ثقافة

الكتاب الناطق

الكتاب الناطق

القرآن كتاب ناطق، وهذا الوصف من أبرز أوصاف القرآن.

يقول أميرالمؤمنين (ع) في صفة القرآن:

( فهو (القرآن) بينهم شاهد صادق، وصامت ناطق ) [1].

وهذان وصفان في صفة القرآن.

شاهد صادق، وصامت ناطق.

وإليك توضيح موجز لكل من هذين الوصفين.

الكتاب الشاهد:

ونبدأ أولاً بـ (الشاهد الصادق).

القرآن شاهد أولاً وليس بغائب من ساحتنا وحياتنا، والشهود من أقوى أنواع الحضور.

والقرآن حاضر في حياتنا، يشهد لنا وعلينا، وهو شاهد صادق.

فما معنى هذه الشهادة؟

القرآن ميزان دقيق للحق والباطل، والقرب والبعد من الله، ومقياس دقيق لتشخيص الحق والباطل، فما تطابق من حياتنا وسلوكنا ومنطقنا وعلاقاتنا مع القرآن فهو الحق، وما لم يتطابق منه مع القرآن فهو باطل، وهذا التطابق والتخالف هو شهادة القرآن للإنسان أو عليه.

فمن تخلف عن الحق شهد عليه، ومن استقام على الحق شهد له.

وإذا شهد القرآن لأحد شفع له، وإذا شهد على أحد سعى به عند الله، والله تعالى يقبل شفاعة القرآن فيمن يشفع له، ويصدّق القرآن فيمن يسعى به.

روي عن رسول الله2: ( القرآن شافع مشفّع، وماحل مصدّق ) [2].

شافع مشفّع، يقبل شفاعته، والماحل الساعي الذي يسعى بأحد عند الحاكم. والقرآن ماحل يسعى بالمتخلفين إلى الله تعالى، والله يصدّق القرآن في سعايته.

هذا عن شهود القرآن وحضوره في حياة الناس.

الكتاب الناطق:

والفقرة الأخرى في كلام الإمام علي (ع)، نطق القرآن، فإن القرآن كتاب ناطق فما هو منطق القرآن؟ وكيف ينطق القرآن؟

إن للقرآن في حياتنا خطاباً خاطبنا به، إذا أصغينا إليه، وللقرآن في حياتنا جواب، إذا سألناه.

إذن للقرآن في حياتنا خطاب وجواب لمن يحسن استنطاق القرآن يقول الإمام علي (ع): ( ذلك القرآن فاستنطقوه ) [3].

وليس كل أحد يحسن استنطاق القرآن، وقليل جداً أولئك الذين يعرفون استنطاق القرآن، ويتلقون منه الجواب والخطاب.

ومن نماذج منطق القرآن أن القرآن ينطق بعضه ببعض، يقول الإمام علي (ع) في ذلك: ( (القرآن) ينطق بعضه ببعض ) [4].

والذين يحسنون استنطاق القرآن يعرفون كيف ينطق القرآن بعضه ببعض، وكيف يكون تخصيص عمومات القرآن بالقرآن، وتقييد إطلاقات القرآن بالقرآن، وتبيين مجملات القرآن بالقرآن، وكيف يكون تأويل متشابه القرآن بمحكماته، وهو معنى هذه الكلمة العلوية الدقيقة (ينطق القرآن بعضه ببعض).

والذي يسلخون القرآن بعضه عن بعض، ويريدون أن يفهموا كل آية آية من القرآن على حدها. لا يحسنون استنطاق القرآن، ولا يحسنون وعي نطق القرآن.

وبعد هذه المقدمة، بين أيدينا ثلاثة أسئلة، تحتاج إلى إجابات واضحة:

1ـ كيف ينطق القرآن؟

2ـ ولمن ينطق القرآن؟

3ـ بماذا ينطق القرآن؟

وإليك الإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة.

كيف ينطق القرآن؟

القرآن خطاب الله تعالى إلى الناس.

وفي هذا الخطاب أمر، ونهي، وزجر، ودفع، واستنكار وتقريع وتحبيذ، وتحبيب وتشويق، ونداء، وهتاف.

وفي هذه النداءات والخطابات ترتفع الحجب بين الله تعالى وعبده حتى يتلقى الإنسان الخطاب مباشرة من لدن الله، فإذا بلغ الإنسان هذا المبلغ من المعرفة، وتلقى الخطاب القرآني من الله مباشرة، وجد أن القرآن لذّة لا تعادلها لذّة.

ورحم الله العبد الصالح العارف الذي كان يقول: كنت أقرأ القرآن فلا أجد فيه لذة كبيرة فاكتفي بالثواب، فحاولت أن أقرأ القرآن كأني أسمعه من بين شفتي رسول الله2 فوجدت في تلاوة القرآن لذّة عظيمة، ثم حاولت أن أقرأ القرآن وكأني أتلقاه من ملك الوحي مباشرة، فوجدت في قراءة القرآن من اللذة ما لا يوصف، ثم قرأت القرآن وكأني أتلقاه مباشرة من عند الله، فوجدت في تلاوة كتاب الله من اللذة ما لا أرتوي منه، ولا أطيق مفارقته مهما تلوت منه.

فإذا تمرّس الإنسان في تلقي الخطاب القرآني من الله مباشرة، يجد في تكريم الله تعالى له ما لا يطيق شكره، وأنّى يطيق العبد أن يشكر الله تعالى على هذا التكريم، وقد خصّه بالخطاب دون سائر خلقه.

تأمّلوا جمال هذا التخصيص الإلهي للمؤمنين بالخطاب المباشر في هذه الآيات:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }[5].

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ }[6].

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ }[7].

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ }[8].

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء }[9].

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ }[10].

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ }[11].

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ }[12].

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }[13].

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ }[14].

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }[15].

إن للقرآن إلى الذين آمنوا خاصة، وإلى الناس عامة خطابات شتى، فيها أمر، ونهي، وزجر، وتحبيب، وتشويق، وترغيب، وترهيب.

يقول أميرالمؤمنين علي (ع) عن الخطاب الإلهي:

( آمر زاجر، وصامت ناطق، حجة الله على خلقه، أخذ عليهم ميثاقه ) [16]، وفي هذا الخطاب يجد الإنسان لذّة لا تفوقها لذّة وبصائرة وبينات، لا يجدها في غير القرآن.

هذا عن الخطاب القرآني، ولكن للقرآن إلى جانب الخطاب جواب لمن يحسن استنطاق القرآن.

وسوف نتحدث عن جواب القرآن في الفصل الثالث من هذا المقال ـ عند الحديث عن منطق القرآن ـ (بماذا ينطق القرآن).

لمن ينطق القرآن؟

والآن ننتقل في الجزء الثاني من هذا الحديث، لمن ينطق القرآن وللجواب على هذا السؤال إجمال وتفصيل.

أما الإجمال: فإن القرآن لمن يفتح قلبه عليه، أما من ينغلق على القرآن فلا ينطق له القرآن.

وأمّا التفصيل: فلله تعالى في حياتنا كتابان ناطقان هما كتاب التكوين (الكون) وكتاب التدوين (القرآن).

وهما كتابان، وناطقان.

فهما كتابان؛ لأنّنا نقرأ في كل منهما آيات جلال الله وجماله وصفاته الحسنى وهما ناطقان لأنهما ينطقان بآيات الله وجلاله وجماله.

كتاب التكوين

ولنتأمل في كتاب التكوين أولاً.

إنه كتاب وناطق، يقول تعالى: { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }[17]، إنّ كل شيء في هذا الكون ناطق بتسبيح الله، ما في ذلك شك، ولكن لا يفقه هذا التسبيح إلاّ قلة من أصحاب البصائر. أمّا عامة الناس فلا يكادون يفقهون حمداً وتسبيحاً لهذا الكون.

إنما يفقه الذين ينظرون في آيات الله وعجائب خلقه، ويتدبرون في خلق الله وآياته.. ويقرأون في جمال الكون وعظمته جمال الخالق وجلاله وعظمته.. أولئك الذين يعرفون كيف يستنطقون الجبال والبحار، والغابات والسحاب والرياح والأجرام الكونية القريبة والبعيدة والمجرّات، ولأولئك ينطق هذا الكون بجلال الله الخالق وعظمته وجماله ورحمته.

وما أجمل كلمة سعدي ـ الشاعر الفارسي ـ حيث يقول:

(أوراق الأشجار الخضراء عند أصحاب البصائر. أسفار في المعرفة. كل ورقة منها كتاب في معرفة الله).

إنّ لهذا الكون خطاباً لمن يعي خطاب هذا الكون، وأن الكون ناطق بجمال الله وجلاله وحكمته وتدبيره لمن يحسن قراءة آيات الله وصفاته الحسنى على صفحات الكون.

يقول أميرالمؤمنين (ع): ( والكون ناطق بتدبير الله وحكمته، يحمد الله بجميل الصنع، وينزهه عن العجز ) .

أجل، إنّ الكون يحمد، وينزّه، ويسبح الله، ولكن الناس لا يفقهون هذا الحمد والتنزيه والتسبيح.

ويقول أميرالمؤمنين (ع): ( فصار كل ما خلق حجة له ودليلاً عليه، وإن كان خلقاً صامتاً فحجته بالتدبير ناطقة، ودلالته على المبدع قائمة ) .

إن هذا الخلق الصامت ناطق بالحجة على تدبير الخالق، وبالدلالة على إبداعه وحكمته، فأي نطق أبلغ من هذا الخطاب؟

وعن هذا الخطاب والمنطق يقول أميرالمؤمنين (ع):

( وأرانا ملكوت قدرته، وعجائب ما نطقت به آثار حكمته ) .

وفي موضع آخر يقول (ع): ( وأشهد أن من ساواك بشيء من خلقك، فقد عدل بك، والعادل بك كافر بما تنزلت به محكمات آياتك ونطقت عنه شواهد حجج بيناتك ) [18].

الخرائب والآثار:

إن للآثار والخرائب قيمة ثقافية ووعظية وتذكيرية كبيرة، شريطة أن لا تجرّد هذه الآثار مما تحمله من الخطاب، فإذا جرّدناها عن خطابها فلا احترام لهذا العلم، ولا كرامة.

إن لهذه الخرائب خطاباً إلى أصحاب المال والسلطان والجاه، ألا يغتروا بهذه الدنيا وإقبالها وزينتها ومتاعها.

فما أسرع ما يدركهم الأجل الذي لابد منه، ويفتك بهم كما فتك بأصحاب المال والجاه والسلطان من قبل. وما أكثر ما ترك أصحاب المال والسلطان من الآثار والخرائب من بعدهم في بابل، ومصر، وبُصرى، والمدائن، وبرسبوليس، وبعلبك، وما أقل من يفقه خطاب هذه الآثار، ويعي ما تنطق، ويعرف كيف يستنطقها.

والسياحة في هذه الآثار نافعة ومفيدة، إذا عرف الإنسان كيف يستنطق هذه الآثار، ويتلقى منها الخطاب والجواب.

يقول علي (ع): ( وسر في ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا، وأين حلّوا ونزلوا ) [19].

وروي أن أميرالمؤمنين (ع) مرّ على (المدائن)، فلما رأى آثار كسرى وقرب خرابها قال رجل ممن معه:

  • جرت الرياح على رسوم ديارهم
  • فكأنهم كانوا على ميعاد

فقال أميرالمؤمنين (ع): ( أفلا قلتم:

{ كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ } ) [20].

إن لفقه الخطاب وفقه الجواب أهل يختصون به، وليس كل أحد يفقه خطاب الأشياء وجوابها.

كتاب التدوين:

وكما لكتاب التكوين خطاب وجواب، كذلك لكتاب الله المدوّن خطاب وجواب ونطق لمن يحسن استنطاق كتاب الله ويعي خطابه وجوابه.

يقول الإمام أميرالمؤمنين (ع) في وصف القرآن:

( ناطق لا يعيى لسانه، وبيت لا تهدم أركانه، وعز لا تهزم أعوانه ) [21].

ويريد الإمام (ع) بذلك أن القرآن كتاب ناطق، وليس بصامت، كما يتصوره الناس، يحمّلونه ما يشاؤون من آرائهم وأوهامهم، ويتصوّرون أن ليس بوسع القرآن أن يصحّح ما يطابقه من التفسير ويُخطّئ ما يخالفه من الرأي.

بل هو ناطق، دائم النطق، لا يعيى لسانه، ولا ينفذ معانيه ومفاهيمه وأفكاره.

وخطاب الله لا نفاذ له ولا حدود، كما لا نفاذ لله تعالى ولا حدود لذاته سبحانه.

والقرآن بيت لا يهدم أركانه، يأوي إليه الناس، ويسكنون ويطمئنون إليه، ويستقرون عند آياته، كما يأوي الناس إلى بيوتهم، يسكنون إليها، ويجدون فيها الاستقرار والأمن والراحة، كذلك يجد الناس، إذا صفت فطرتهم في كتاب الله، أمنا وسكناً وقراراً لأنفسهم، ودعة وراحة لنفوسهم.. ويبقى هذا البيت قائماً، لا تهدم أركانه، ما دامت الفطرة باقية في نفوس الناس.

والقرآن عز لا تهزم أعوانه، يجد فيه الذين يؤون إليه عزهم وقوتهم وشموخهم وأصالتهم.

ولكن لمن ينطق القرآن؟ ومن هم الذين يتلقون خطاب القرآن وجوابه وبصائره وكنوزه.. وهذا سؤال هام، لابد أن نطيل الوقوف عنده، فليس ينطق القرآن لكل احد، ولا يتلقّى خطابه ونداءه كل الناس، وإنما ينطق القرآن لمن يعرف أن يستنطق القرآن، ولا يحسن استنطاق القرآن إلاّ من يفتح مغاليق قلبه عليه ويسلّمه أزمّة نفسه، ويمكّنه من عقله وقلبه.

الطوائف الثلاث من الناس إزاء القرآن

والناس إزاء القرآن ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى منغلقة إزاء القرآن، لا تفتح مغاليق قلوبها للقرآن، ولا تأخذ من هدى الله وبيناته.. أولئك لا يجدون في القرآن خطاباً ولا جواباً، ولا ينطق لهم القرآن بشيء من آياته وبيناته وبصائره.

والطائفة الثانية تزيد على الأولى، فتحاول أن تحمّل القرآن آراءها وأهواءها وأوهامها لما يقول الله تعالى.. أولئك لا يجدون في القرآن خطاباً ولا جواباً.. ولا ينفذ نور القرآن وبصائره إلى عقولهم وقلوبهم.

يقول عنهم أميرالمؤمنين (ع): ( وآخر قد تَسمّى عالماً وليس به، فاقتبس جهائل من جهال، وأضاليل من ضلاّل، ونصب للناس شركاً من حبائل غرور وقول زور، قد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه، يؤمن من العظائم ويهون كبير الجرائم، يقول: أقف عند الشبهات، وفيها وقع، وأعتزل البدع وبينها اضطجع، فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتبعه، ولا باب العمى فيصد عنه، فذلك ميت الأحياء ) [22].

القرآن صامت إزاء أولئك الذين يعطفون الهدى على الهوى، أي يحمّلون القرآن أهواءهم وآراءهم، أولئك لا يفقهون من القرآن بصائره وبيناته، لأنهم لا يريدون أن يفقهوا القرآن، وإنما يريدون توظيف القرآن لإسناد أهوائهم وآرائهم، ومن لا يريد أن يفقه القرآن لا يفقه القرآن، البتة.

والقرآن لا يفتح كنوز بصائره إلاّ على أولئك الذين يلتزمونه ويتبعونه، ولا يفارقونه.

أمّا الذين يطلبون في كتاب الله أهواءهم وآراءهم وأوهامهم فيحجبون عن هدى القرآن وبصائره، تخلفوا عن القرآن وفارقوه، أم تقدّموا القرآن وحاولوا أن يقودوا القرآن إلى حيث يريدون.

يقول أميرالمؤمنين (ع) عن رسول الله2 وما خلّف في أمته: ( خلّف فينا راية الحق، من تقدمها مرق، ومن تخلّف عنها زهق، ومن لزمها لحق ) [23].

وإنما ينطق القرآن لمن لزمه وتبعه، ومن يريد أن يفقهه، وهذه الطائفة لا تلزمه ولا تتبعه، وإنما تريد أن تطوّعه لمآربها وغاياتها.. وكلام الإمام (ع) دقيق في تشخيص هذه الحالة: ( كأنهم أئمة الكتاب، وليس الكتاب إمامهم ) [24].

والإمام (ع) يشير بهذه الكلمة إلى فتنة الخوارج وهي من مضلاّت الفتن.

أولئك كانوا يقرأون القرآن، ويحتجون به، ولكن كما يريدون وكما يحبون، وليس كما يريد الله ويفصح عنه القرآن.

هاتان الطائفتان لا يجدان في القرآن خطاباً ولا جواباً ولا نطقاً، لأنهم لا يريدون من القرآن خطاباً وجواباً ونطقاً، فيحجبون عن كنوز القرآن وبصائره وبيناته، لأنهم لم يطلبوا من القرآن بصائره وبيناته.

والطائفة الثالثة هي التي تتلقّى الخطاب والجواب والنطق من القرآن مباشرة، هؤلاء يفقهون بصائر القرآن وبيناته، وليس بينهم وبين القرآن حجاب، يتعاملون مع القرآن مباشرة، يعطونه الانقياد والتسليم، ويسلّمونه أزمّة أنفسهم، ويحكّمونه على آرائهم وأهوائهم، ويأخذون من القرآن الخطاب والجواب ويتلقّون منه بصائره وبيناته.. وهذا هو معنى التفاعل مع القرآن: الأخذ والعطاء، والذين يريدون أن يفتح لهم القرآن كنوزه ويسمعهم خطابه وجوابه، دون أن يفتحوا للقرآن عقولهم وقلوبهم، ويمكّنوا القرآن من أنفسهم وأهوائهم وآرائهم، يطلبون عبثاً ولا ينالون ما يريدون إليه.

يقول الإمام أميرالمؤمنين (ع) في صفة ظهور وحكم المهدي من آل محمد (عج): (يعطف الهوى على الهدى) (ويعطف الرأي على القرآن). وهذه هي صفة هذه الطائفة التي (تعطف الهوى على الهدى) أي تحكّم الهدى على الهوى وتطوّع الهوى للهدى و(تعطف الرأي على القرآن) أي تطوّع الرأي للقرآن، وتحكّم القرآن على الرأي، حيث يعطف الناس الهدى على الهوى، والقرآن على الرأي.

وهذا هو الانقلاب الذي يقوده المهدي من آل محمد2 في القيم والمواقع في هذه الأمة ولنقرأ كلام الإمام (ع) في هذا الانقلاب بتمامه: ( يعطف الهوى على الهدى، إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي ) [25].

إذا كان الناس يخضعون القرآن للرأي والهوى، فإن الإمام المهدي (عج) يخضع الرأي والهوى للقرآن.

وعن هذه الطائفة يقول الإمام أميرالمؤمنين (ع):

( قد أمكن الكتاب (القرآن) من زمامه، فهو قائده وإمامه يحلّ حيث حلّ ثقله، وينزل حيث كان منزله ) [26].

وهو وصف دقيق لهذه الطائفة، يمكّنون القرآن من أزمّة نفوسهم، (فهو إمامهم وقائدهم، يحلون حيث حل، وينزلون حيث ينزل).

وعن هؤلاء يقول أميرالمؤمنين (ع) في القرآن: ( واستدلوه (القرآن) على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واستغشّوا فيه أهواءكم ) [27].

والتشخيص في كلام الإمام (ع) دقيق.

(استدلوه على ربكم) يعني: اطلبوا من القرآن الدلالة على الله.

واطلبوا من القرآن النصيحة لأنفسكم (واستنصحوه على أنفسكم)، فإن القرآن خير ناصح، إذا لجأ إليه الإنسان يطلب منه النصح بصدق.

(واتهموا عليه آراءكم) فإذا اختلفت عنه آراؤكم، فاتهموا عليه آراءكم، وصدّقوا القرآن، والتزموا به فيما ينصحكم.

(واستغشّوا فيه أهواءكم)، وإذا اختلفت عنه أهواؤكم، فخذوا النصح من القرآن واتهموا آراءكم وأهواءكم بـ (الغش).

…هؤلاء يحكمهم القرآن، ويكون مقياساً ومعياراً لهم في كل شيء، فيقيمون ويزنون الموازين بالقرآن فما صحّ منه فهو الصحيح، وما لم يصح منه فهو الخطأ { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ }[28].

فهو مقياس للحكم والحق.

هؤلاء ينطق لهم القرآن، ويفقهون خطاب القرآن وجوابه، ويتلقون بصائره وبيناته من دون حجاب.

إن هذا الكتاب يختلف عن سائر الكتب وسائر العلوم، فبإمكان الإنسان أن يفهم الفيزياء والميكانيك والهندسة المعمارية، إذا قرأها ووعاها وحضرها عند علمائها، تفاعل معها أم لم يتفاعل، أعطاها نفسه ام لم يعطها.. أمّا القرآن فلا يكاد يفقه الإنسان بصائره، ويتلقى معارفه وبيناته، إلاّ إذا أعطاه نفسه، ومكّنه منها، وفتح عليه مغاليق قلبه، وفي غير هذه الحالة سوف يبقى خلف الحجاب، محجوباً عن بصائر القرآن وبيناته، مهما كانت ممارسته ودراسته له.

بماذا ينطق القرآن؟

وهذا هو ثالث الأسئلة: بماذا ينطق القرآن؟

القضايا الكبرى التي تهم الإنسان تتضمنها الأواني الثلاثة: إناء الماضي، وإناء الحاضر، وإناء المستقبل.

وحياة الإنسان كلها، وما يتطلبه ويحتاجه في هذه الأواني الثلاثة.. والإنسان ليس للحاضر فقط، وإنما هو لهذه الأواني الزمانية الثلاثة جميعاً، للماضي، وللحاضر، وللمستقبل.

وكما لا ينفصل الإنسان عن الماضي لا ينفصل عن المستقبل.

إن الإنسان يعيش الحاضر، ولكن بميراث الماضي وآمال المستقبل. ويدخل (الماضي) في تكوين فكر الإنسان وشخصيته وثقافته وولائه وبراءته.

وإن ميراثنا من الأنبياء والصالحين والهداة والدعاة إلى الله في الولاء والبراءة، وفي إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جزءاً لا يتجزأ من كياننا الثقافي والسياسي والحركي.. كما أن العكس أيضاً صحيح، فإن الكفر أمة واحدة، وإن تشعبت وتعددت ولاءاتهم، ولا ينفصل حاضرهم عن ماضيهم. وإن حاضرهم ميراث الماضي، وماضيهم جذور الحاضر وعمقه الحضاري، هذا أولاً.

وثانياً: إن الماضي ليس فقط ساحة لحوادث التاريخ، وإنما هو ساحة لسنن الله تعالى أيضاً، وسنن الله لا تتبدل ولا تتحول، وهي سواء في الماضي والحاضر والمستقبل.

وعندما نقول (التاريخ) لا نريد فقط السرد والتسلسل الزماني لحوادث التاريخ، وإنما نقصد به وعي سنن الله في التاريخ والمجتمع من خلال هذا السرد والتسلسل الزمني لأحداث التاريخ… والقرآن شديد الاهتمام باستخراج سنن الله في التاريخ والمجتمع من خلال استعراض أحداث التاريخ، وعليه فإننا نقرأ الحاضر والمستقبل في مرآة التاريخ.

والقرآن شديد العناية بهذين الأمرين فيما يذكر من التاريخ وهو كثير.

والقرآن كما يُعنى بالماضي يُعنى بالمستقبل.

وكما يربط الحاضر بالماضي، يربط الحاضر بالمستقبل. يقول تعالى: { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ }[29]. وهذه الآية وإن كانت واردة في شأن الصراع القائم بين بني إسرائيل بإمامة موسى بن عمران وبين فرعون وجنده، ولكن مشيئة الله تعالى وإرادته بإمامة المستضعفين ووراثتهم للمستكبرين، وسقوط المستكبرين وهلاكهم المذكورة في هذه الكريمة.. مشيئة عامة لا تخص ساحة الصراع بين بني إسرائيل وفرعون في التاريخ، وإنما تعم الماضي والحاضر والمستقبل.

ويقول تعالى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }.

وهذا الميراث العظيم لاشك لم يتحقق بعد بكل أبعاده، ولا شك انه سوف يتحقق في المستقبل. فقد أخبرنا الله تعالى به في (الذكر) وهو التوراة والزبور وفي القرآن.

ويقول تعالى: { إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }[30].

ويقول تعالى: { فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ }[31].

والآيات بهذا المعنى كثيرة في كتاب الله، وهي جميعاً تُطمئن المؤمنين بالمستقبل، وتؤكد لهم أن لهم العاقبة، وأنهم سوف يرثون الأرض وما فيها من سلطان، وأن الله تعالى يجعلهم أئمة في الأرض، وشهداء عليها لا محالة، وهي تبعث الأمل في نفوسهم، وتمكنهم من تجاوز الحاضر بآلامه ومعاناته لاستقبال المستقبل، ليس بالآمال والأحلام، وإنما طبقاً لسنن الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتغير في التاريخ والمجتمع.

وشتّان بين من يمنّي الناس بالآمال والأحلام، ومن يوضح لهم سنن الحياة وقوانينها للماضي والحاضر والمستقبل، والقرآن لا يمنّي الناس بالآمال والأحلام، وإنما يشرح لهم سنن الله تعالى في التاريخ والمجتمع ليُعدّ المؤمنون أنفسهم لإمامة المستقبل ووراثة الأرض، وليبعث هذا الإعداد والتحضير في نفوسهم القدرة على مقاومة معاناة الحاضر وعذابه.

فلا يفصل القرآن الحاضر عن الماضي، كما لا يفصل الحاضر عن المستقبل.

وكما يقرر سنن الله للمؤمنين في الماضي والمستقبل، كذلك يرسم للمؤمنين نظام أمرهم وحياتهم في الحاضر.

فالقرآن إذن يستوعب قضايا الإنسان في الماضي والحاضر والمستقبل.

يقول الإمام علي أميرالمؤمنين (ع): ( ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه: ألا أن فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم ) [32].

إذن إذا استنطقنا القرآن أخبرنا القرآن بالمستقبل والماضي والحاضر (علم ما يأتي والحديث عن الماضي، ودواء دائكم ونظم ما بينكم).


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ نهج البلاغة: الخطبة 147.
  • [2] ـ بحار الأنوار 89: 20 ح19 عن المجازات النبوية للشريف الرضي .
  • [3] ـ نهج البلاغة 2: 54 خطبة 158.
  • [4] ـ نهج البلاغة 2: 17 خطبة 133.
  • [5] ـ آل عمران: 102.
  • [6] ـ آل عمران: 200.
  • [7] ـ النساء: 59.
  • [8] ـ النساء: 135.
  • [9] ـ النساء: 144.
  • [10] ـ الأنفال: 24.
  • [11] ـ الأنفال:27.
  • [12] ـ الأنفال: 38.
  • [13] ـ الصف: 10.
  • [14] ـ الصف: 2.
  • [15] ـ التحريم: 6.
  • [16] ـ نهج البلاغة 2: 111 خطبة 183.
  • [17] ـ الإسراء: 44
  • [18] ـ نهج البلاغة 1: 164 خطبة 91 المعروفة بخطبة الأشباح.
  • [19] ـ نهج البلاغة 3: 39 الوصية 31.
  • [20] ـ بحار الأنوار 75: 84 ح91، عن كنز الكراجكي، والآيات 25 ـ 29 من سورة الدخان.
  • [21] ـ نهج البلاغة 2: 16 خطبة 133.
  • [22] ـ نهج البلاغة 2: 153 خطبة 87.
  • [23] ـ نهج البلاغة 1: 193 خطبة 100.
  • [24] ـ نهج البلاغة 2: 31 خطبة 147.
  • [25] ـ نهج البلاغة 2: 21 خطبة 138.
  • [26] ـ نهج البلاغة 1: 153 خطبة 87.
  • [27] ـ نهج البلاغة2: 92 خطبة 176.
  • [28] ـ النساء: 105.
  • [29] ـ القصص: 5.
  • [30] ـ الأعراف: 128.
  • [31] ـ هود: 49.
  • [32] ـ نهج البلاغة 2: 54 خطبة 158.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى