرى الصادقين في هذه الفتن، ونبحث عنهم، فان معيّة الصادقين تعصم الإنسان من مضلات الفتن.

يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}(2).

عاقبة الصادقين

وإذا بخس الناس قيمة أهل الصدق، فلم يعرفوا لهم في هذه الدنيا منزلتهم وموقعهم من الله، فأن الله تعالى يرفعهم يوم القيامة {يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}(3)، ويقعدهم عنده.

ولست اعرف موقعاً لعباد الله من الله تعالى اقرب إليه عز وجل من أن يكون عنده تعالى ومواقع الصادقين عنده يوم القيامة {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}(4).

اقرأ أيضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] ـ المنافقون: 1.
  • [2] ـ الأحزاب: 23.
  • [3] ـ الفرقان: 42
  • [4] ـ يس: 60.
  • [5] ـ الجاثية: 23.
  • [6] ـ الذاريات: 58.
  • [7] ـ الشعراء: 80.
  • [8] ـ البقرة: 9.
  • [9] ـ التوبة: 42.
  • [10] ـ الزمر: 53.
  • [11] ـ هود: 101.
  • [12] ـ آل عمران: 69.
  • [13] ـ الأنعام: 24.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى