ثقافة

أقسام التوحيد

وهذا الذي تحدثنا من الخلق، والهيمنة، والسلطان على الكون (في التكوين)، وما يستتبع ذلك من ولاية الله تعالى على الإنسان (في التشريع). أقول: هذا الذي تحدثنا عنه أربعة أقسام من التوحيد:

توحيد الخلق والإلوهية:

توحيد الخلق لله تعالى، فليس من خالق في الكون كله غير الله تعالى، وتوحيد الإلوهية والهيمنة والسلطان، والحكم في هذا الكون لله تعالى، فلا سلطان لأحد على هذا الكون غير الله، ولا ينقاد الكون لأحد غير الله تعالى. وهذان التوحيدان هما من التوحيد في (التكوين).

توحيد الولاية والتشريع:

وتوحيد الله تعالى التكويني يستتبع توحيد الله تعالى في الولاية والتشريع. وهما معاً (التوحيد في التشريع) في مقابل (التوحيد في التكوين)، ونتحدث عن توحيد الولاية ثم نتحدث عن توحيد التشريع.

أما عن توحيد الولاية لله تعالى في حياة الإنسان يقول الله تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ }.

وهذه الجملة صريحة وواضحة في توحيد الولاية والحكم لله تعالى بالنظر إلى دلالة أداة (إن ـ إلاّ) في الآية الكريمة على الحصر.

وتوحيد الولاية والحاكمية لله تعالى في حياة الإنسان تتضمن قضيتين:

  • القضية الأولى: توحيد الولاية لله تعالى ومن إذن الله تعالى وأمر بولايته، وهذه الولاية ولاية مطلقة ليس لها حدود.
  • القضية الثانية: نفي ولاية غير الله تعالى ممن لم يأذن الله بولايته.

وبناء على ذلك فلا يحق لأحد من دون إذن الله أن يطلب الطاعة من الناس، ولا يستوجب احد غير الله ومن إذن الله له.. الطاعة من عباد الله.

وأما عن توحيد التشريع، يقول تعالى:

{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }[1].

{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }[2].

{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }[3].

{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }[4].

التوحيد والشرك في الولاء

هذا إجمال من كلمة التوحيد، وهذا الإجمال يتضمن معنيين للتوحيد:

1ـ التوحيد في الخلق والهيمنة وهو التوحيد في التكوين.

2ـ والتوحيد في الولاية والتشريع.

وفي مقابل التوحيد الشرك.

وأكثر الشرك ليس شركاً في الخلق، فلا نعرف من المشركين من يقول بالشرك في الخلق والتكوين، ويقول بتعدد الخالق وتعدد الإله المهيمن على الكون، وإنما الذي نعرفه من الشرك الذي يحاربه القرآن هو الشرك في (الولاء) وليس الشرك في (الخلق).

لا إله إلاّ الله حصني:

وننتقل الآن إلى الكلمة الثانية الواردة في (حديث سلسلة الذهب) وهي (حصني) والمعروف أن (الحصن) يحفظ الإنسان من العدو، فمن هو العدو الذي يهدد سلامة الإنسان وسعادته وكيف تحفظ كلمة توحيد الإنسان من هذا العدو.

الهوى والطاغوت والشيطان:

الهوى والطاغوت والشيطان: ثلاثة من أكبر وأخطر أعداء الإنسان، وهم من أوسع أبواب جهنم في حياة الإنسان.

الهوى من داخل النفس.

والطاغوت من خارج النفس.

والهوى إله يُعبد في حياة الناس من دون الله تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ }[5].

وليس في الناس من يعبد هواه، ويتخذه إلهاً من دون الله، ولكن الناس يتبعون أهواءهم دون الله تبارك وتعالى، وهو من الضلال عن سبيل الله والانحراف عن الله تعالى { وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ }[6].

وهذا الإتباع في القرآن من تأليه الهوى.

والطاغوت يحكم في حياة الناس من دون الله تعالى، ويستخف الناس، ويستضعفهم، فيحكمهم، ويطيعوه. يقول تعالى عن فرعون: { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ }[7].

وقد أمرنا الله تعالى أن نكفر بالطاغوت، ولا نتحاكم إليه، { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً }[8].

{ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[9].

والشيطان العدو الثالث في حياة الإنسان: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ }[10].

وهؤلاء الثلاثة هم أخطر أعداء الإنسان، وأوسع الأبواب التي يدخل من خلالها الناس إلى جهنم.

فإذا تحصن الإنسان بـ (لا إله إلاّ الله)… لم يكن للهوى والطاغوت والشيطان إلى نفسه سبيل.

وذلك لأن كلمة التوحيد تحصر الولاية والحكم لله تعالى في حياة الإنسان والحصر (نفي) و(إثبات)، نفي لسلطان الهوى والطاغوت على الإنسان، وإثبات السلطان والولاية لله تعالى على الإنسان، فهذه الكلمة إذن تُخرج الإنسان من دائرة سلطان الهوى والطاغوت، وتدخل الإنسان في دائرة ولاية الله تعالى.

وهذه الولاية بطبيعتها تحمي الإنسان من سلطان الهوى والطاغوت، لأن الإنسان لا يدخلها إلاّ بعد الخروج من دائرتهما.

والخروج من دائرة سلطان الهوى والطاغوت بمعنى التحرر من سلطانهما والانفصال عنهما، والخروج عن دائرة نفوذهما، فلا يبقى لهما سلطان على الإنسان مطلقاً، إذا صدق الإنسان في هذا الخروج يعني (لا إله إلاّ الله).

والدخول في دائرة سلطان الله ونفوذه، يعني التسليم والطاعة والانقياد له تعالى وحده، والقبول منه وحده، والعبودية له تعالى وحده، إذا صدق في الدخول في هذه الدائرة (إلاّ الله).

إذن (لا إله إلاّ الله) حصن، يحوي الإنسان ويحميه.. وهذه المهمة هي مهمة الحصون.

والشيطان الضلع الثالث من هذا المثلث وقد أمرنا الله تعالى أن نتحصن بالله تعالى من الشيطان: { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[11].

وليس للشيطان سلطان ونفوذ على المؤمنين بالله { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }[12].

وليس للشيطان سلطان على الذين يتقون الله { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }[13].

وليس للشيطان سلطان على المخلصين من عباد الله { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }[14].

وإنما سلطانه على الذين يتولونه ويتبعونه: { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ }[15].

وعليه فإن (الهوى) و(الطاغوت) و(الشيطان) أوسع الأبواب إلى جهنم، وأكثر الناس يدخلون جهنم من هذه الأبواب الثلاثة، فإذا تحصن الإنسان بـ (لا إله إلاّ الله) أمِن من عذاب جهنم وحصّنته كلمة التوحيد من العذاب.

بشروطها، وأنا من شروطها:

وقد ورد هذا الاستدراك في بعض روايات هذا الحديث الشريف، وهو يدخل في صلب الموضوع.

فإن إنكار ولاية مَن أمر الله تعالى بولايته إنكار لولاية الله، وهو ينافي الشطر الثاني من كلمة التوحيد، واعتناق ولاية من لم يأمر الله تعالى بولايته من الشرك بولاية الله، وهو ينافي الشطر الأول من كلمة التوحيد، فلا تتم كلمة التوحيد إلاّ باعتناق ولاية مَن أمَرَ الله تعالى بولايته، ورفض ولاية من لم يأذن الله تعالى بولايته، وهذا هو الشرط الذي يقول الإمام (ع) عنه: ( وأنا من شروطها ) .


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ المائدة: 50.
  • [2] ـ المائدة: 44.
  • [3] ـ المائدة: 45.
  • [4] ـ المائدة: 47.
  • [5] ـ الجاثية: 23.
  • [6] ـ سورة ص: 26.
  • [7] ـ الزخرف: 54.
  • [8] ـ النساء: 60.
  • [9] ـ البقرة: 256.
  • [10] ـ يس: 60 ـ 62.
  • [11] ـ الأعراف: 200.
  • [12] ـ النحل: 98 ـ 99.
  • [13] ـ الأعراف: 201.
  • [14] ـ الحجر: 39 ـ 40.
  • [15] ـ النحل: 100.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى