ثقافة

التراث الإداري في سيرة رسول الله “ص”

أكد القرآن عصمة رسول الله “ص”، يقول تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى}([1]) فتكون سيرته بهذه العصمة الإلهية هدى وبصيرة.

وقد عاش رسول الله “ص” في وسط المجتمع يومئذ، رسولا، قائدا يهدي الناس إلى الله، ويدخل الحروب، ويعقد الصلح، ويقيم التحالفات، ويجبي الأموال، ويتعامل مع الناس في السراء والضراء, ويعادي ويصالح، ويسالم ويقاتل.

إنها الثورة الكبرى في حياة البشرية عندما تتولى الرسالة الإلهية قيادة المجتمع البشري قيادة فعلية مباشرة، على يد قائد معصوم وتدعو الإنسانية للدخول في هذا النور الذي شعّ في الجزيرة العربية.

ولا تتم كل هذه الإنجازات العظيمة إلاّ بإدارة مؤيدة من جانب الله، ومسدّدة، وحازمة، وصحيحة، وحكيمة، ولما كانت هذه الإدارة معصومة في السراء والضراء فإن السيرة النبوية ستكون مصدراً للثقافة الإدارية الصحيحة في حياة البشرية كلها، لأن القيادة المباشرة التي مارسها النبي “ص” خلال ثلاث وعشرين سنة من عمر الدعوة والدولة لم يسجل لها التاريخ إخفاقاً واحداً.

وإذا واجه المسلمون بعض الإخفاقات كالذي حصل في معركة أحُد فالسبب يعود إلى مخالفة توجيهات هذه القيادة المعصومة.

إن الإنسان ليشعر بالاعتزاز عندما يقرأ السيرة النبوية، فيرى أن رسول الله “ص” يقدم القيم الأخلاقية على الإنجازات العسكرية، ويوازن بين متطلبات الساحة العسكرية ومتطلبات القيم الأخلاقية التي غرسها الله تعالى في نفوس الناس، ويريدها نظاماً عاماً لحياة الناس، والدين الصحيح والقيادة الصحيحة هي التي تجمع بين متطلبات الساحة الموضوعية، ومتطلبات الضمير الإنساني، والقيم التي غرسها تعالى في نفوس الناس.

ويعتز الإنسان عندما يقرأ: أنّ رسول الله “ص” أمر بإطلاق سراح الأسرى من بدر مقابل تعليم المسلمين القراءة والكتابة، وليس مقابل أن يبنوا أو يزرعوا في المدينة.

إن التقدير الفائق للعلم هو التقدير العظيم للإنسان، جلس المسلمون والأسرى في مدرسة واحدة، لكي يتعلموا القراءة والكتابة، ولم تأنف القيادة أن يكون المشركون أساتذة للمسلمين، إذا كان ذلك يصب في خدمة الإسلام.

وإليك طرفاً من الثقافة الإدارية في سيرة رسول الله “ص”.

1ـ سياسة اللاعنف في مكة

ينبغي أن نعرف في الظروف الصعبة التي واجهها رسول الله “ص” قبل الهجرة وبعدها… الأسلوب الذي اتبعه “ص” في ترحيل الدعوة والمواجهة في هاتين المرحلتين.

اتبع رسول الله في المرحلة الأولى من الدعوة (سياسة اللاعنف) والغض عن عدوان قريش واعتدائها على المسلمين، فلم يكن للمسلمين يومئذ القدرة على مواجهة قريش ورد العدوان إليهم بالمثل، ولو كانوا يقومون بشيء من ذلك لم تُبق لهم قريش بقيةً في مكة واستأصلتهم وأبادتهم…

فكان رسول الله يأمر بان يكفّوا أيديهم عنهم ولا يقابلوهم بالمثل ولا يأذن لهم بالانتقام والمقابلة.

وكان “ص” يمر بمشاهد لعذاب ضعفاء المسلمين من أمثال: آل ياسر، وخباب ابن الارت، وبلال فيأمرهم بالصبر ولا يأذن لهم بالمواجهة والمقابلة ورد العدوان بمثله.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}([2]).

وكانت هذه الفترة هي أشدّ فترات الدعوة على رسول الله “ص” ومن معه من المسلمين.

والتاريخ يبرز صوراً لأولئك الصابرين فيذكر بلال بن رباح الحبشي، بلالاً الذي كان عبداً مملوكاً لأمية بن خلف الجمحي فاستنشق عبق الحرية والكرامة المفقودة على يد رسول الله “ص” وأصحابه… فالتحق بالركب وواصل المسير.

لقد أطّلع أمية بن خلف على ذلك، فراح يعذب بلالاً: (فكانت إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرمضاء على وجهه وظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره)([3]).

ويعذب خبّاب بن الارت التميمي، وكان أبوه من السبايا الذين بيعوا في مكة، وهو من المسلمين الأوائل الذين بادروا إلى التصديق برسول الله “ص”، فأخذه الكفار، وعذبوه عذاباً شديداً، فكانوا يعرونه، ويلصقون ظهره بالرمضاء ثم بالرضف ـ وهي الحجارة المحماة بالنار ـ ولووا رأسه، فلم يجبهم إلى شيء مما أرادوا منه.

إنها الإدارة الراشدة للدعوة وتفقه أصول المواجهة في الساحة، فتقف وتُحْجِمُ عندما لا تكون الظروف الموضوعية سانحة، وتقتحم الساحة عندما تتهيأ الظروف لذلك.

2ـ الهجرة بحثاً عن منطقة آمنة لانطلاقة الدعوة

أمر رسول الله “ص” المسلمين بالهجرة لمّا ضاقت بهم الأرض، وأصبحوا مهددين بالفناء من قبل عتاة قريش… وكانت الهجرة يومئذٍ ضرورية.

وقد تحقق ذلك في الهجرة الأولى إلى الحبشة بعدما أمر رسول الله “ص” أصحابه بالهجرة إليها لوجود الملك العادل، وكانت هذه الهجرة استطلاعا ومحاولة لفك الاختناق عن الدعوة في مكة، وكان جعفر بن أبي طالب “ع” يرأس الجماعة المهاجرة في الهجرة الأولى.

 وأما الهجرة الثانية فقد كانت إلى المدينة، وهي تختلف في ظروفها عن الهجرة الأولى، لأن الغاية الأساسية من الهجرة إلى الحبشة المحافظة على أرواح المؤمنين من بطش قريش، وأما الهجرة الثانية فكانت نقلة نوعية في مسيرة الدعوة, ومرحلة جديدة في هذه الحركة، وفي هذه الهجرة انتقلت الدعوة من مرحلة اللاعنف إلى مرحلة المواجهة والمقارعة, ومن مرحلة الدعوة إلى مرحلة السيادة والحكم… وهذه النقلة, نقلة نوعية كبيرة في حركة الدعوة.

3ـ تحصين دار الهجرة

لم تكن المدينة ممهدة بشكل كامل لبناء الدولة الإسلامية على الرغم من قناعة جماعة من أهلها بالدين الجديد، ولكن هؤلاء كانوا لا يمثّلون (يثرب) بأكملها، فهناك اليهود الذين يهيمنون على الحالة الاقتصادية فيها، ويحتكرون الزراعة والتجارة والصناعات الهامة لأنفسهم في يثرب.

وهناك أيضا المشركون الذين يتربصون الدوائر بهذه الدولة الفتية للقضاء عليها.

فكان لابد لرسول الله “ص” أن يقوم بجملة من الإجراءات الوقائية حتى يكون البناء قائماً على أساس رصين.

فكيف واجهت القيادة هذا الخطر المحدق، وما هي الأعمال التي قام بها رسول الله “ص” لحماية مجتمع المدينة؟

4ـ المؤاخاة

كانت خطوة المؤاخاة خطوة هامة في بداية التنظيم الاجتماعي لإزالة الحواجز النفسية بين الأفراد ثم بين الجماعات.

قام الرسول “ص” بالمؤاخاة بين المسلمين المهاجرين أولاً، ثم آخى بين المهاجرين المكيين وبين الأنصار من أهل يثرب وكانت مؤاخاة وثيقة مؤكدة.

وبهذا الإجراء ضمنت القيادة تماسك المجتمع المدني، فلا يمكن أن يقوم رسول الله “ص” بنشر الإسلام والدعوة إليه خارج المدينة والتصدي للأعداء التقليديين المكيين ومجتمعه منقسم على نفسه، لأن هجرة المسلمين أضافت حالة اجتماعية جديدة إلى الحالة القائمة في يثرب، يضاف إلى ذلك الانقسام الشديد بين الأوس والخزرج الذي بلغ حد التقاتل لسنوات عديدة.

ولكي يكون مجتمع المدينة أكثر تماسكاً، طرح رسول الله “ص” مفهوم الأخوة الإيمانية الذي ألغى جميع الاعتبارات القبلية الأخرى.

هذا المفهوم الجديد الذي ارتقى بالأخوة من معناها النسبي المحدود القائم على التقارب بالدماء إلى المعنى السامي الذي يصهر النفوس في بوتقة الإيمان.

ولولا إجراء المؤاخاة لاستطاع اليهود اختراق الصف الإسلامي وإثارة روح العداء كما فعلوا ذلك بين الأوس والخزرج.

وهذا الدرس الأول المستفاد من قضية المؤاخاة.

وعلى القيادة الراشدة أولاً أن يحمي جبهته الداخلية ويضمن تماسكها قبل أن يفكر بالتصدي للأعداء الخارجيين.

ولا سبيل أمام رسول الله “ص” للتصدي لخطر اليهود المتماسكين فيما بينهم والمتحصنين بالأموال والمستعمرات الضخمة في قلاعهم سوى الوحدة الروحية بين المسلمين التي تقود إلى الوحدة الاجتماعية.

فإنّ القائد لا ينتظر حتى يجمع الأعداء أمرهم بل يحصن مجتمعه بما يتلائم مع حجم المواجهة المرتقبة.

وعندما جاء اليهود لزرع الفتنة وجدوا المسلمين كالجسد الواحد يشدُّ بعضهم بعضاً، كالبنيان المرصوص، فعجزوا عن اختراقه بأساليبهم التقليدية: الدس والمكيدة، وعندها أعلنوها حرباً عسكرية صريحة مع الرسول “ص”.

5ـ تهديد القاعدة الاقتصادية لمكّة

لقد كان لمكة ويثرب موقع هام قبل هذا الوقت في الحركة التجارية العالمية بين الشرق والغرب، ونقصد بالشرق الإمبراطورية الفارسية والبلاد التابعة لنفوذ هذه الإمبراطورية، ونقصد بالغرب الإمبراطورية الرومانية، وكانت الشام يومئذٍ تابعة للإمبراطورية الرومانية… وكانت القوافل التجارية تنطلق من اليمن إلى الشام، وتمر عبر مكة ويثرب، وكانت هاتان المدينتان بمثابة محطات استراحة تجارية آمنة لهذه القوافل، وكانت هذه القوافل التجارية الضخمة بمثابة مدينة تجارية متحركة في الصحراء ـ كما يقول بعض المؤرخين ـ وكان وضع مكة أهم وآمن من المدينة لهذه القوافل، وبطبيعة الحال كانت مكة تستفيد استفادة تجارية كبيرة من مرور القوافل التجارية عليها بين اليمن والشام.

وكانت مكة بالإضافة إلى أنها محطة استراحة للتجارة العالمية يومئذٍ كانت لها أسواق تجارية، تشبه المعارض التجارية اليوم، وكانت المدن المحيطة بأم القرى والقبائل المحيطة بها تقصدها للتجارة، وتعرض فيها منتجاتها اليدوية، وتشتري منها ما تحتاج إليه.

وكانت أسواق مكة التجارية معروفة يومذاك، وكان لأهل مكة تجارتان معروفتان مع الشام واليمن يسميها القرآن برحلة الشتاء والصيف.

ولم يكن دور رحلة الشتاء والصيف في تأمين حاجات مكة والعشائر والمدن المحيطة بها فقط، وإنما كان لتجارة مكة دور في إيصال بضائع الشام إلى اليمن، وبضائع اليمن إلى الشام.

فبادر رسول الله “ص” إلى تهديد الطريق التجاري الذي تسلكه قافلة قريش التجارية إلى كل من الشام واليمن وتم ذلك في معركة بدر… فقد استطاع أبو سفيان أن يساحل بالقافلة الذي يقودها وسلمت القافلة من مباغتة المسلمين.

ولكن الطريق التجاري التي تسلكه قوافل قريش لم يعد آمناً بعد ذلك لتجارة قريش إطلاقاً، ولم يعد تجار قريش يأمنون طريق البادية على تجارتهم، فإن الصراع التاريخي المعروف بين الفرس والروم في ذلك الوقت كان يمنع تجار كل من البلدين عن الوصول إلى البلد الآخر… وكان هذا الصراع فرصة جيدة لتجار مكة ورؤوس أموالها بالحركة بين هذين المركزين (اليمن والشام).

وكانت الصحراء رغم كل صعوباتها ممراً آمنا لهذه القوافل… كل هذه الأسباب مجتمعة جعلت مكة مركزاً تجارياً مرموقاً في الجزيرة كلها.

فلما انتقل المسلمون من مكة إلى المدينة بدأ رسول الله “ص” يخطط لتعريض تجارة قريش ومركزيتها التجارية للخطر، ويخطط لإلغاء دور مكة التجاري، وبذلك تفقد مكة وقريش موقعهم التجاري الخطير، وهو جزء مهم من قوة قريش ونفوذهم السياسي في الجزيرة.

إنها الحرب الاقتصادية التي تذهل الأمم وترهق النفوس العنيدة، وإنها القيادة الحكيمة التي تبصر مواضع الضعف عند العدو فتوجه الضربات التي تصعقه وتشتت جمعه.

ومنذ الأشهر الأولى للهجرة بدأ الرسول “ص” بهذا التهديد العسكري لتجارة قريش حيث أرسل السرية الأولى لاعتراض قافلة لهم، واتبعها بغيرها.

فاضطرت قريش بعد ذلك أن تسلك طريق العراق إلى الشام إذن لقد استطاع رسول الله “ص” أن يسلب الأمن من الطريق التجاري الرئيسي لقافلة قريش وهي وان سلمت من الهجوم إلاّ إن الطريق لم يعد منذ ذلك اليوم آمناً، ومن يرضى بالمغامرة بأمواله، فيرسلها مع قافلة مهددة في أي لحظة بالانقضاض المباغت عليها.

لقد سقطت تجارة المكيين وتزلزل موقعهم الاقتصادي وبدأت تلوح بالأفق نذر السقوط السياسي لكي يتحول موقع القوة من مكة إلى المدينة.

6ـ عنصر المباغتة في الغزوات

وقد برزت الدراية الإدارية لرسول الله “ص” أثناء خوض المسلمين معارك الجهاد مع الأعداء من خلال استخدام عنصر المباغتة مع الأعداء فكان إذا خرج للقتال لا يعلم بخروجه أقرب الناس إليه، وهذا ما حصل عند فتح مكة وفتح خيبر، لمفاجأة الطابور الخامس من اليهود والمنافقين وسائر الأعداء وإذهالهم، فلا يدع لهم مجالاً للاستعداد وتنظيم جيوشهم، إنه الانقضاض المفاجئ على العدو في لحظة غفلته وسكونه فلا ينتبه إلاّ وجيوش المسلمين تحيطهم.

وتجلت إدارة الرسول الحربية في حفر الخندق لتحصين المدينة من احتمال اقتحام الأعداء لها، وهذه هي المباغتة في الأسلوب.

والمباغتة الثالثة المباغتة المكانية للأعداء، ففي غزوة خيبر تحرك بجيشه نحو وادي الرجيع، ثم أرسل قوة صغيرة إلى ديار غطفان يقصدها، فانشغلت بنفسها عن إسناد يهود خيبر، وبهذا حال دون تعاونها، وراح يفتح حصون خيبر واحداً تلوا الآخر([4]).

7ـ بناء المسجد النبوي

أقام رسول الله “ص” المسجد ليكون منطلقاً للقيادة ومركزاً لبناء الدولة إلى جانب مهام المسجد العبادية والفكرية، فكان المسجد مجمعا للمسلمين, ومدرسة, ومحلاً للعبادة, وملتقى يجمعهم, ومقرا للقيادة السياسية والعسكرية, ومثابة للمسلمين.

اقرأ أيضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] ـ النجم: 3 ـ 4.
  • [2] ـ النساء: 77.
  • [3] ـ الكامل لابن الأثير 2: 66.
  • [4] ـ سيرة رسول الله وأهل بيته 1: 268.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى