ثقافة

اختلاف الأعمال باختلاف النفوس

اختلاف الأعمال باختلاف النفوس

فاختلاف المردود النفسي لنفوس الناس تجاه النعمة والابتلاء، إذن، نابع من اختلاف نفوس الناس، وليس من اختلاف نعمة عن أخرى ولا اختلاف ابتلاء عن ابتلاء.

{ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ }.

واختلاف أواني النفوس وشاكلة الناس ليس في أصل الخلقة، ليقول القائل: أن لا شأن للإنسان في شاكلته ونفسه، فلا شأن له إذن يرد على النعمة والابتلاء من خير وشر، لأنه خارج عن إرادته وسلطانه.

إن مثل هذا التفسير يوقع الإنسان في أخطاء كثيرة.. والصحيح أن الإنسان هو الذي يصلح نفسه ويفسدها، وعمله هو أساس صلاحها وفسادها.

وليس يضر بهذا البيان أن عمل الإنسان أيضاً ناشئ من نفسه وعلى شاكلته ونيته… فإن بين نفس الإنسان وعمله علاقة تبادلية (جدلية) فهي تتأثر به وتؤثر فيه، وهذا من رقائق الفكر الإسلامي، وقد وضحناه من قبل في مواضع أخرى من هذه الدراسات.

الاختلاف بين آدم(ع) وإبليس

ونقتبس هنا من القرآن نموذجاً واحداً من نماذج النفوس، واختلاف ردود الأفعال بين السلب والإيجاب نتيجة لاختلاف النفوس.

لقد عصى اللعين إبليس أمر الله تعالى بالسجود لآدم، في حين سجدت له الملائكة جميعاً، وتمرد إبليس على أمر الله تعالى علانية.

{ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ }[1].

فلما سأله الله تعالى: لِمَ لمْ يسجد لآدم، وقد أمره بذلك؟.. لم يعتذر ولم يستغفر عما ارتكب من الظلم، وإنما أصر على موقفه ورأيه.

{ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }[2].

فعاقبه الله تعالى بالخروج والصغار والسقوط.

{ فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ }[3].

ولم يقتصر على ذلك حتى نسب إلى الله تعالى الغواية…

{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي }.

وتعهد أن ينتقم من عباد الله، فيضلهم، ويغويهم، ويقعد لهم على صراط الله المستقيم.

{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }.

فكان عقابه من الله:

أن { قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ }.

وهذا هو النموذج الأول، والنموذج الآخر أبونا آدم وأمنا حواء‘، وهو عكس النموذج الأول تماماً.

فقد ظلما نفسهما[4]، إذ أكلا من الشجرة الممنوعة، من غير شك، ولكنهما سرعان ما عادا إلى الطاعة، واعتذرا إلى الله، واستغفرا الله تعالى.

عندما سألهما الله تعالى:

{ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ }.

فعادا يستغفران الله، ويعتذران إلى الله، ويعترفان بظلمهما:

{ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[5].

فقال لهما الله، جزاءً لظلمهما:

{ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ }[6].

وشتان بين هذا الرد وذلك الرد، فقد ظلم كل منهما نفسه.

ولكن أبونا آدم (ع) عاد واعترف بالظلم، وتذلل لله، واستغفر واعتذر.

{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا }.

وأما اللعين فقد أصرّ على رأيه وموقفه واستكباره وعناده، وقال:

{ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }.

وهذا التفاوت في الرد والموقف حاصل من التفاوت بين نفسيهما.

فقد كان الغالب على نفس أبينا وأمنا‘: العبودية، والتواضع، والتذلل لله، والفقر، والحاجة إلى الله، والوعي، والمعرفة، وكان في نفس اللعين (الكبر) و(الحسد)، وهذا الاختلاف فيما بينهما كان السبب في اختلاف الرد والموقف من كل منهما، فعادا إلى الله، وتقبّل الله توبتهما، وسقط اللعين، فلعنه الله، وأخرجه مذموماً مدحوراً.

لقد كان اللعين معتداً بنفسه فسقط، وأخرجه الله من رحمته، وكان أبونا وأمنا عليهما السلام متهمين لأنفسهما، معترفين بظلمهما، فعادا واستغفرا، ومن يتهم نفسه يسلم، ومن يعتد بنفسه يسقط.

عن أميرالمؤمنين (ع):

( أن المؤمن لا يمسي ولا يصبح إلاّ ونفسه ظنون عنده ) [7].

ويقول (ع) في صفة المتقين في خطبة المتقين المعروفة:

( فهم لأنفسهم متهمون ) .

أقرأ ايضاً:

المصادر والهوامش

  • [1] ـ الأعراف: 11.
  • [2] ـ الأعراف: 12.
  • [3] ـ الأعراف: 13.
  • [4] ـ ولسنا نقول أنهما عصيا الله، فقد كان النهي إرشادياً، لئلا يخرجا من الجنة، ولم يكن النهي مولوياً، وتكفي هذه الإشارة فعلاً.
  • [5] ـ الأعراف: 23.
  • [6] ـ الأعراف: 24.
  • [7] ـ نهج البلاغة 2: 91 خطبة176.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى