ثقافة

الثقافة القيادية والإدارية في القرآن

يقرر القران الكريم حاكمية الدين وسيادته، وإذن فلا بد أن يرسم لنا المقومات الأساسية للثقافة الإدارية لعدم انفكاك الحاكمية والسيادة عن الإدارة.

وقد مارس الإسلام بالفعل القيادة العملية للجماعة المؤمنة على مسرح التاريخ الإنساني ومن ثم قيادة الدولة الإسلامية، وقد حقق إنجازات واسعة بهذه القيادة الفذة بلغت في مداها الزمني حد الإعجاز التاريخي.

تأمل حال المؤمنين الذين كانوا يخافون أن يتخطفهم مشركو قريش في فجر الدعوة الإسلامية نجد إن هذه الثلة المؤمنة المستضعفة أصبحت فيما بعد أمة ودولة تخشاها الأكاسرة والقياصرة ويحسبون لها ألف حساب.

وبعض السرّ في هذا الإنجاز التاريخي المعجز هو القيادة الصحيحة لتلك الجماعة وفي كل حركاتها وسكناتها إلى جانب دور الأيمان وتعليمات الإسلام في تحقيق هذه المعجزة الكبرى في التاريخ.

وفيما يلي نستعرض طائفة من التعليمات القرآنية بخصوص ثقافة القيادة والإدارة:

1ـ آية الشورى

يقول تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}([1]).

هذه الآية تجمع مفاهيم أساسية عن الإدارة هي: اللين، واجتناب الفظاظة والغلظة في القول والعمل، والعفو، والمسامحة، والشورى، والقرار، والعزم، والحزم.

وليتأمل القارئ الأجواء التربوية التي تختزنها هذه المفاهيم.

وسيبقى للقرآن قصب السبق في الثقافة القيادية والإدارية للمجتمع والتي لم تشهد الإنسانية مثالاً لها ينافسه في تاريخها الطويل.

ففي هذه الآية دعوة إلى استخدام اللين والرحمة في الإدارة، واجتناب الغلظة والفظاظة، لئلا ينفض الناس من حول القائد, ويبقى وحده، ولئلا يضطر القائد أن يجمع الناس، ويديرهم بالعنف والإرهاب {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.

إن استقطاب قلوب الناس واجتذابهم هو افضل تعريف لشخصية القائد, ومن أبرز قيم الإدارة والقيادة.

ثم بعد ذلك تذكر الآية الكريمة خصالا ثلاثة {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} وأيّة ثلاثة؟

العفو, والاستغفار, والاستشارة

هذه الخصال الثلاثة وهي الرحمة، واللين, والعفو في الأخطاء, والمخالفات الصغيرة ليست خرقاً للقانون, والرحمة والتسامح في مثل هذه الهفوات من التسامح المحدود.

والاستغفار والدعاء للناس لـه تأثير طيب في قلوب الناس, وتبقى استجابته من الله.

والله تعالى يحب أن يدعو بعضنا لبعض, ويستغفر بعضنا لبعض، وقد أمر الله تعالى رسوله “ص” أن يدعو لهم عندما يأخذ منهم صدقاتهم {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}([2])، إن الدعاء والاستغفار والصلاة من الناس للناس سكن واستقرار وطمأنينة لنفوسهم يأمرنا به الله تعالى، ومن القائد للناس أطيب وادعى للسكون والطمأنينة.

هذه السعة في الصدر، واللّين، والرحمة، والعفو، والاستغفار كانت الأداة المفضلة في إدارة الدعوة والدولة في السيرة النبوية، وقد أكسبت رسول الله “ص” في مساحة الدعوة والدولة اشد أعدائه وخصومه، وقد ورث أهل بيته “ع” عنه “ص”هذه الخصلة في العفو والتجاوز وسعة الصدر في التعامل مع الناس.

يروى أن رجلاً كان يشتم علي بن أبي طالب× وإذا رأى موسى بن جعفر “ع”، يؤذيه، فقال له بعض مواليه وشيعته: دعنا نقتله، فقال: لا، ثم مضى راكباً إليه بدابّته في مزرعته، فصاح: لا تدس زرعنا فمضى إليه، وأقبل حتى نزل عنده فجلس معه وجعل يضاحكه، وقال له: كم غرمت على زرعك هذا؟ قال: مائه درهم، فكم ترجوا أن تربح؟ قال: لا أدري، قال: سألتك كم ترجو، قال مائة أخرى، قال: فاخرج ثلاثمائة دينار، فوهبها لـه، فقام الرجل فقبّل رأسه، فلما دخل المسجد، بعد ذلك وثب الرجل فسلم عليه وجعل يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته، فوثب أصحابه عليه وقالوا: ما هذا؟ فشاتمهم، وكان بعد ذلك كلما دخل موسى خرج يسلم عليه ويقوم له، فقال: موسى لمن قال ذلك القول: أيما كان خيراً، ما أردتم أم ما أردت؟([3]).

 هذه الروح العالية في التعامل مع الناس هي التي يأمر بها القران، يقول تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}([4]).

ويوصي أميرالمؤمنين “ع” بها عامله على مصر مالك الأشتر(رضوان الله عليه): (فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك)([5]).

ثم تأمر الآية الكريمة رسول الله “ص” بالمشاورة ومشاركة الناس في صناعة القرار:

وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ:

والشورى هي المشاركة في الرأي، فلا يجوز القائد أن يستبد بالرأي، ويحجب الناس عن الرأي والمشاركة في صناعة القرار، والله ورسوله غنيان عن المشورة، ولكن الله تعالى يريد لرسوله “ص” أن يطيّب بذلك قلوب الناس، وأما الكلمة الأخيرة، وهي القرار فيبقى لرسول الله “ص” وأولياء الأمور من بعده.

والنخبة التي تعطي الرأي والمشورة لولي الأمر يجب أن تكون نخبة صالحة كفوءة مؤمنة، يقول أميرالمؤمنين “ع”: (ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله)([6]).

إنّ للشورى معطيات نفسية كبيرة في نفوس الجماعة، فهي تعزز الثقة في نفوس المؤمنين وتضاعف شعورهم بالمسؤولية إزاء نتائج القرار السلبية أو الإيجابية، كما إنها تفتح للقائد آفاقاً جديدة من الرأي عندما تجتمع الآراء عنده، فيختار أنسبها وأصلحها للظروف المحيطة به، وهذه المشاركة العقلية والنفسية من الناس تعطي للقرار السياسي والإداري والعسكري قوّة أكثر، ولكل قرار، مهما كان صالحاً سلبيات، فإذا أشرك الناس في صناعة القرار فأنهم بالضرورة يتحملون سلبياته معه، وهي أعظم إسناد للقيادة بعد معية الله تعالى، بل هي من منازل معية الله تعالى ونصره، فإن الله تعالى إذا عرف صدق القيادة والقاعدة في التعاون، والتعاضد، والتشاور، والتعامل في إنجاز مهام القيادة والإدارة أنزل عليهم نصره وتأييده.

القرار والتوكل على الله في تنفيذ القرار

ثم يقول تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}.

وهذه هي المرحلة الأخيرة، وهي مرحلة القرار، وهي للقائد والإمام وولي الأمر بالتأكيد، والله تعالى يقول: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} وليس في الآية الكريمة ما يدل على أن العزم مرتبط بالشورى.

وعلى القائد واجبان:

الواجب الأول: الاستشارة والاستعانة بالآخرين في الرأي.

والواجب الثاني: أن يتخذ القرار في ضوء هذه الاستشارة وتقليب الآراء بما يراه الإمام.

وليست في الآية الكريمة ما يدل على إلزام الإمام برأي معين من الآراء، حتى رأي الأكثرية، والإلزام الوارد في الآية الكريمة في أصل الاستشارة، وليس في القرار والتنفيذ.

نعم، لا يصح أن يكون دأب الإمام هو مخالفة رأي جمهور أصحاب الرأي والحل والعقد، دائماً أو غالباً، كما هو دأب الحكام المستبدين بالحكم.

فإن هذه الخصلة تتعارض مع فلسفة الشورى التي تشير إليها الآية الكريمة نفسها في صدرها.

2ـ آية المصابرة والمرابطة

يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}([7]).

هذه الآية تدعوا المؤمنين إلى التحلي بالصبر في جميع المجالات، الصبر على الشدائد والأهوال، والصبر في طاعة الله، والصبر على المعصية وعدم الخضوع لشهوات النفس.

وأما المصابرة فهي التصبر وتحمل الأذى جماعة، بالتصابر والتحمل مجتمعين، فيتقوى الحال، ويشتد الوصف، ويتضاعف تأثيره، وهذا أمر محسوس في نفس الفرد إذا اعتبرت شخصيته في حال الانفراد، وفي حال الاجتماع والتعاون([8]).

وفي غياب عنصر المصابرة والصبر تكون النفوس غير متحملة للتكاليف، ويبدأ اختلاق الأعذار للإفلات من الأوامر والنواهي الصادرة، وعندها يدعو الله تعالى رسوله أن يرفض منهم الاعتذار.

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ}([9])، انه الاعتذار النفسي المعبر عن ضعف النفس البشرية إزاء التحديات، وإنها النفوس التي تختبأ في دهاليز الأنا لكي تشعر بالأمن لأن التحدي أرعبها فلجأت إلى الاعتذار، طلباً للعافية، فالاعتذار يضمن لها مشاركة الجماعة في الغنائم كما يضمن لها السلامة من عنت المشاركة.

إلى هذا المستوى المخيف من الأعذار يمكن أن يبلغ الإنسان إذا فقد عنصر الصبر.

إن من أهم أسباب نجاح الجماعة المؤمنة في صدر الإسلام الصبر والمصابرة على التكاليف الإلهية، مهما بلغت، في حجمها وطبيعتها، وعلى مكاره المواجهة وتحديات الأعداء.

صبروا على الجهاد في ساحة المعركة، فكان أحدهم يواصل القتال، ويحمل السيف، والجراح يجلّله وينزف منه.

صبروا على أذى المشركين الذين أسرفوا في تعذيبهم بالسوط والكيّ بالرمضاء ومصادرة الأموال وهدم الديار وقتل الأبرياء والتضييق في الأرزاق.

صبروا على شهوات النفس ومخالفة الذات، وآثروا رضا الله على رضاها، وحاربوا أشد الغرائز تمكنا في النفس الإنسانية وأعنف الشهوات الجسدية رسوخاً.

هذه المصابرة هي التي نقرأها في سورة العصر: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، فإن التواصي بالصبر هي أن تتمسك الجماعة المؤمنة بالتصابر والمصابرة، والتواصي بالصبر يضعها أمام تحديات المواجهة ويمنحها القوّة والمقاومة.

وهو أحد اثنين في مسيرة الجماعة الصالحة المؤمنة: الأول هو التواصي بالحق، والثاني هو التواصي بالصبر.

وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر

والتواصي بالحق، التعاضد والتعاون في معرفة الحق، والتواصي بالصبر هو التصابر والمصابرة في الثبات على الحق.

وكل منهما صعب معرفة الحق، وقد زل ناس كثير في هذه النقطة، والثبات عليه، وقد اهتز ناس كثير في هذه النقطة، وتراجعوا وتخلفوا عنه.

المرابطة: (ورابطوا)

المرابطة: هي حماية الحدود والثغور الإسلامية من تسلّل الجواسيس الذين يعيثون في البلاد فساداً إذا وجدوا الحدود سهلة الاختراق لا تملك التحصين الكافي.

وقد خصّ الإمام السجاد “ع” أهل الثغور بالدعاء الخاص (اللهم صل على محمد وآل محمد، وحصن ثغور المسلمين بعزتك، وأيّد حماتها بقوتك، وأسبغ عطاياهم من جدتك)([10])، لأن أهل الثغور هم العين الساهرة التي تراقب الحدود الإسلامية من خطر اقتحام الأعداء وتسلل المفسدين.

وهناك معنى آخر للمرابطة يذكره السيد الطباطبائي في الميزان، يقول: (ورابطوا أعم من معنى المصابرة وهي إيجاد الجماعة، والارتباط بين قواهم وأفعالهم في جميع شؤون حياتهم الدينية أعم من حال الشدة، وحال الرخاء)([11]).

فالمرابطة إذن حالة الارتباط الشديد بين أفراد الجماعة، وهي حالة يخلقها الصبر الذي يشد أجزاء الجماعة فيكون لها كيان ذو شخصية مميزة.

فان للعمل الجمعي هيبته في نفوس الأعداء الذين يرهبهم تجمع المسلمين في روابط منظمة تنظيماً عالياً.

3ـ الآيات التي نزلت في انتكاسة المسلمين في معركة أحُد

نزل في معركة أحُد آيات عديدة في سورتي (آل عمران) و(النساء)، هذه الآيات غالباً تتعلق بالثقافة القيادية والإدارية والعسكرية في الإسلام، ونحن نتحدث عن هذه المعركة وما استتبعها من غزوة حمراء الأسد في إيجاز، ثم نتحدث عن الآيات النازلة في القرآن في هذه المعركة والدروس التي يستخلصها القرآن منها في سورتي النساء وآل عمران.

قصة المعركة:

في مجمع البيان([12]) عن الصادق “ع” أنه قال:

كان سبب غزوة أحد إن قريشاً لما رجعت من بدر إلى مكة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر، لأنه قتل منهم سبعون، وأُسر سبعون، قال أبو سفيان: يا معشر قريش لا تدعوا نساءكم تبكين على قتلاكم، فان الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة لمحمد.

فلما غزوا رسول الله “ص” يوم أحد أذنوا لنسائهم في البكاء والنوح، وخرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس وألفي رجل وأخرجوا معهم النساء.

فلما بلغ رسول الله “ص” ذلك، جمع أصحابه، وحثهم على الجهاد، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: يا رسول الله لا نخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها، فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة، على أفواه السكك، وعلى السطوح، فما أرادها قوم قط فظفروا بنا، ونحن في حصوننا ودروبنا، وما خرجنا إلى عدو لنا قط، إلاّ كان الظفر لهم علينا.

فقام سعد بن معاذ وغيره من الأوس فقالوا: يا رسول الله ما طمع فينا أحد من العرب، ونحن مشركون نعبد الأصنام، فكيف يطمعون فينا وأنت فينا؟ لا حتى نخرج إليهم فنقاتلهم، فمن قتل منّا كان شهيداً، ومن نجا منا كان قد جاهد في سبيل الله.

فقبل رسول الله “ص” رأيه، [وكان صلى الله عليه وآله كارهاً لذلك]، وخرج مع نفر من أصحابه يتبوؤن موضع القتال…

ووافت قريش إلى أحد وكان رسول الله “ص” عبأ أصحابه ـ وكانوا سبعمائة رجل ـ ووضع عبد الله بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب، وأشفق أن يأتي كمينهم من ذلك المكان.

فقال لعبد الله بن جبير وأصحابه: إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة، فلا تبرحوا من هذا المكان، وأن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا وألزموا مراكزكم.

وعبّأ رسول الله “ص” أصحابه، ودفع الراية إلى أميرالمؤمنين “ع” وحمل الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة…

ونظر أصحاب عبد الله بن جبير إلى أصحاب رسول الله “ص” ينتهبون سواد القوم فقالوا لعبد الله بن جبير قد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة؟ فقال لهم عبد الله: إتّقوا الله فان رسول الله قد تقدم إلينا أن لا نبرح، فلم يقبلوا منه، وأقبلوا ينسل رجل فرجل، حتى أخلوا مراكزهم، وبقي عبد الله بن جبير في أثني عشر رجلاً…

وانحط خالد بن الوليد على عبد الله بن جبير، وقد فر أصحابه وبقي في نفر قليل فقتلهم على باب الشعب، ثم أتى المسلمين من أدبارهم.

ونظرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها، وانهزم أصحاب رسول الله2 هزيمة عظيمة وأقبلوا يصعدون في الجبال، وفي كل وجه.

فلما رأى رسول الله “ص” الهزيمة كشف البيضة عن رأسه، وقال: إلي أنا رسول الله، إلى أين تفرون عن الله تعالى وعن رسوله؟….

وثبت يومئذٍ علي بن أبي طالب “ع” مع رسول الله “ص” ونفر قليل من أصحابه وكان عليّ”ع” يذود عن رسول الله “ص” بسيفه.

روي عن أبي عبد الله “ع”: <نظر رسول الله “ص” إلى جبرئيل بين السماء والأرض، على كرسي من ذهب، وهو يقول: لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي>([13]).

واقعة حمراء الأسد

بعد انتكاسة المسلمين في معركة أحد وعودة المسلمين إلى المدينة، بات وجوه الأنصار على باب رسول الله “ص” خوفاً من كثرة العدو، فلما طلع الفجر أذن بلال لصلاة الفجر.

فأمر رسول الله “ص” بلالاً أن ينادي المسلمين للخروج صبيحة يوم الأحد وكانت وقعة أحد يوم السبت، وأمر كذلك أن ينادي بأن لا يخرج إلاّ من كان معنا بالأمس، حتى إن عبد الله بن أبي أستأذن رسول الله أن يخرج معه فلم يأذن لـه، فخرج إلى حمراء الأسد كل من شهد أحد وكانوا سبعمائة قتل منهم سبعون.

فلما تسامعت قريش بخروج المسلمين وغضبهم وخروج رسول الله وهو جريح ورباعيته مكسورة وشفته العليا مشقوقة وركبتاه مجروحتان، وكانت الراية يومئذ بيد علي بن أبي طالب “ع” وهو مثخن بالجراح، وخرج من المسلمين من به جرح واحد، ومن به أربعون جرحاً، ومن به بضع وسبعون جرحاً، وكان أميرالمؤمنين “ع” به جراح كثيرة.

وكان المسلمون يشعلون النار في الليل فهابتهم قريش ورجعت إلى مكة، وهذه الوقعة عرفت بحمراء الأسد([14]).

تحليل عناصر النكسة

وفيما يلي نلقي نظرة على الآيات التي نزلت في هذه المعركة على رسول الله2، لكي نرى كيف يحلّل القرآن انتكاسة المسلمين في (أحُد) وما هي النظرة العامة إلى الانتكاسات التي تصيب المسلمين؟

ثم نستمع إليه مرة أخرى كيف يعالج الانتكاسة المرّة التي لحقت بالمسلمين، ويحوّلها إلى نصر واستعلاء على الكافرين.

نحن نجد في سورتي النساء وآل عمران تحليلين لنكسة أحد:

أـ آية سورة النساء:

{وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ}([15]).

هناك احساسان في الساحة بعد المعركة: الإحساس الأول الإحساس بآلام المعركة وجراحها التي أثخنتهم، والإحساس الآخر رجاء رحمة الله والأمل في نصر الله تعالى وثوابه.

أما الإحساس الأول فهو إحساس مشترك بين طرفي المعركة، فقد أصاب القرح والألم هؤلاء وأولئك على نحو سواء.

والقروح هي القروح، وليس بين قرح وقرح فرق، فما أصاب المسلمين من آلام وقروح قد أصاب الكافرين بفارق من حيث الكم أو من غير فارق… وأصابهم في بدر، كما أصابهم في أحُد.

وأما الشعور الآخر، وهو الرجاء في الثواب في الآخرة والنصر في الدنيا فينفرد به المسلمون، وليس للمشركين رجاء في الله تعالى أن ينصرهم في الدنيا أو يثيبهم في الآخرة.

إنهم لا يجدون في هذه المعركة غير قروح المعركة ونشوة كاذبة بالنصر سرعان ما تزول.

وللرجاء دور كبير في حياة الإنسان، فالمسلم يقاوم ألم الجراح وألم الهزيمة لأنه يرجوا من ربه أن يمده بالمعنويات والطاقات التي لا حدود لها.

ويقابل البلاء بالرجاء والرضى النفسي، بينما يقابل المشركون هذه الابتلاءات بصدور ضيقة ونفوس يائسة.

وبهذا الشعور النفسي المفعم بالرجاء استطاع المسلمون تجاوز المحنة، لأن الرجاء أمدّهم بالطاقة العالية لمواصلة المعركة.

وقد تابعوا المواجهة حتى انتهت بالنصر لهم في واقعة حمراء الأسد،

ثم فيما بعد ذلك من غزوات وأحداث تأكّدت وتعمّقت حالة النصر عند المسلمين.

وهذا هو الدرس الأول الذي نتلقاه من القرآن في هذه الانتكاسة التي أصابت المسلمين في أحد.

وهو درس حري بالاهتمام.

إن القيادة الراشدة والإدارة السليمة لساحة المعركة تتمكّن أن تحول الانتكاسات في حياة المسلمين إلى حالة الرجاء والأمل، والاستهانة بالآلام والعقبات.

ونقرأ الآن آيات آل عمران في هذه المعركة وهي دروس تستحق الاهتمام والتأمل.

ب ـ آيات آل عمران:

{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ}.

{وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.

{وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}.

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}([16]).

ثمانية دروس في آية آل عمران:

وهي آيات عجيبة تستوقف الإنسان، وتبعث على كثير من التأمل والتفكير، وفيها دروس عميقة في الثقافة القيادية والإدارية.

  • الدرس الأول:

وأول شيء نلاحظه في هذه الآيات هو هذا الاستعلاء على الضعف والوهن والحزن، والدعوة إلى تجاوز حالة الخوف والإحساس بالضعف، وتعميق الشعور باستعلاء المسلمين على الكافرين ما كانوا مؤمنين بالله، قد شدوا حبلهم بحبل الله، واستمدوا حولهم وقوتهم بالله، واطمأنت قلوبهم بالله {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

ذلك التجاوز عن الوهن والخوف والحزن، وهذا الاستعلاء على الكافرين من حقائق الإيمان، يعرفها المؤمنون جيداً، وليس وهما، ولا من الإلقاءات والإيحاءات الوهمية.

وهذا هو الدرس الأول في آيات آل عمران {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ}.

  • الدرس الثاني:

الاستخفاف بالقروح التي تصيبهم في المعركة، فإن هذه القروح تصيبهم وتصيب أعداءهم على حد سواء، والذي يدخل المعركة يجب أن يوطّن نفسه لمثلها، والتعبير بـ (المس)، {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} يوحي بالاستهانة بما يصيبهم من القروح، وسرعان ما تزول وتندمل، ويعقبه الثواب والرضوان من عند الله، وهي بعد من متطلبات كل معركة، ومن أي مدخل يدخل الإنسان المعركة، من مداخل الحق أو من مداخل الباطل.

{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ}.

وهذا هو الدرس الثاني في آيات آل عمران.

  • الدرس الثالث:

أعظم هذه الدروس جميعاً، وأعظم مما قرأناه سابقاً، إن هذا الدرس يعطينا رؤية كونية تاريخية شاملة لمسألة الانتصار والهزيمة والانتكاسة والنجاح.

إن الرؤية الموضعية القريبة، للهزيمة والنكسة تصيب الإنسان بالوهن والحزن والخوف.

وأما الرؤية الكونية البعيدة من خلال سنن الله تعالى في التاريخ والمجتمع فتمنح الإنسان ثقة وقدرة على مواجهة التحديات وتجاوزها والاطمئنان بالعاقبة البعيدة أو القريبة من خلال سنن الله.

إن الذي يقتطع حدث الانتكاسة من أسبابها وعواقبها وموضعها في التاريخ يصيبه الوهن والضعف والحزن.

وأما الذي يضع (الانتكاسة) في موضعها من التاريخ ومن تداول الأيام، وضمن سنن الله تعالى، فلا يصيبه شيء من ذلك الوهن والحزن والخوف، ويخرج من المحنة والانتكاسة مطمئناً بالله واثقاً بنصر الله، عاملا لإنجاز ما يريده الله تعالى من المؤمنين لتحقيق النصر، واثقاً بوعد الله تعالى لهم بالنصر.

{وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.

وليس من الصحيح أن يقتطع الإنسان المسلم يوم النكسة من مدار التاريخ.

  • الدرس الرابع:

هو دور هذه الانتكاسات في تصفية صفوف المسلمين من العناصر المسلمة الضعيفة والمنافقة التي تدخل في الجماعة المسلمة أيام الرفاه والعافية وتتميز عنهم أيام البأساء والضراء.

وهذا هو التمحيص الأفقي داخل المجتمع وهو قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ}.

  • الدرس الخامس:

أن أمثال هذه الانتكاسات تبني الجماعة المؤمنة بناءً قوياً، وتجعل منهم أئمة، وسادة، وشهداء، وقيمين على وجه الأرض… ولو كانت أيامهم كلّها تعمّها نشوة الفتوح والانتصارات، وأيام عافية ورخاء لم يتمكنوا أن يحلوا في مواقع القيمومة والشهادة والإمامة على وجه الأرض.

{وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء}.

إن الله تعالى إنما يتخذ منهم شهداء في مثل هذه الانتكاسات والأيام والظروف الصعبة.

  • الدرس السادس:

هو دورة التمحيص العمودي التي تدخلها هذه الأمة في مثل هذه الانتكاسات.

وهو غير دورة التمحيص الأفقي التي تحدثنا عنها.

فكما أن في المجتمع قوي وضعيف وصالح وطالح ومؤمن ومنافق… وهذه الانتكاسات تفرز المؤمن عن المنافق والأقوياء عن الضعفاء… كذلك في نفوس المؤمنين نقاط قوة وضعف، يقين، وريب، ثقة وشك، نزوع إلى التحدي والمواجهة وإيثار للعافية، حلم وغضب، عفو وانتقام.

ومثل هذه الانتكاسات تؤدي دوراً مؤثراً في تهذيب نفوس المؤمنين وعلاج نقاط الضعف، والريب، والهلع، والجزع، والخوف، والجبن، والحرص، والحسد في نفوسهم، وتعمّق حالات اليقين، والثقة، والإيمان، والعزم، والحزم، والحسم في نفوسهم… وهذا هو التمحيص العمودي داخل النفوس وهو لا يكون إلاّ في أيام البأساء والضرّاء وهو قوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ}.

  • الدرس السابع:

هو إن هذه الانتكاسات تصيب المؤمنين والكافرين على نحو سواء في (تداول الأيام)، ولا يمكن لأمة أن تسلم منها، مهما كانت مؤمنة أم كافرة، ولكن بفارق نوعي كبير في العاقبة.

فإن هذه الانتكاسات للمؤمنين تمحيص وتهذيب وتشذيب في عرض الأمة العريض وهو (التمحيص الأفقي)، وتمحيص في عمق شخصية المؤمنين (التمحيص العمودي)، ولكنها للكافرين محق وهلاك.

وشتان بين هذه العاقبة وتلك.

إن مخاض الولادة صعب ونزع الموت صعب ولكن شتان بين الصعبين.

وهذا هو قوله تعالى: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}، للمؤمنين ولادة جديدة وبعث جديد، وللكافرين محق وسقوط.

  • الدرس الثامن:

أن أمثال هذه الانتكاسات هي السبيل إلى دخول الجنة، ولا يحسبنّ أحدٌ أن السبيل إلى الجنة سهل يسير.

فلن يدخل الجنة إلاّ المجاهدين الصابرين الذين يعرف عنهم الله تعالى الصدق في الجهاد والصبر في المواقف… ولن يكون ذلك إلاّ في مثل هذه الانتكاسات.

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.

إن أمة تتلقى الانتكاسات والهزائم في التاريخ في مثل هذا الإطار الثقافي الجميل حَريّة أن لا يصيبها الوهن والحزن والخوف في مسيرتها التاريخية في نشر دعوة الله وتقرير دين الله على وجه الأرض وتعبيد الناس لله تعالى وتحكيم شريعة الله على وجه الأرض.

دروس قيادية أخرى من معركة أحد

وفي نهاية الحديث عن واقعة أحد وما خلفت ورائها من تداعيات، لابد من استلهام طائفة أخرى من الدروس في الثقافة القيادية والإدارية في الإسلام.

  • الدرس الأول:

إستجابة الرسول “ص” لرأي المسلمين في هذه المعركة فقد خرج من المدينة كارهاً متخوفاً من النتائج، ولكنه قبل رأي سعد بن معاذ وجماعة الأوس والمتحمسين من الشباب من أصحابه، وهذا جانب هام في القرار القيادي، يتضمن إشراك الناس واحترام آرائهم وأفكارهم.

ولو أنفرد القائد بالقرار فأنه سيتحمل وحده نتائج القرار، فإذا أصاب الجماعة إخفاق وهزيمة فإنها ستلقي باللآئمة على القائد وحده.

وإنّ الاستئثار بالقرار سوف يطفأ جذوة الحماس عند الآخرين، لأنهم لا يشعرون في أعماقهم بالانتماء النفسي للقرار.

وقد كان بإمكان النبي “ص” مخالفة القوم ولا يخرج من المدينة، ولكن رسول الله “ص” آثر رأي الجمهور من أصحابه من المتحمسين للخروج لقتال العدو على ما يراه من المصلحة.

  • الدرس الثاني:

عدم رجوع النبي عن قراره حتى مع ظهور الكراهة على وجهه الكريم، وتراجع الصحابة عن إصرارهم بعد أن عرفوا الكراهة على وجه رسول الله “ص” وهذا يعني احترام القرار وعدم التراجع عنه أو التذبذب في القرار.

فقد ذكر أرباب السير أنّ أصحاب رسول الله “ص” لما رأوا الكراهية على وجه رسول الله “ص” تلاوموا فيما بينهم، وقالوا: إننا أكرهنا رسول الله “ص” على الخروج من المدينة، ولا ينبغي ذلك، فأعلنوا لرسول الله “ص” استجابتهم لرغبته، فلم يتراجع رسول الله “ص” هذه المرة، وقال: (ما ينبغي لنبي لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل)([17]).

هذا الإصرار على المضي في تنفيذ القرارات يولد الثقة في نفوس الناس بالقائد ويدل على ثباته وحزمه، والتراجع عن القرار والتذبذب فيه يشيع روح التخاذل والتشكيك بقدرة القائد على الثبات والاستمرار في قراراته.

  • الدرس الثالث:

العبقرية العسكرية للقائد والمتمثلة بأمر الرسول “ص” بوقوف الرماة الخمسين على باب الشعب، حتى لا يأتي كمين المشركين من هنالك، فقد كان يعلم النبي “ص” أهمية هذا الباب وخطورته في المعركة وإنّ تحصينه سيعجل بالنصر بالمسلمين، ومن هنا أكد على الرماة بالمحافظة على توازنهم والثبات في مكانهم حتى لو إنتهت المعركة تماماً، بل حتى بلغت فلول المشركين مكة.

وبالفعل فان الفراغ الذي خلّفه انسحاب الرماة عندما رأوا المسلمين ينتهبون أموال المشركين كان السبب في انقلاب نتيجة المعركة، حيث نزل خالد بن الوليد من موضع الكمين، وأحاط برسول الله “ص” ومن معه من ورائهم وقتلوا من المسلمين مقتلة عظيمة.

  • الدرس الرابع:

خروج النبي “ص” إلى حمراء الأسد لإرهاب المشركين فلم يدع نكسة أحد تفوت دون تلافي وقعها وأصدائها في نفوس المسلمين.

فخرج المسلمون يومئذٍ لمواجهة عتاة قريش كالأسد الجريح الغاضب وقد هابهم المشركون وعادوا إلى مكة، ولم تسقط انتكاسة أحُد هيبة المسلمين في نفوس المشركين.

  • الدرس الخامس:

استغلال الجانب الإعلامي للحرب، وهذا الدرس يتجلى في تجنيد شخصية (معبد الخزاعي) وكان مشركاً، ولكنه على كفره كان يحب النبي “ص” فأقبل إليه وهو يقول والله يا محمد، لقد عزّ علينا مصابك في قومك وأصحابك… ولما عرف قصد النبي “ص” وإنّ خروجه لم يكن إلاّ لإرهاب المشركين خرج من عند النبي “ص”، ليتلقى أبا سفيان وصحبه يجبّنهم من قتال النبي”ص”… فانطلق إلى المشركين وخاطبهم قائلاً: إنّ محمداً قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقاً ويلتهبون غيظاً… ولم يزل يجبنهم بكلماته وأشعاره ويخوفهم من رسول الله “ص” وجيشه إلى أن ثبطهم عن عزمهم على العودة، وملأ قلوبهم الرعب([18]).

وهذه هي الحرب النفسية التي لم تلتفت إليها القيادات العسكرية إلاّ مؤخراً فصارت جزءاً أساسياً في كسب المعركة.

لقد استطاع رسول الله “ص” بهذه القيادة الفريدة في أن يعالج سريعاً الآثار النفسية التي خلفتها نكسة أحد وأن يمتص الشعور بالهزيمة من نفوس المسلمين، وذلك من خلال تعليمات القرآن بالرجاء بالله، والنظرة الكونية الشاملة إلى مسألة النصر والهزيمة، والمواقف القيادية الحكيمة والمبادرات القيادية.

وقد استلهم المسلمون هذه الدروس، وتجاوزوا الإحساس بالهزيمة في العودة إلى مواجهة المشركين في حمراء الأسد، ونكوص المشركين عنهم.

وحوّل القرآن هذه الهزيمة إلى نصر، ليس في المستقبل البعيد أو بعد شهور وسنين، وإنما أشعرهم القرآن بالنصر والجروح ما تزال عالقة نازفة على أجسادهم أي بعد يوم واحد من نكسة أحد، وبتلك التعبئة النفسية استجمع المسلمون قواهم وأدركوا أنّ الفرصة ما تزال سانحة أمامهم.

فأي قيادة تستطيع ذلك وبهذا الزمن القياسي؟!

إنها قيادة القرآن التي تشحن الهمم وتجدد الطاقات، وتوحد المشاعر، وتجمع النفوس المهزومة، لكي تتوثب وتستعيد موقعها الحقيقي.

وبالفعل فقد انهزم المشركون وهربوا إلى مكة، وعاد المسلمون إلى المدينة متوجين بهذا الانتصار السريع، ومستفيدين من الدرس القاسي الذي تعلموه في ساحة المعركة، وفي مدرسة القرآن التي كشفت لهم أسرار النصر وقوانينه التي هي سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل.

اقرأ أيضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] ـ آل عمران: 159.
  • [2] ـ التوبة: 103.
  • [3] ـ بحار الأنوار 48: 102، ورواه الشيخ المفيد في الإرشاد: 297، والطبرسي في أعلام الورى: 216.
  • [4] ـ فصلت: 34.
  • [5] ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17: 51.
  • [6] ـ نهج البلاغة3: 87.
  • [7] ـ آل عمران: 200.
  • [8] ـ الميزان 4: 91.
  • [9] ـ التوبة: 94.
  • [10] ـ بلاغة الإمام علي بن الحسين “ع” للشيخ جعفر الحائري: 57.
  • [11] ـ تفسير الميزان 4: 92.
  • [12] ـ تفسير مجمع البيان للطبرسي 2: 376.
  • [13] ـ تفسير مجمع البيان للطبرسي 2: 379، الكافي 8: 110ح90.
  • [14] ـ السيرة النبوية لابن هشام 3: 90، المغازي للواقدي 1: 235.
  • [15] ـ النساء: 104.
  • [16] ـ آل عمران: 139 ـ 142.
  • [17] ـ الوجيز للأندلسي 1: 500، تفسير القرطبي 4: 253، تفسير الثعالبي 2: 100.
  • [18] ـ تاريخ النبي أحمد “ص”: 81 ـ82.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى