ثقافة

كلمة التوحيد في القرآن

روى الشيخ الصدوق في (عيون أخبار الرضا) قال: حدثنا أبو سعيد محمد بن الفضل بن محمد بن اسحق المذكر النيسابوري بنيسابور، قال: حدثني أبو علي الحسن بن علي الخزرجي الأنصاري السعدي، قال: حدثنا عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي، قال: كنت مع علي بن موسى الرضا (ع) حين رحل من نيسابور، وهو راكب بغلة شهباء، فإذا محمد بن رافع وأحمد بن الحرث، ويحيى بن يحيى، وإسحق بن راهويه، وعدّة من أهل العلم قد تعلقوا بلجام بغلته المربعة فقالوا: بحق آبائك الطاهرين حدثنا بحديث سمعته من أبيك، فأخرج رأسه من العمارية وعليه مطرف[1] خز ذو وجهين، وقال:

( حدثني أبي، العبد الصالح موسى بن جعفر قال: حدثني أبي الصادق جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي أبو جعفر بن علي باقر علوم الأنبياء، قال: حدثني أبي علي بن الحسين سيد العابدين، قال: حدثني أبي سيد شباب أهل الجنة الحسين، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب^، قال: سمعت النبي2 يقول:

سمعت جبرائيل يقول: قال الله جل جلاله: إِنِّي أَنَا اللَّهُ، لا إله إلاّ أنا فأعبدوني، من جاء منكم بشهادة أن لا إله إلاّ الله بالإخلاص دخل في حصني، ومن دخل في حصني أمن من عذابي ) [2].

وفي رواية أخرى عن الإمام الرضا (ع) بنفس السند، قال رسول الله2: ( يقول الله عزّوجلّ: لا إله إلاّ الله حصني فمن دخله أمن من عذابي ) [3].

وفي رواية أخرى، يقول الله عزّوجلّ: ( لا إله إلاّ الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي. قال(الراوي): فلمّا مرّت الراحلة نادانا: بشروطها وأنا من شروطها ) [4].

التوحيد، المحور الرئيسي للإسلام:

(لا إله إلاّ الله) هو المحور الرئيسي والأساسي والقاعدة لهذا الدين، ومن هذه الكلمة بالذات يتفرع كل ما في هذا الدين من الأصول والفروع، من دون استثناء.

وهذه الكلمة تتألف من بعدين: البعد السلبي، والبعد الإيجابي، ويتقدم البعد السلبي على البعد الإيجابي، وسوف نقدّم توضيحاً لكل من هذين البعدين باختصار.

البعد السلبي لكلمة التوحيد:

البعد السلبي لهذه الكلمة هو (لا إله)، وهو ينفي كل سلطان وولاية في حياة الإنسان من دون الله تعالى.

والولاية أمر أساسي في تنظيم شبكة العلاقات الاجتماعية، وفي تنظيم الهرم الاجتماعي والعلاقة القائمة بين القاعدة والقمة في هذا الهرم، ففي هذه الشبكة التي تنتظم من خلالها علاقات الإنسان بالمجتمع وبأسرته ونفسه وأولياء الأمور نجد نوعين من العلاقات.

النوع الأول من العلاقة يقوم على أساس (السيادة ـ الطاعة) السيادة والولاية من جانب، والطاعة والانقياد من جانب آخر، وهذا هو الخط الطولي من شبكة العلاقات.

والنوع الثاني من العلاقة يقوم على أساس التعاون، والتناصح، والتناصر، والتحابب، وهذا هو الخط العرضي (الأُفقي) من هذه الشبكة.

والخط الطولي من هذه الشبكة يحكم الخط العرضي.

ورفض أي سلطان وولاية على الإنسان (من دون الله) في هذه الشبكة يغير خطوط هذه الشبكة بكاملها من الأنظمة الجاهلية إلى النظام الرباني، ويستبدل تلك الأنظمة بشبكة جديدة من الخطوط والعلاقات على ضوء (لا إله إلاّ الله).

المصدر الأول للشرعية:

يبحث علماء الفلسفة السياسية عن مصدر الشرعية للولاية والسيادة في حياة الناس، ويتوزع العلماء على نظريات شتى في مصدر شرعية السيادة في حياة الإنسان، فلابد للإنسان في حياته الاجتماعية من سيادة وولاية ولا تسلم حياته من دون ذلك، ولكن السؤال الأساسي الذي يواجهه علماء فلسفة السياسة، ما هو المصدر الأول لشرعية الولاية والسيادة في حياة الإنسان؟ هل هو القوة؟

أم أن الإنسان يملك أن يقرر مصيره بنفسه؟ كما يقول (روسو) في نظرية العقد الاجتماعي، والتي هي الأساس العلمي للديمقراطية.

أم غير ذلك؟

الشطر الأول من كلمة التوحيد(لا إله) ينفي نفياً مطلقاً سيادة الإنسان على إنسان آخر أو على نفسه، وينفي أن يكون للإنسان الحق في تقرير مصيره بنفسه، أو يكون له الحق في تقرير مصير الآخرين.

النفي والنهي:

ويتجسّد البعد السلبي لكلمة التوحيد في (النفي) و(النهي) في وقت واحد:

نفي كل سلطان وولاية وسيادة لغير الله تعالى في حياة الإنسان، إلاّ أن يكون بإذن الله، وهذا النفي هو الأساس الأول لهذا الدين، وبناء على ذلك فإن مهمة هذا الدين هو مصادرة ونفي كل سيادة وسلطان لغير الله ومن دون إذن الله، وإبطال كل سيادة في حياة الإنسان، إلاّ أن تكون صادرة من الله تعالى.{ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ }[5].

وهذا الشطر: هو الإعلان بعدم شرعية كل الأنظمة في حياة الإنسان، إلاّ أن يكون بإذن الله تعالى وأمره.

وقد روي أن أعرابياً جاء إلى رسول الله2 وسمع شيئاً من القرآن، فخرج إلى قومه يقول: إن هذا دين تكرهه الملوك.

وقد أدرك هذا الإعرابي بحسه الفطري المرهف، يومئذ ما لم يدركه كثير من المسلمين اليوم الذين بعدت الفاصلة بينهم وبين هذا الدين.

وهذا هو (النفي)، ويتبع النفي (النهي): النهي عن مطاوعة الطاغوت، والتحاكم إليه، والتعاون معه. { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ }.

والأمر يرفض الطاغوت والكفر به:{ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ }[6].

والأمر بالبراءة منه.

{ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }[7].

والأمر بقتال الطاغوت: { فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ }[8].

إن هذا الدين يبني ولاية الله تعالى وحاكميته وسيادته على الإنسان على أساس من نفي شرعية كل سيادة وحاكمية وولاية غير ولاية الله تعالى وحاكميته وولايته وسلطانه.

وهذه البداية لكلمة التوحيد(لا إله) تؤدي إلى نهاية حتمية، لا يمكن تجنبها وهي حتمية الصراع بين التوحيد والشرك، وهذا الصراع من أشرس أنواع الصراع وأكثرها ضراوة، لأنه صراع على الحياة، وبديل الحياة في هذا الصراع الموت والهلاك.

فلا يبقى أي من الطرفين في هذا الصراع إلاّ بموت ونهاية الطرف الآخر. ومن الطبيعي أن يكون هذا الصراع ضارياً وشرساً.

البعد الإيجابي لكلمة التوحيد:

والبعد الإيجابي هو تقرير إلوهية الله تعالى في الكون، وسلطان الله تعالى وولايته على الإنسان بشكل مطلق.

والله تعالى هو الإله الحاكم والمهيمن على الكون، وهو الإله الحاكم المهيمن على حياة الإنسان وعلاقاته وتحركه وسلوكه، وفي القرآن قضيتان حول هذا المحور:

القضية الأولى: إلوهية الله تعالى وهيمنته وسلطانه على الكون (في التكوين).

والقضية الثانية: إلوهية الله تعالى وحكمه وولايته على حياة الإنسان وسلوكه وحركته وعلاقاته (في التشريع).

والبعد الإيجابي لكلمة التوحيد هو تقرير إلوهية الله تعالى على الكون، والإنسان من الناحية التكوينية، ويستتبع ذلك بالضرورة ولاية الله تعالى وحاكميته على حياة الإنسان وسلوكه وحركته وعلاقاته.

وبين هاتين القضيتين علاقة حتمية تستدعي أولاهما الثانية.

معادلتان في كتاب الله:

وفي ضوء ذلك نجد في كتاب الله معادلتين اثنتين:

تقرر أولاهما العلاقة بين الخالق والتكوين من جانب، وولاية الله تعالى على حياة الإنسان في التشريع من جانب آخر.

وتقرر الأخرى العلاقة بين سلطان الله تعالى على الكون والإنسان في التكوين وولايته على حياة الإنسان وسلوكه وعلاقاته في التشريع.

واليك هاتين المعادلتين من كتاب الله.

المعادلة الأولى:

يقول تعالى: { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ }[9].

والطرف الأول في هذه المعادلة { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ }.

والطرف الثاني { أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ }.

ويقول تعالى: { ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }[10].

والمعادلة بين القضيتين في هذه الآية الكريمة واضحة. { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ }.

ويقول تعالى: { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }[11].

والموازنة والمعادلة في هذه القضية واضحة: { لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ }، فإن الخلق في التكوين يستتبع الأمر في التشريع بالضرورة.

المعادلة الثانية:

وقوام هذه المعادلة: العلاقة بين سلطان الله تعالى وهيمنته وحاكميته التكوينية على الكون والإنسان (في التكوين)، وولايته على الإنسان وعلاقاته وحركته (في التشريع).

فمن كان له الحكم، والسلطان المطلق، والهيمنة المطلقة على هذا الكون وعلى الإنسان (بالتكوين) له الحكم والسلطان والأمر والنهي على حياة الإنسان في (التشريع)، ولا يصح فصل هذا عن ذلك.

والحاكم الذي يقهر الكون بسلطانه، والسماوات مطويات بيمينه والأرض قبضته { وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }[12].

…وأمره وحكمه نافذ على الكون { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }[13].

…وينقاد له الكون كله، طائعاً منقاداً…

أقول: إن الذي له الحكم والسلطان النافذ في هذا الكون الكبير كله له الأمر والنهي والحكم والولاية في حياة الإنسان بالضرورة.

يقول تعالى: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ }[14].

وأفهم من هذه الآية الكريمة والله اعلم، أن إلوهية السماء هي الإلوهية والحاكمية التكوينية على الكون كله، وإلوهية الأرض هي الإلوهية والولاية التشريعية على حياة الإنسان.

ويقول تعالى: { وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ }[15].

والجزء الثاني من الآية الكريمة بيان لحيثية الجزء الأول، وشطرا هذه الآية هي المعادلة القرآنية التي يقررها القرآن بين سلطان الله تعالى التكويني على الكون، وولايته التشريعية على حياة الإنسان.

يقول تعالى: { وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ }[16].

فلا يصح أن يتخذ الإنسان إلهاً لا يستطيع أن يرد عنه الضرر، ولا تنفع شفاعته في شيء { ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }.

ويقول تعالى:{ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }[17].

والشطر الثاني في هذه الآية الكريمة، كما في سياقها، تفسر حيثية الشطر الأول.

ويقول تعالى: { فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }[18].

وفي هذه الآية الكريمة يقع قوله تعالى:{ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } في موقع البيان لحيثية الدعوة إلى عبادة الله تعالى { يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ }.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ المطرف: رداء من خز ذو أعلام.
  • [2] ـ عيون أخبار الرضا× للصدوق 1: 143 ح1.
  • [3] ـ المصدر السابق ح2.
  • [4] ـ المصدر السابق ح4.
  • [5] ـ الأنعام: 57 ويوسف : 40, 67.
  • [6] ـ النساء: 60.
  • [7] ـ الأنعام: 19.
  • [8] ـ التوبة: 12.
  • [9] ـ النمل: 60.
  • [10] ـ الأنعام: 102.
  • [11] ـ الأعراف: 54.
  • [12] ـ الزمر: 67.
  • [13] ـ يس: 82 ـ 83.
  • [14] ـ الزخرف: 84.
  • [15] ـ القصص: 88.
  • [16] ـ يس: 22 ـ 23.
  • [17] ـ الأنعام: 106.
  • [18] ـ الأعراف: 59.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى