ثقافة

دور الليل والنهار في حياة الإنسان ودوره فيهما

دور الليل والنهار في حياة الإنسان ودوره فيهما

{ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

النمل: 86.

الليل والنهار شطران من الحياة، وقد جعل الله لكل منهما دوراً متميزاً في حياة الإنسان، كما جعل الله تعالى للإنسان دوراً متميزاً في كل من الليل والنهار ودور الليل والنهار في حياة الإنسان يطابق دور الإنسان في الليل والنهار وبينهما معادلة وموازنة.

وفيما يأتي من هذا الحديث يأتي توضيح لذلك إن شاء الله. وسوف نتسلسل في هذا الحديث إن شاء الله ضمن مجموعة من العناوين والمحاور.

الليل والنهار آيتان من آيات الله

يقول تعالى: { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ }[1].

الليل والنهار آيتان من آيات الله يظلم الكون بظلام دامس حتى لا يكاد يرى الإنسان بدء أمام عينيه، ثم يحل محل هذا الظلام نور يملأ السماء والأرض في ساعات قليلة محدودة، ثم يحل محل النور الظلام، وفق نظام كوني رتيب ويتخالف النور والظلام صروحه الأرض وفي السماء وهاتان الحالتان تتخالفتان آيتان من آيات الله، من غير شك.

يقول تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ }[2].

غير أن اعتياد الإنسان لتخالف الليل والنهار في كل يوم يبلّد إحساس الإنسان ويسلبه رهافة الحس التي يحتاجها لتلقي هذه الظاهرة الجمالية العظيمة في الكون.. والعادة من عوامل بلادة الحس عند الإنسان. وبلادة الحس تسلب الإنسان لذة الإحساس بمشاهد الجمال في الكون، وبصيرة الوعي لجمال الخالق وجلاله. ومن رسالة القرآن في حياة الإنسان إرهاق الإحساس عند الإنسان، وإشعاره وتحسيسه بمشاهد الجمال في الخلق وصلة الجمال في الخالق.

تخالف الليل والنهار

تخالف الليل والنهار آية أخرى من آيات الله في هذه الظاهرة الكونية. ولو أن الليل والظلام كان حالة ثابتة في نصف الكرة الأرضية،والليل والنهار حالة ثابتة في النصف الآخر من الكرة الأرضية لاختل نظام الحياة على وجه الأرض، كما لو أن الحر والبرد كانا حالتين ثابتتين في أجزاء من الكرة الأرضية اختل نظام الحياة،واختلت حياة النبات والحيوان، ولكن الله تعالى جعل الحر خلفة للبرد والبرد خلفة للحر، والليل خلفة للنهار والنهار خلفة لليل لتنظيم حياة الإنسان والحيوان والنبات على وجه الأرض. وهذه آية أخرى من آيات الله في هذه الظاهرة الكونية العظيمة.

يقول تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ }[3].

{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً }[4].

(تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل)

وهذان الشطران من اليوم يدخل أحدهما على الآخر. فلا يظهر الليل بانتهاء النهار، ولا يظهر النهار بانتهاء الليل، كما نطفئ نحن المصباح الكهربائي فيظلم الجو ونشعل المصباح، فيستنير الجو، وإنما يزحف أحدهما على الآخر حتى يغلبه، ثم يزحف الآخر على الأول فيغلبه.

أرأيت غروب الشمس لا يقطع النهار مرة واحدة وإنما يزحف أحدهما على الآخر حتى يغلبه وينعكس الأمر عند الفجر، فيزحف النهار على الليل فيغلبه.. وهذا هو معنى (ولوج الليل على النهار وولوج النهار على الليل).

وينبّهنا القرآن إلى هذا المشهد الجمالي الفريد في الكون. يقول تعالى: { تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ }[5].

ومن عجب أن هذه الظاهرة الكونية في ولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل تجري في التاريخ والمجتمع، بإذن الله، فتنقلب الأمم والشعوب فتموت أمة وتولد أخرى، وينقلب العز إلى الذل والذل إلى العز، والفقر إلى الغنى والغنى إلى الفقر، والضعف إلى القوة والقوة إلى الضعف، بهذا النحو من الزحف التدريجي الهادئ في سنن الله، فتسقط حضارات وتهلك، وتقوم أخرى وتنتعش، وهكذا يداول الله تعالى الأيام بين الناس في التاريخ والمجتمع { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ }.

وسُنة الولوج التي تجري في الكون تجري في التاريخ والمجتمع على نحو سواء، وخالق الكون هو خالق التاريخ والمجتمع،وخالق الليل والنهار هو خالق الحضارات والأمم التي تتخالف في التاريخ.

وآيات آل عمران تشير إلى هذه المقارنة العجيبة بين سُنة الولوج في الكون والتاريخ، ولنقرأ هذه الآيات من بدايتها:

{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ }[6].

تماماً كما يلج الصبي على الطفولة، والشباب على الصبي والمراهقة، والكهولة وعلى الشباب والشيخوخة والهرم على الكهولة.

وهكذا ينقلب الذين استضعفوا في الأرض، فيجعلهم الله تعالى، ويرزقهم الله تعالى ميراث المستكبرين من قبلهم.

يقول تعالى: { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ }[7].

وهذا الزحف التدريجي لليل على النهار وبالعكس هو معنى تكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل.

يقول تعالى: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ }[8].

أي يدير الليل على النهار ويدير النهار على الليل يستر الليل ويخفيه بالنهار، ويستر النهار ويخفيه بالليل.

وهذا التكوير يجري في الكون بين الليل والنهار بالحق{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ… }، أي بموازين الحق، وضمن نظام كوني كامل كله حق، وليس فيه شيء من الباطل وكذلك التكوير في التاريخ في الحضارات والأمم.

اختلاف دور الليل والنهار في حياة الإنسان

كما قلنا، الليل والنهار دوران متمايزان مختلفان في حياة الإنسان.

وهذه الحقيقة الكونية تعادل حقيقة أخرى إنسانية، وهي أن للإنسان دورين مختلفين ومتميزين في كل من الليل والنهار، وأن الإنسان بحاجة إلى كل من هذين الدورين في حياته.. وقد جعل الله تعالى اختلاف الليل والنهار طبقاً لحاجة الإنسان إلى هذا الدور وذاك في الليل والنهار.

فهذه معادلة كاملة وفاها دور الليل والنهار في حياة الإنسان، ودور الإنسان في الليل والنهار.

وقد أشار القرآن إليهما معاً، وسوف نتحدث أولاً في الظرف الأول لهذه المعادلة في هذا العنوان، ثم نعقّبه بالحديث عن الطرف الآخر.

يصف القرآن دور الليل في حياة الإنسان بـ (اللباس) ويصف النهار بالإبصار. وهذان دوران مختلفان دور اللباس الستر ودور الإبصار الكشف.

الليل يستر الإنسان، والنهار يكشف الإنسان.

والإنسان في الخارج يحتاج إلى فترة للستر والاختفاء من الناس وعلاقات العمل والشارع ويحتاج إلى فترة الكشف، يحشر نفسه في الشارع ومحل عمله مع الناس وينكشف للناس.

الفترة الثانية توفر له فرصة الظهور والحركة والعمل والعلاقات الاجتماعية. وهذه هي فترة الإبصار من (اليوم)، ويحتاج إلى فترة الخلود إلى الراحة، والاستقرار والابتعاد عن الأضواء، والعودة إلى نفسه، وهذه هي فترة الستر واللباس التي تخفي الإنسان وتستره عن الآخرين.

يقول تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً }[9].

ويقول تعالى: { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }[10].

{ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً }[11].

هذان دوران دورا الليل والنهار في حياة الإنسان (الستر) و(الكشف).

دور الإنسان في النهار

والآن نبدأ بالطرف الآخر من المعادلة وهو الإنسان في الليل والنهار. ونتحدث أولاً عن دور الإنسان في النهار ثم نتحدث عن دور الإنسان في الليل.

يذكر القرآن مجموعة أدوار للإنسان في النهار هذه الأدوار هي: (الصبح) (النشور) (المعاش) (الكدح).

و(الصبح) الحركة، وكل حركة يتطلب جهداً للمقاومة، الذين يسبحون في الماء يبذلون جهداً لمقاومة الجاذبية، كما أن الذين يتحركون على الأرض يبذلون نفس الجهد في المقاومة. وحركة الإنسان في ساحة الحياة نوع من السبح، تتضمن المقاومة وتتطلب الجهد.

يقول تعالى: { إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا }[12].

و(المعاش) جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان، وضرورة من أعظم ضرورات الحياة.. ويتطلب الجهد والحركة والعمل والعلاقة، وأن يحشر الإنسان نفسه في السوق ووسط المجتمع ويتعرض لموارد الرزق.

يقول تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً }[13].

و(الكدح) الجهد الشاق. وحركة الإنسان في ساحة الجهاد تتطلب هذا الكدح. وليس هذا الكدح فقط في ابتغاء الرزق وطلب المعاش، وإنما في الكدح إلى الله تعالى وابتغاء مرضاته، وإقامة الصلاة، والقيام بمسؤوليات العبودية لله، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في الدرجة الأولى، والجهد في طلب المعاش جهد ضروري، ولكن يأتي في الدرجة الثانية.

يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ }. وليس في هذه الآية تخصيص النهار بالكدح، ولكن (الليل) في تنظيم القرآن لأدوار الإنسان في الليل والنهار، سكن، والسكن في النقطة المقابلة للكدح.

يقول تعالى: { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ }[14].

فلابد أن يكون الغالب على الليل (السكن) والغالب على النهار (الكدح)، والله أعلم بمراده وقصده.

والنهار نشور، ينتشر فيه الناس في الأرض لينهضوا بمسؤوليات خلافة الله في الأرض ويبتغوا من فضل الله.

يقول تعالى:{ وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا }[15].

ويقول تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[16].

إذن النهار حركة وسبح وكدح وانتشار في الأرض للعمل بمسؤوليات خلافة الله على وجه الأرض، وهي مسؤولية واسعة كبيرة، فيها الدعوة إلى الله.

وتعبيد الإنسان لله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقام الصلاة، وفيها ابتغاء الرزق الحلال، وإعمار الأرض.

دور الإنسان في الليل

هذا السبح الطويل والكدح والمعاناة في النهار يستنزف مقاومة الإنسان وطاقاته وقدراته، فيحتاج إلى منام وسبات وراحة حتى يستعيد طاقاته وقدراته لليوم القادم، ويحتاج إلى محطة يسكن فيها إلى الله تعالى، يذكره، ويحمده، ويسبحه، ويسجد ويقوم بين يديه، ويتهجد، ويتضرع ليتزود من محطة السكون هذه بين يدي الله، مقاومة وتقوى، وقوة، وصلاة، وإيماناً، وتصديقاً لله وإخلاصاً.

إن سعي الإنسان في النهار يستنفذ قدرات الإنسان الروحية والنفسية والعقلية والجسدية، ولو استمر النهار في حياة الإنسان نفذت قدرات الإنسان الجسدية والروحية، وفي الليل يجد الإنسان فرصة لتعويض ما يستهلكه النهار من الإنسان من قدراته ومقاومته، وتجديد ما يبلى منه في النهار.

إن الحركة في (السوق) و(الشارع) و(الساحة السياسية) و(ساحة الدعوة إلى الله) و(ساحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) و(ساحة الجهاد والحركة) استنزاف واستهلاك دائم ومستمر لطاقات الإنسان الجسدية، وللتقوى، والمقاومة، والصمود، والإيمان، والإخلاص، والثقة بالله، والتوكل على الله، المخزون في شخصية الإنسان. ولو استمر النهار في حياة الإنسان استنزفت هذه الحركة في السوق والشارع وساحة الدعوة والأمر بالمعروف والساحة السياسية كل قوى الإنسان ومقاومته وصلابته وإيمانه وإخلاصه… ولكن الله تعالى جعل التعويض في الليل ليستعيد فيه الإنسان ما فقده في النهار من قدراته ومقاومته.

ولهذا جاء التأكيد الكثير والمكرر في القرآن على قيام الليل، والتهجد فيه، والتأكيد على الدعاء والمناجاة ونافلة الليل، والتسبيح والسجود، { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ }[17].

وبالأسحار يستغفرون

يقول تعالى: { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[18].

إن الله تعالى يحب الاستغفار ويحب المستغفرين في كل وقت وفي كل حال، ولكن للاستغفار في الأسحار تأثير وخصوصية في استنزال الرحمة والمغفرة من خزائن رحمة الله ليس في غيرها.

يقول تعالى: { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ }[19].

إن هذا الوقت أكثر الأوقات هدوءاً وبعداً من ضجيج النهار. وهذا مما لا شك فيه، ولكن هناك حقيقة أخرى ندركها، ولا نستطيع أن نقدم لها تفسيراً، وهي أن للنفس الإنسانية في هذه الساعة إقبالاً على الله وانشراحاً وانفتاحاً على الدعاء والمناجاة والصلاة والسجود ليس في غيرها.

روى الصدوق في الخصال عن علي (ع)، في حديث الأربعمائة، قال: ( من كان له إلى ربه حاجة فليطلبها في ثلاث ساعات، ساعة في الجمعة، وساعة تزول الشمس… وساعة في آخر الليل عند طلوع الفجر، فإن ملكين يناديان: هل من تائب يتاب عليه؟ هل من سائل يعطى؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ هل من طالب حاجة فتقضى له؟ فأجيبوا داعي الله، واطلبوا الرزق فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس… توكلوا على الله عزّوجلّ عند ركعتي الفجر، إذا صليتموها ففيها تعطوا الرغائب ) [20].

وعن أبي عبد الله (ع) قال: ( قال رسول الله2: خير وقت دعوتم الله عزّوجلّ فيه الأسحار، وتلا هذه الآية في قول يعقوب (ع): { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ }، قال: أخرهم إلى السحر ) [21].

وعن أبي جعفر (ع)، قال: ( إن الله عزّوجلّ يحب من عباده المؤمنين كل دعاء، فعليكم الدعاء في السحر إلى طلوع الشمس، فإنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وتهب الرياح، وتقسم فيها الأرزاق، وتقضى فيها الحوائج العظام ) [22].

وفي الحديث القدسي: (كان مما ناجى الله به داود (ع): يا داود، عليك بالاستغفار في دلج الليل إلى الأسحار. يا داود، إذا جنّ الليل عليك فانظر إلى ارتفاع النجوم في السماء، وسبّحني وأكثر من ذكري حتى أذكرك. يا داود، إن المتقين لا ينامون ليلتهم إلاّ بصلاتهم، ولا يقطعون نهارهم إلاّ بذكري. يا داود، إن العارفين كحلوا أعينهم بمرود السهر، وقاموا ليلهم يطلبون مرضاتي…)[23].

تنظيم الليل والنهار في سورة المزمل

بتعبير القرآن عن نافلة الليل بـ { نَاشِئَةَ اللَّيْلِ } تعبير دقيق ومعتبر. إن نافلة الليل تبني ما يتهدم من الإنسان في النهار وتنشئ ما استهلكه النهار. وهذه الكلمة مشتقة من الإنشاء بمعنى البناء والإعداد والتحضير.

{ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا } أي: أكثر شيء وأشد شيء يوطئ الإنسان ويعده ويحضره للعودة إلى المقاومة والعمل والحركة في النهار.

{ وَأَقْوَمُ قِيلاً }: إن صلاة الليل أقوم شيء لمنطق الإنسان وأقوم منطق ونطق وخطاب للإنسان، ولا يستطيع الإنسان أن يقوّم ويحصّن منطقه في النهار بشيء أفضل من نافلة الليل.

ولقد كانت هذه الآيات من أوائل ما نزل على رسول الله2 من القرآن وفيها ينظم القرآن منهج حياة رسول الله2 ومن معه في الليل والنهار وهي آيات عجيبة، تستوقف الإنسان، وتهزّه من الأعماق ويقشعر منها جلد الإنسان، فلنقرأها ونتأمل فيها:

{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً }[24].

إن هذه الدعوة المؤكدة والشديدة إلى قيام الليل، في هذا الشطر الطويل من الليل { نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ }، والدعوة إلى ترتيل القرآن، في سكون الليل { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً }، لأمر هام وخطير { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } هذا القول الثقيل هو الخطاب الإلهي، الذي تتضرع وتخشع منه الجبال { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ }[25].

إن حمل هذا الخطاب إلى الناس والقيام بمسؤولياته الثقيلة في المجتمع يحتاج إلى إعداد وتحضير. وهذا الإعداد والتحضير لن يكون إلاّ في الليل، عندما يسكن الإنسان إلى الله في سكون الليل وظلامه وهدوئه، بالدعاء والمناجاة والاستغفار وتلاوة القرآن ونافلة الليل.

فإن نافلة الليل تعد الإنسان وتحضّره وتنشئ الإنسان لخوض الصراع في النهار وتقوّم منطقه وكلامه { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً }.. وكل هذا التحضير والإعداد في الليل، لأن { لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً }، إن هذا السبح الطويل في النهار، والحركة الكادحة والصراع المرير في النهار يستهلك جهد الإنسان ومقاومته، ولابد له من تعويض وتجديد وتزويد من عند الله، ولن يكون ذلك إلاّ في سكون الليل بين يدي الله تعالى في الصلاة والمناجاة والسجود.

تنظيم الليل والنهار في آيات عباد الرحمان

آيات { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ } من سورة الفرقان تذكر طائفة من أدوار عباد الرحمان في الليل والنهار.

ويسبق هذه الآيات قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ }[26].

وفي هذه الآية يوضح القرآن سُنة الله في تعاقب الليل والنهار وتوزيع (اليوم) إلى هذين الشطرين.

ثم بعد ذلك يأتي مباشرة توزيع الأدوار والوظائف الأساسية للإنسان على الليل والنهار.

ولنقرأ هذه الآيات: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً }[27].

وهو من أدوار الإنسان في النهار. الحركة على الأرض هوناً ومن دون كبرياء وترفع وتمييز عن الآخرين، والتغاضي عن الجاهلين، والإعراض عنهم، فإن التعرض للجاهلين، والانشغال بهم، والدخول معهم في جدال، مضيعة للعمر وإهدار للزمان، والزمان رأس مال عباد الرحمان يحرصون على ساعاته ودقائقه وآنائه ولا يفرطون في شيء منه.

{ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً }[28].

وهو من أدوار عباد الرحمان في الليل يبيتون الليل سجداً وقياماً بين يدي الله يطلبون عفوه ورحمته ومغفرته.

{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً }[29].

وهو من أدوار الليل كذلك. وليس معنى ذلك أن الإنسان لا يدعو الله تعالى في النهار أن يصرف عنه الله عذاب جهنم، ولكن الطابع الغالب للنهار الكدح والحركة، والطابع الغالب لليل الدعاء والسجود والقيام بين يدي الله.

{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }[30].

وهو من أدوار النهار: الاعتدال في الإنفاق والقبض والبسط.

{ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً }.. وهو كذلك من أدوار النهار والاحتراز عن الباطل والزور والابتعاد عن أوساطه، والإعراض عن اللغو واجتناب الدخول في اللغو، فإن اللغو محرقة ومضيعة للعمر، والمؤمن على عمره حريص.

دور الإنسان في الليل والنهار في كلام الإمام (ع)

في خطبة المتقين المعروفة بخطبة همام، يرسم الإمام علي (ع) صورة رائعة من ليل المتقين ونهارهم، وهذه الفقرات من روائع نهج البلاغة، ولست أعرف في كلام الآدميين وصفاً أروع وأجمل منه لدور الإنسان في الليل والنهار. فلنستمع إلى الإمام (ع):

( أَمَّا اللَّيْلُ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لاَِجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً. يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ. فَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أَنَّهَا نَصْبُ أَعْيُنِهِمْ. وَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ وَرُكَبِهِمْ، وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي فَكَاكَ رِقَابِهِمْ.

وَأَمَّا النَّهَارُ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ. قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهمُ الْنَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَض; وَيَقُولُ: لَقَدْ خُولِطُوا!

وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ! لاَ يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، وَلاَ يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ. فَهُمْ لاَِنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ، إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أنا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي، وَرَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسي! اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ.

فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ: أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِين، وَحَزْماً فِي لِين، وَإِيمَاناً فِي يَقِين، وَحِرْصاً فِي عِلْم، وَعِلْماً فِي حِلْم، وَقَصْداً فِي غِنىً، وَخُشُوعاً فِي عِبَادَة، وَتَجَمُّلاً فِي فَاقَة، وَصَبْراً فِي شِدَّة، وَطَلَباً فِي حَلاَل، وَنَشاطاً فِي هُدىً وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَع.

يَعْمَلُ الاَْعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى وَجَل. يُمْسِي وَهَمُّهُ الشُّكْرُ، وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ. يَبِيتُ حَذِراً وَيُصْبِحُ فَرِحاً: حَذِراً لِما حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ ) .

إن المتقين إذا جنّ عليهم الليل يحزنون بالقرآن أنفسهم، ويستثيرون بالقرآن دواء دائهم، كما يقول الإمام علي (ع):

(والحزن ـ وليس الكآبة ـ دليل سلامة القلوب وإمارة الصحوة والوعي في النفوس).

روي إن بعض الأولياء لم يضحك بصوت أربعين سنة من عمره، وكانت أمارات الحزن غالبة على ملامح وجهه، فقيل له في ذلك، فتلى عليهم هذه الآية الكريمة من سورة مريم: { وَإِن مِّنكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاًً }[31].

فقال: كيف أضحك وأنا أعلم إنني وارد إلى جهنم. وهذا أمر مؤكد ولست أعرف إنني أخرج منها.

أجل، إن الإنسان إذا كان لا يحزن فلابد له أن يحزّن نفسه.

والحزن والخوف كامنان في النفوس، كما أن الشوق كامن في النفوس، ولكن الإنسان بحاجة إلى تفعيل الحزن والخوف وتفعيل الشوق، ليستخرج ما أودع الله في نفسه من خلال الحزن والخوف والشوق. فاستمع إلى الإمام (ع) يعلمنا كيف نفعّل الحزن والخوف والشوق في نفوسنا بالقرآن، في ظلمات الليالي: ( يُحَزِّنُونَ بِهِ (بالقرآن) أنفسهم، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً… وَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ ) .

إنهم يترددون بين الركون إلى رحمة الله، إذا تلوا آيات الرحمة وبين القلق والخوف من عذاب الله، إذا تلوا آيات العذاب. وهذا الانتقال من الركون إلى الرحمة إلى القلق والخوف من العذاب، وبالعكس، يحقق التوازن الذي يريده الله تعالى في نفوس المؤمنين، ولن يتحقق هذا التوازن إلاّ في ظلمات الليل.

ويستثير المؤمنون بالقرآن دواء دائهم، ومثل القرآن مثل المرآة، يواجهها الناس. أما المبصرون من الناس فيرون في هذه المرآة نقاط الضعف وثغرات الخلل، وقبائح الصفات في أنفسهم، فيتداركونها ويعالجونها. فإن من يعرف المرض يعرف العلاج، والقرآن يكشف لهم نقاط الضعف والخلل في أنفسهم وأمّا العميان من الناس فلا يرون في القرآن نقاط الضعف والخلل في أنفسهم، ولا يهتدون سبيلاً إلى معرفة دواء دائهم. يقول أميرالمؤمنين (ع): ( يستثيرون به (بالقرآن) دواء دائهم ) .

أما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء:

أما النهار فحلم في العلاقات، وعلم ومعرفة، وبرّ وتقوى، ومخافة لا حد لها من الله، فإن حركة الإنسان في ساحة الحياة تعرض الإنسان لمخاطر ومزالق لا حد لها، ولا يحصن الإنسان من هذه المزالق إلاّ التقوى، ولا يكسب الإنسان هذه التقوى إلاّ مخافة الله.

إن للمؤمنين حركة واسعة في ساحة الحياة لتحقيق إرادة الله، والقيام بمسؤوليات خلافة الله على وجه الأرض، وفي وسط المجتمع، ولتحقيق مرضاة الله، ولا يحصّن الإنسان في هذه الحركة الواسعة إلاّ التقوى ثم يرضيهم القليل من أعمالهم، ولا يعجبهم الكثير منها.

(لا يرضون من أعمالهم بالقليل ولا يستكثرون الكثير).

(فهم لأنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون).

وهذه العلاقة بالنفس من أفضل أنواع العلاقة، أن يكون الإنسان في موضع الاتهام لنفسه، والشفقة عليها من أعمالها.

والعلامة الفارقة التي تميزهم عن غيرهم في زحمة المجتمع والحياة، قوة الدين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحرص في علم، وقصد في غنى، وطلب في حلال، ونشاط في هدى، وتحرج عن طمع.

وهذه الخصال خصال النهار، في قبال خصال الليل.

أبطال الليل والنهار

من الناس من يكون من أبطال الليل. فإذا جنّ عليه الليل هبّ من مضجعه، قائماً، راكعاً ساجداً، قانتاً، ذاكراً لله تعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[32].

فإذا حل النهار خمل وانزوى وعزل نفسه عن الناس، لئلاّ يسلبه النهار ما أكسبه الليل. أولئك أبطال الليل، يباهي بهم الله تعالى ملائكته في سجودهم وقيامهم وقنوتهم بين يديه تعالى.

ومن الناس من هو من أبطال النهار، إذا حل به النهار نشط للحركة والعمل في سبيل الله، والتزم التقوى في نشاطه وحركته، وسعى في سبيل الله إلى الأعمال الصالحة، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، وجاهد في سبيل الله، ووالى أولياء الله، وحارب أعداء الله، فإذا حلّ به الليل أخلد إلى النوم، وكأنه يطلب في الخلود إلى النوم تجديد ما فقده في النهار من الطاقة والجهد.

أولئك أبطال النهار، وحبّذا أبطال النهار.

ومن الناس من رزقه الله هذه النعمة وتلك، فكان من أبطال الليل، إذا جنّ عليه الليل، وكان من أبطال النهار إذا حل به النهار.

يأخذون من النوم حاجتهم، ولا يستسلمون له، كما يستسلم الناس للنوم، والنوم حاجة يتحكّم فيه الإنسان، إذا أخذ منه حاجته، فيقضي الليل نصفه أو ينقص منه أو يزيد عليه في تلاوة القرآن، والقيام والركوع والسجود، أما الذين يستسلمون للنوم في الليل ويطاوعونه ويخلدون إليه، فإن النوم يتحكم فيهم ويملك أمرهم.

أما أبطال الليل والنهار فيأخذون حاجتهم من النوم، ولا يخلدون إليه، ولا يستسلمون له فإذا حلّ بهم النهار نشطوا للحركة والعمل في سبيل الله ووصلوا السكون إلى ذكر الله بالليل بالكدح والحركة والسعي في النهار.

أولئك أبطال الليل وأبطال النهار، وهم صفوة الصفوة من عباد الله الصالحين.

  • سمة العبيد من الخشوع عليهم
  • لله إن ضمتهم الأسحار
  • فإذا ترجلت الضحى شهدت لهم
  • بيض القواضب إنهم أحرار[33]

ومن أبطال الليل والنهار أنصار الإمام المهدي (عج)، وقد ورد في وصف أنصار الإمام عن شباب طالقان أنهم (رهبان الليل ليوث بالنهار، يبيتون قياماً على أطرافهم، ويصبحون على خيولهم)[34]. وهو أروع شيء في صفة أنصار الإمام (عج).

فاسمع إلى هذا الوصف لأنصار الإمام (عج) برواية الشيخ المجلسي& لشباب من طالقان من أنصار الإمام (عج): ( له (لله) كنز بالطالقان، ما هو بذهب ولا فضة، وراية لم تنشر مذ طويت، ورجال كأنّ قلوبهم زبر الحديد، لا يشوبه شك في ذات الله، أشدّ من الجمر، لو حملوا على الجبال لأزالوها. لا يقصدون بلدة إلاّ خربوها،كأن على خيولهم العقبان، يتمسحون بسرج الإمام يطلبون بذلك البركة، ويحفون به، ويقونه بأنفسهم في الحروب، رجال لا ينامون الليل، لهم دوي في صلاتهم كدويّ النحل، يبيتون قياماً على أطرافهم، ويصبحون على خيولهم. رهبان بالله، ليوث بالنهار، هم أطوع من الأمة لسيدها. كالمصابيح، كأنّ في قلوبهم القناديل، وهم من خشيته مشفقون، يدعون بالشهادة ويتمنون أن يقتلوا في سبيل الله.. الخ ) [35].

ولست أدري أي طالقان هذا. فهناك طالقان في إيران، على مقربة من طهران، وهناك طالقان في أفغانستان.

ولكن الذين أعلم إن هذا الوصف الذي يصفه بهم الإمام الصادق (ع) لا يكون إلاّ من عاشق لعاشق، ومن مغرم لمغرم، فلا تكاد الكلمات أن تستوعب المعاني.. يعشقون الله، ويعشقهم الإمام، ويحبّون الله ويحبهم الإمام، هؤلاء هم نموذج من أبطال الليل والنهار.

(يبيتون قياماً على أطرافهم بالليل)، فإذا حل بهم النهار يصبحون على خيولهم.. كأنهم عقبان على الخيول، لو حملوا على الجبال لأزالوها، ولا يتأتى لهم مثل هذه الهمة والقوة والعزم لولا أنهم من أبطال الليل.

يمدهم القيام والركوع والسجود في الليل بالعزم والقوة للنهار، ولا يتأتى لأبطال الليل هذا الحول والقهر والقوة والعزم والحسم والحزم لولا أنهم من أبطال النهار، يستمدون من ليلهم لنهارهم، ومن نهارهم لليلهم.

والليل والنهار يتكاملان في حياة الإنسان، يكمل كل منهما دور الآخر في بناء الإنسان. وعروج الإنسان يتم في كل من الليل والنهار، إلاّ أن العروج الكامل للإنسان لا يتم إلاّ في مجموع الليل والنهار، فيمدّ الليل الإنسان للنهار، ويحوج النهار الإنسان لليل، وهكذا يتداول الليل والنهار الإنسان في حركة تكاملية صاعدة.

أصحاب الليل وحملة القرآن

وقد ورد في الرواية عن رسول الله2: ( أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل ) [36]. ويلفت النظر في هذه الرواية هذا التقارن بين أصحاب الليل وحملة القرآن.

ولا نحتاج إلى تأمل كثير لنعرف العلاقة بين أصحاب الليل وحملة القرآن. فلن يقوى الإنسان على حمل رسالة القرآن والقيام بها في النهار إلى الناس، إن لم يكن من أصحاب الليل. فإن القيام برسالة القرآن في النهار يتطلب من الجهد والقوة والعزم والحزم والحسم والصبر ما ينوء به الإنسان، إلاّ أن يكون من أصحاب الليل، فيمدّه الليل بما يحتاجه في النهار من عزم وحزم وقوة ليحمل رسالة القرآن إلى الناس.

الذكر والتقوى من الليل والنهار

إن الله يحب الذكر ويحب الذاكرين من عباده على كل حال، في الليل والنهار وبالعشي والإبكار { وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ }[37]. { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }[38]. ويحب الله التقوى من عباده على كل حال في الليل والنهار.

إلاّ أن الله تعالى جعل الدور الأساسي لعباده في (الليل) الذكر، والدور الأساسي في (النهار) التقوى.

وذلك أن الله تعالى جعل النهار سعياً وحركة وكدحاً في حياة الإنسان والله يحب من عباده السعي والكدح والحركة { فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ } { وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. والسعي والحركة والكدح يحوج الإنسان إلى التقوى. ومن دون التقوى ينزلق الإنسان على مسالك السعي والحركة والكدح. ومزالق الشيطان على مسالك السعي والحركة كثيرة، والتقوى تحصّن الإنسان على هذا الطريق الصعب.

وهذا هو الطابع الغالب للنهار، وفي الليل يحتاج الإنسان إلى أن يخلد إلى ذكر الله ليتزوّد بالتقوى في النهار.. وبين (الذكر) و(التقوى) علاقة متبادلة، كما بين الليل والنهار.

يقول تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ }[39].

فلولا الذكر لم يستغفروا الله ولم يتوقفوا من المعصية، ولاستدرجهم الشيطان من فاحشة إلى أخرى، ومن ظلم إلى آخر.. ولكن الذكر يمدهم بالتقوى، فيستغفر الله لهم ويقول تعالى: { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ }[40].

والصلاة ذكر.. يقول تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي }، والارتفاع عن الفحشاء والمنكر تقوى… فالصلاة إذن تمنح الإنسان التقوى، والذكر يؤدي إلى التقوى والعكس أيضاً صحيح، فإن التقوى تؤدي إلى الذكر { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }.[41] التقوى تؤدي إلى الذكر، والذكر يفتح بصيرة الإنسان، والبصيرة تحمي الإنسان من الشيطان.

إذن الذكر والتقوى يتبادلان، يؤدي كل منهما إلى الآخر، ويعد كل منهما الإنسان للآخر.

الصلاة في الليل والنهار

يبقى أن نقول: إن الله تعالى عمم الصلاة لليل والنهار فإن الصلاة تحفظ علاقة الإنسان بالله تعالى وتشدّ الإنسان إلى الله. والإنسان بحاجة إلى هذه العلاقة والانشداد ليلاً ونهاراً.

يقول تعالى: { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ }[42].

{ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ }[43].

فلا تنقطع حاجة الإنسان إلى الصلاة في ليل أو نهار، جعلنا الله تعالى من الصالحين من عباده في الليل والنهار.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الإسراء: 12.
  • [2] ـ آل عمران: 190.
  • [3] ـ القصص: 71 ـ 72.
  • [4] ـ الفرقان: 62.
  • [5] ـ آل عمران: 27.
  • [6] ـ آل عمران: 26 ـ 27.
  • [7] ـ القصص: 5 ـ 6.
  • [8] ـ الزمر: 5.
  • [9] ـ الفرقان: 47.
  • [10] ـ النمل: 86.
  • [11] ـ الأنعام: 96.
  • [12] ـ المزمل: 7.
  • [13] ـ النبأ: 10 ـ 11.
  • [14] ـ النمل: 86.
  • [15] ـ الفرقان: 47.
  • [16] ـ الجمعة: 10.
  • [17] ـ سورة ق: 40.
  • [18] ـ الذاريات: 17 ـ 18.
  • [19] ـ آل عمران: 17.
  • [20] ـ الخصال للصدوق: 616.
  • [21] ـ الكافي 2: 477 ح6.
  • [22] ـ بحار الأنوار 84: 165 ح6 عن ثواب الأعمال.
  • [23] ـ لقاء الله، الشيخ الجواد الملكي: 102.
  • [24] ـ المزمل: 1 ـ 7.
  • [25] ـ الحشر: 21.
  • [26] ـ الفرقان: 62.
  • [27] ـ الفرقان: 63.
  • [28] ـ الفرقان: 64.
  • [29] ـ الفرقان: 65
  • [30] ـ الفرقان: 67.
  • [31] ـ مريم: 71 ـ72.
  • [32] ـ السجدة: 16 ـ 7.
  • [33] ـ الأبيات من رثا الإمام الحسين× للسيد حيدر الحلي، راجع ترجمته في أعيان الشيعة6: 266.
  • [34] ـ الخيل: كلمة رمزية لمراكب القتال.
  • [35] ـ بحار الأنوار: 52: 307 ح82.
  • [36] ـ معاني الأخبار للصدوق: 178 ح1.
  • [37] ـ آل عمران: 41.
  • [38] ـ الإنسان: 25.
  • [39] ـ آل عمران: 135.
  • [40] ـ العنكبوت: 45.
  • [41] ـ الأعراف : 201.
  • [42] ـ الإسراء: 78.
  • [43] ـ هود: 114.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى