ثقافة

القيمة الحركية للإيمان، والهجرة، والجهاد

الفكر الحركي والعمل الحركي:

الإيمان فكر حركي، والهجرة والجهاد عملان حركيان، ونحن في البدء لابد أن نعرف المقصود من الفكر الحركي والعمل الحركي، والفرق بينهما وبين الفكر والعمل غير الحركيين.

الفكر على أنحاء مختلفة:

فمن الفكر (التابع) الذي يساير التيار، والفكر (الفاعل) الذي يخترق التيار ويخلق التيار، والفكر (الهجين) الذي يلفقه أصحابه، من مجموعة من الأفكار على أساس التلاقي والتفاهم والترضية والمصالحة بين الأفكار، والفكر (الأصيل) والنقي الذي يرفض التلفيق.

والفكر (المدافع) الذي لا يملك مقومات المبادرة بالهجوم، وإنما يقتصر دوره على الدفاع عندما يتعرض للهجوم، والفكر (المهاجم) الذي يقتحم حصون الخصوم، ويدخل عليهم عقر دارهم ليغزوهم فيه.

والفكر (المتحفظ)، والفكر (الاقتحامي)، ومن هذه التقسيمات: الفكر (الحركي) والفكر (غير الحركي).

ولابد من توضيح لمفهوم الـ (الحركيّة) في الفكر والعمل، فهو مصطلح جديد في الفكر المعاصر، ولكنه مفهوم قديم، وسوف نجد أن القرآن يتعرّض لهذا المفهوم في أكثر من آية، وربما لأول مرة، في تاريخ الفكر والحضارة البشرية.

ونقصد بـ (الحركيّة): الفكر والعمل الذي ينهض بدور التغيير في البنية الاجتماعية والفكرية والسياسية في المجتمع.

إن (الحركية) في الفكر والعمل هدم وبناء: هدم للمؤسسات القائمة، وبناء جديد لهذه المؤسسات، وليس الهدم فقط (حركة)، وقد يكون الهدم نافعاً ومفيداً، ولكنه لوحده شطر من الحركة وليس كل الحركة، إن لم يقترن بدور إيجابي في البناء. و(البناء) وحده ليس بحركة، وقد يكون البناء مفيداً ونافعاً، كالمؤسسات الخيرية والعلمية المنتشرة في المجتمع، فهي مؤسسات خيرية وعلمية نافعة ومفيدة للمجتمع، ولكنها لا تهدم فكراً وثقافة قائمة فاسدة لتحل محلها، وتكون بديلة عنها على النهج الصحيح والصالح، ولذلك لا تواجه هذه المؤسسات والأعمال مواجهة قوية من قبل الوضع الفكري والحضاري والاجتماعي القائم.

بخلاف الفكر الحركي والعمل الحركي فإنهما يواجهان واقعاً فكرياً وعملياً قائماً في المجتمع.. بالهدم والنقض والتغيير، ليحلا محل الواقع الفاسد. وبطبيعة الحال يواجَه هذا الفكر والعمل البديل مقاومة عنيفة من قبل النظريات والمؤسسات القائمة في المجتمع.

المفاهيم الحركية الخمسة في آية الأنفال:

وفي آية الأنفال نلتقي خمسة مفاهيم حركية هي: (الإيمان)، و(الهجرة)، و(الجهاد)، و(الإيواء)، و(النصرة). يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}.

و(الإيمان) فكر حركي، لأنه يقوم على أساس الرفض والبناء: رفض كل سيادة غير ولاية الله تعالى على الإنسان، وإقامة وتشييد الولاء والحاكمية لله تعالى في حياة الإنسان على وجه الأرض.

و(الهجرة) و(الجهاد) عملان حركيّان، باتجاه إسقاط المؤسسات القائمة على الشرك، واستبدال هذه المؤسسات، واستبدال نظرية تعددية السيادة بالتوحيد، والمؤسسات القائمة على التوحيد.

وذلك لأن (الهجرة) إعداد للانقضاض على الشرك ومؤسساته ونقضه، و(الجهاد) انقضاض فعلي على الشرك ومؤسساته، فالهجرة والجهاد إذن: عملان حركيان، وتضيف إليهما آية الأنفال: (الإيواء) و(النصرة): {الَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ}.

وهما عملان يشتركان بالنتيجة مع الهجرة والجهاد، لأن (الإيواء) و(النصرة) دعم وإسناد لـ (الهجرة) فهما إذن ينضمان بالنتيجة إلى قائمة الأعمال الحركية ولا تتم الهجرة من دونهما.

فما لا يتم العمل الحركي إلاّ به يدخل في دائرة الأعمال الحركية.

يقول تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[1].

تفضيل العمل الحركي على العمل غير الحركي في القرآن:

في كتاب الله نلتقي آيتين تفضلان العمل الحركي على العمل غير الحركي في سورتي (النساء) و(التوبة)، ففي سورة النساء نقرأ:

{فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}[2].

والتفضيل في الآية الكريمة ليس للجهاد على القعود، وإنما لحالة القيام والحركة والجهاد، على حالة القعود، وهذا المعنى هو الذي يناسب قوله تعالى:{وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى}.

فإن (الحسنى) التي وعد الله تعالى بها المؤمنين تناسب العمل، إلاّ أن العمل على طائفتين: العمل الحركي والعمل غير الحركي، {وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى}، {وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.

والآية الثانية آية (التوبة)، يقول تعالى:

{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}[3].

وقد نزلت هذه الآية الكريمة عندما فاخر (العباس) عم رسول الله2 علياً× بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج فأنزل الله تعالى في ذلك هذه الآية في محكم كتابه.

وليس من شك أن عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج عملان صالحان، ولكن دون درجة مثلّث (الإيمان والهجرة والجهاد).

والأعمال الصالحة في حياة الناس لا تخلو من واحد من هذين النوعين.

نوع منها من قبيل الإيمان بالله والهجرة والجهاد، والنوع الآخر من قبيل عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج.

ويختلف القسم الأول من الأعمال عن القسم الثاني في نقطتين:

في القيمة والجهاد: فإن الأعمال الحركية نقض وبناء كما ذكرنا، فهي أعمال تأسيسية في قاعدة البنية الاجتماعية، بينما الأعمال غير الحركية، لا تحتلّ هذا الموقع الأساس من جسم المجتمع، مهما كانت نافعة وصالحة.

والمجتمع يتحول من قاعدة الشرك إلى التوحيد بالنوع الأول من الأعمال، وليس للنوع الثاني، هذا الدور القاعدي والأساسي في بناء المجتمع.. وقيمة العمل عند الله تعالى تناسب قيمته في حياة الناس وبناء المجتمع[4]، ولذلك يقول تعالى في هذه الطائفة من الأعمال: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.

هذا من حيث (القيمة)، وأما من حيث الجهد.

فإن العمل من النوع الأول يواجه مقاومة شديدة وقوية من قبل المستفيدين من الحالة القائمة، بينما لا تواجه الأعمال غير الحركية من النوع الثاني مثل هذه المواجهة.

وفيما سيأتي سوف نقدم لهذا الكلام توضيحاً من خلال كتاب الله.

التدين الحركي وغير الحركي

إن هذا التقسيم للأعمال الصالحة يؤدي بنا إلى تصنيف حالة (التدين) إلى حالتين: حالة حركية وحالة غير حركية، وكلاهما من التدين إلاّ أنهما لا يستويان عند الله، وكلاّ منهما يريده الله تعالى، ولكن بقيمتين مختلفتين، وبين هذا التدين وذاك فارقان اثنان تبيّنهما الآية السابعة من سورة الأنفال.

الفارق الأول بين التدين الحركي وغير الحركي:

يقول تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}[5].

وقد نزلت هذه الآية بعد معركة (بدر) التي أعز الله فيها المسلمين بالنصر، وفيها يذكّر الله تعالى المسلمين أن الله تعالى وعدهم قبل أن يخرجوا إلى (بدر) أحد الأمرين: إما الظفر بتجارة قريش التي كان أبو سفيان يحملها من الشام إلى مكة، وأما النصر الذي يعز الله تعالى به الإسلام، إلاّ أن الثاني منهما يكلفهم في الأموال والأنفس، ويثخنهم بالجراح، والأول لا يكلفهم في أموالهم وأنفسهم شيئاً، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}، وقد كان المسلمون يومئذ يؤثرون الأول منها على الثاني، ويؤدّون أن يرجعوا إلى بيوتهم في المدينة بتجارة قريش، وليس بفقد أبنائهم وأزواجهم وإخوانهم، وقد علم الله تعالى ذلك من نفوسهم ونياتهم، رحمهم الله {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}.

وتذكرهم آية الأنفال بأن الإنسان لو ترك وشأنه فهو يؤثر العافية في الدنيا على الحياة ذات الشوكة، إلاّ أن الله تعالى يريد لهم غير ما يريدون لأنفسهم من العافية، وشتان بين ما يريده الله تعالى للمؤمنين من نصر وعز لا يتحقق إلاّ بذات الشوكة، وبين ما يريده الإنسان لنفسه من عافية، لا يتحقق إلاّ بالهوان والذل.

تقطيع وتبديل نسيج العلاقات:

إن أعمالاً من قبيل (عمارة المسجد الحرام) و(سقاية الحاج) لا تكلّف الإنسان كثيراً، ولا تسلب استقراره وسلامته وأمنه، ولا تعرّض حياته للخطر، ولا تعرّض علاقاته الاجتماعية والعائلية والمالية والسياسية للتقطيع والتبديل، بينما نجد أن أعمالاً من قبيل الهجرة والجهاد تعرّض الإنسان لمتاعب كثيرة، وتقطع علاقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتستبدلها بنوع آخر ونسيج آخر من العلاقات الوطنية والأسرية والعائلية، وهذا التقطيع والتبديل لنسيج العلاقات من أشق الأعمال على الإنسان. يقول تعالى في وصف المهاجرين: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[6].

إن الإيمان والهجرة والجهاد تفتت وتقطع كل خيوط العلاقة في حياة الإنسان وتنسجها نسجاً جديداً، على أساس وفهم جديدين للحياة.

يقول تعالى عن هذا التبديل الذي يحدثه الإيمان في نسيج العلاقات في حياة الإنسان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[7].

{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[8].

وقد يقاتل الإنسان في ساحة الجهاد أقرب الناس إليه وألصقهم به، من آبائه وإخوانه وأبنائه.

يقول أميرالمؤمنين×: >ولقد كنا مع رسول الله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، وما يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً، ومضيّاً على اللقم، وصبراً على مضض الألم، وجداً في جهاد العدو، ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين ويتخالسان أنفسهما، أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون فمرّة لنا من عدونا، ومرّة لعدونا منا، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر<[9].

ويقول زين العابدين علي بن الحسين×: >اللهم وأصحاب محمد2 خاصة، الذين أحسنوا الصُحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، فلا تنسى لهم اللهم ما تركوا لك وفيك، وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك<[10].

الفارق الثاني:

يقول تعالى: {وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}.

إن طريق ذات الشوكة التي اختارها الله للمسلمين يومئذ ببدر، وان كان قد كلفهم كثيراً في أموالهم وأنفسهم وعلاقاتهم، وشق عليهم، ولكن الله تعالى أراد أن يرسّخ بهم قواعد هذا الدين والتوحيد والحق على وجه الأرض، ويقطع بهم دابر الكافرين، وشتان بينما كانوا يريدون لأنفسهم من عافية رخيصة هينة وما كان الله تعالى يريد لهم، من قوة ومنعة وشوكة وعزة.

إن المسلمين الذين عاشوا ظروف التقشف والجهاد في المدينة، وظروف الحصار والاضطهاد والمطاردة في مكة.. غيّروا وجه التاريخ، وفتح الله تعالى بهم الأرض بينما نجد أن أبناءهم الذين شيّدوا قصور قرطبة وغرناطة وأحيوا ليالي الشام وبغداد الساهرة في السكر والطرب أضاعوا ثمرات جهود الآباء وجهادهم.

أنحاء التدين:

وخلاصة القول إن التدين على نحوين:

تدين وديع وهادئ ومريح، لا يكلف الإنسان في ماله وعافيته ونفسه واستقراره، وتدين شاق وعسير، يكلف صاحبه نفسه ونفوس أحبائه وماله وعافيته وأمنه واستقراره وعلاقاته وشمله.

والأول لا يغير من واقع الحياة شيئاً، ولا يحق حقاً، ولا يبطل باطلاً، بل لا يشعر به أحد، ولا يمس مصالح أحد بسوء، ولا يتبنى الدفاع عن ظلامة مظلوم ولا يرفع صرخة مضطهد معذب في الأرض، والثاني هو التدين الذي يغير وجه الحياة، ويفك الآصار والأغلال من الناس ويقتحم، ويخترق الحواجز والعوائق، ويحق الحق على وجه الأرض ويبطل الباطل، وإن كره الظالمون.

وهناك التدين الضعيف والخجول، وفي مقابل التدين القوي والشجاع والجريء، والتدين المسالم وتدين الصراع والمواجهة والتحدي، والتدين الذي يعدل بصاحبه من ساحة المجتمع، والتدين الذي ينقل صاحبه إلى ساحة المجتمع، والتدين الذي يدفع بصاحبه إلى التضحية بعمره وماله ونفسه وعافيته وراحته.

والتدين الذي يوازن به صاحبه بحساب دقيق بين الدين والدنيا، فلا يفرط بهذا من أجل ذاك، ويجمع بينهما، ويحتفظ بهما بموازنات دقيقة، والتدين الذي لا يريد به صاحبه إلاّ وجه الله تعالى، والتدين الذي يكافح صاحبه المكر والظلم، والتدين الذي يسعى صاحبه إلى المكر والظلم، والتدين الواقعي، الذي يتعامل مع الواقع، والتدين المثالي الذي يتهرب من الواقع، والتدين الخامل الذي لا يترك أثراً في واقع حياة الناس، والتدين الحركي الذي يغير ويبدل وجه الحياة إلى ما يريده الله تعالى.

دور الهجرة في نسيج الولاء

وهذه النقطة هي القضية القائمة في آية الأنفال المباركة، وهي علاقة (الهجرة) بـ (الولاء).

إن (الهجرة) في هذا الدين من أسس الولاء وأصل في ولاء الأمة المسلمة، ولا ولاء من دون الهجرة وتقرر آية الأنفال هذا الإيجاب والسلب في علاقة الهجرة بالولاء.

فمن حيث الإيجاب يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}.

والإيواء والنصرة يحلّ محل الهجرة، ويدخلان في تكوين نسيج الولاء، ولا يمكن الهجرة من دونهما.

ومن حيث السلب يقول تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ}.

لماذا؟ لأن هذه لا تواجه الكفر مواجهة نظرية، فكرية، مجردة وإنما تواجهه على الأرض، وفي مساحة الواقع الاجتماعي، والكفر أمة واحدة، يرتبط بعضهم ببعض بعلاقة عضوية مقاومة، تحفظ أمة الكفر من التشتت والتفرق في مواجهة حركة التوحيد، وقد يختلف الكفار فيما بينهم، وتُفَرِقُّهُم وتُشَتّتُهُم مصالحهم ولكن عندما يواجهون الدعوة إلى الله، ينضم بعضهم إلى بعض، ويتكتلون كتلة واحدة، وأمة واحدة في مواجهة الدعوة، فيتضامنون في الموقف السياسي، والمواجهة العسكرية والإعلام، والأمن، والاقتصاد، ويدعم بعضهم بعضاً، ويتناسون ما كان بينهم من خلاف.

ويقرر القرآن الكريم هذه الحقيقة بشكل واضح. يقول تعالى: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}.

إذن طبيعة العلاقة بين شرائح الكفر علاقة عضوية حركية صُمِمت من ناحية الكفار للمواجهة والصدام والصد عن سبيل الله، وهذه حقيقة موضوعية في ساحة المواجهة لا سبيل إلى التشكيك بها، والحقيقة الأخرى التي لابد أن نذكرها أن حركة التوحيد لا تتحرك في فراغ، وإنما تتحرك في مساحة نفوذ وسلطان أئمة الكفر، ولذلك فإنها سوف تثير سخط أئمة الكفر، وتعرض مصالحهم ومواقع نفوذهم لتهديد حقيقي. وردّ الفعل المتوقع من ناحية أئمة الكفر في مواجهة الدعوة إلى الله هو مواجهة عنيفة يسلك فيها المستكبرون كل المسالك التي تمكنهم من القضاء على حركة الدعوة، وصدها.

ولذلك فإن المبادرة التي ينهض بها الأنبياء^ في دعوة الناس إلى الله سوف تجهض بقوة وعنف، وما لم تُعِدّ الدعوة نفسها لصدّ هذه المواجهة وإزالتها فلا تستطيع أن تمتد على وجه الأرض، ولن تستطيع أن تنفذ إلى عقول الناس وقلوبهم.

ولكي تتمكن الدعوة من مواجهة هذه الحركة المضادة لابد أن تكون على درجة عالية من (التماسك العضوي) و(الكفاءة الحركية).

وهذان الأمران (العلاقة العضوية) و(الكفاءة الحركية) هما أساسان في بناء الأمة المسلمة التي تريد أن تنهض بدعوة التوحيد وتمتد على وجه الأرض… بالإضافة إلى عنصر (الإيمان) الذي سبق أن تحدثنا عنه.

علاقة الولاء:

العلاقة العضوية هي رابطة (الولاء) بين المؤمنين، وهي كما يقررها الله تعالى أمتن نسيج في شبكة العلاقات، تمتلك قدرة كبيرة على المقاومة وكفاءة عالية على المواجهة في ساحات الصدام والقتال، وقد صمّمت هذه العلاقة داخل الأمة المسلمة لمواجهة الظروف الصعبة والأعاصير التي تثور في وجه الدعوة في كل حين.

ولولا هذه المتانة والقوة في نسيج العلاقة داخل الأمة المسلمة لم تتمكن من أن تنهض برسالة الله تعالى في وجه الجاهلية، وتمتد على مساحة نفوذ الشرك وسلطانه.

قد يتحرك جماعة من الناس على أرض صلبة منم دون أن يتعلق بعضهم ببعض، فإذا واجهوا إعصاراً قوياً في عمق واد بعيد تمسّك بعضهم ببعض لئلا ينفرطوا، وإذا تسلقوا الجبال الصعبة يشد بعضهم نفسه ببعض بالحبال ليحفظونه إذا انزلق وسقط، ويحفظهم إذا انزلقوا وسقطوا.. وهذه قاعدة في كل حركة صعبة.

إن حركة الدعوة على أرض ذات الشوكة، وفي مواجهة عنيفة ضارية لأعداء الله، وهم أمة متضامنة فيما بينها، في كل شيء من ضرورات المعركة فلابد أن يكون نسيج العلاقة داخل الأمة المسلمة متينة وقوية ومقاومة.

وقد صممت هذه العلاقة في هذا الدين لهذه الغاية، ولذلك فهي تمتلك كل ما تحتاجه هذه المعركة من كفاءة وقوة ومتانة وإحكام.

يقول تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}[11].

ويقول تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[12].

ويقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[13].

ويقول تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}[14]. ويقول تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}[15].

وعن رسول الله2: >المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدّ بعضه بعضاً<[16].

وعنه2: >مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى<[17].

وعنه2: >لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه<[18]. وعنه2: >المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم<[19].

وقد حرّم الله تعالى على المسلمين أن يهتك بعضهم حرمة بعض إلاّ بالحق، وخطب رسول الله2 بالخيف من منى، وقال في ملاء من المسلمين يومئذ: >فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه، فيسألكم عن أعمالكم <[20].

الهجرة:

والبعد السياسي لهذه الأمة من غير الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين هو (البعد الحركي)، ويتجسّد في الهجرة والجهاد.

والهجرة إعلان للانفصال عن الكافرين، والجهاد مواجهة لهم، ومن دون هذا الانفصال والمواجهة لا يستقيم أمر هذا الدين.

وحيث ينتهي الحوار فيما بين الطرفين إلى حدّ التقاطع فلابد من هذا الاعتزال والانفصال.

ويحدثنا القرآن عن قصة إبراهيم× عندما أعلن البراءة من أصنام قومه أنهم طلبوا منه أن يهجرهم، وأعلن لهم أنه سوف يعتزلهم وما يعبدون من دون الله: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً}[21].

وعن فتية أهل الكهف عندما أعلنوا البراءة عن قومهم وما يعبدون من دون الله يقول تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً}[22].

علاقة الهجرة بالولاء:

وتدخل الهجرة في تكوين نسيج (الولاء)، ومن لا يهاجر من المسلمين ـ حيث تجب الهجرة ـ لا يدخل في شبكة الولاء، ولا يكتسب حقوق هذه الشبكة، فإن شبكة الولاء هي الشبكة الواقية لهذا الدين، وهي التي تمكن الأمة المسلمة من أن تنهض برسالتها على وجه الأرض، ولا يتكامل نسيج هذه الشبكة إلاّ في الهجرة، ومن غير الهجرة يتعرض نسيج هذه الشبكة في كل حال للتفتت والتشتت والتخريب.

فمن لم يهاجر ليس له دور في تكوين هذا النسيج، وبالتالي ليس له دور في تكوين هذه الأمة، فلا يحق له أن يدخل ضمن هذا النسيج،ولا يدخل فيه إلاّ من ساهم في صنعه.

ويقرر القرآن هذه الحقيقة بصورة واضحة، تأبى الترديد والتشكيك، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ}.


أقرأ ايضاً

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الحشر: 9.
  • [2] ـ النساء: 95 ـ 96.
  • [3] ـ التوبة: 19 ـ 20.
  • [4] ـ إذا توفر قصد القربة للمكلف في كل منهما على نحو سواء فإن قصد وجه الله تعالى هو الغاية والأساس الأول في تقسيم العمل، والتقسيم الذي ذكرناه للعمل الصالح يأتي بعد هذه الغاية.
  • [5] ـ الأنفال: 7.
  • [6] ـ الحشر: 8.
  • [7] ـ التوبة: 23.
  • [8] ـ التوبة: 24.
  • [9] ـ نهج البلاغة، خطبة: 56.
  • [10] ـ الصحيفة السجادية، الدعاء 4.
  • [11] ـ التوبة: 71.
  • [12] ـ الأنبياء: 92.
  • [13] ـ الحجرات: 10.
  • [14] ـ الفتح: 29.
  • [15] ـ المائدة : 2.
  • [16] ـ مسند أحمد 4: 409 والبخاري 1: 123.
  • [17] ـ مسند أحمد 4: 270 وصحيح مسلم 8: 20 وكنز العمال 1: 149 ح737.
  • [18] ـ مسند أحمد 3: 278 وسنن الدارمي 2: 307 والبخاري 1: 9.
  • [19] ـ مسند أحمد 1: 122 وسنن أبي داوود 2: 488 والمستدرك للحاكم 2: 141.
  • [20]ـ الكافي 7: 273 ح12 ومجمع الزوائد للهيثمي 3: 273.
  • [21] ـ مريم: 46 ـ 48.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى