ثقافة

الضوابط الشرعية للانقطاع عن الدنيا

إنّ التعلق بالله تعالى يقطع الإنسان عن الدنيا، والتعلق بالدنيا يقطع الإنسان عن الله.

وهنا أيضا حافة دقيقة من حافات السقوط والانحراف، ولكي لا نقع في الانحراف الذي وقع فيه بعض أهل التصوف لابدّ أن نذكر هنا حقيقتين:

الحقيقة الأولى: إنّ التعلق بالله لا يعارض الاختلاط بالناس ومعاشرة الناس وإنما يعارض التعلق بالدنيا، فمن الممكن أن يعيش الإنسان في الدنيا وفي المجتمع، ويذهب إلى السوق والمدرسة والمعمل والدائرة ويعمل في السياسة، ولكن في نفس الوقت لا يكون متعلقاً بالدنيا، وعلامة التعلق الحزن والفرح، الحزن على فقدان الدنيا، والفرح بما يرزقه الله من الدنيا.

يقول تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} ([1]).

يقول أمير المؤمنين×: <الزهد كله بين كلمتين من القرآن {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}> ([2]).

إنّ التعلق غير المخالطة والمعاشرة والدخول في الحياة الاجتماعية.

نعم، قد يكون المخالطة والمعاشرة والدخول في الحياة الاجتماعية مضراً بالتعلّق بالله إذا أسرف الإنسان في ذلك.

وقد كان رسول الله”ص” يعيش مع الناس، ويتفاعل مع همومهم، ويدخل السوق، ويقابل الناس، وكان أقرب الناس إلى الله، ولم يتعلق قلبه بشيء من الدنيا قط.

والحقيقة الثانية: إنّ كل شؤون الحياة الدنيا كالدراسة والتجارة والسياسة والقتال والزواج والأكل والنوم والشرب والاختلاط والمعاشرة يمكن أن يقوم بها الإنسان في امتداد التعلق بالله، يقول تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ([3]).

فيكون كل ذلك في امتداد مرضاة الله، وإذا كان الأمر كذلك فإنّ أمثال هذه الممارسات ليس فقط لا تقطعه عن الله، ولا تحجبه عن الله، بل تعمّق حالة الإخلاص لله، وتعمّق حالة الإقبال على الله، من دون أن يحتجب صاحبه عن الحياة الدنيا، وقد كان رسول الله “ص” يحكم، ويقاتل، ويخالط الناس، ويبيع ويشتري، دون أن يكون لشيء من ذلك أثر سلبي على قلبه في الإخلاص والإقبال على الله، وقد كان رسول الله2 في القمّة من الإخلاص والإقبال ومن أقرب الناس إلى الله.

وإذا تبيّن هاتان الحقيقتان.

أقول: إنّ هذه غربة رابعة، وهي أن يعيش الإنسان في الدنيا وليس فيها قلبه، غريب عن الناس وهو في وسط الناس يتعامل مع الناس وليس مع الناس.

والناس يعيشون في الدنيا على نحوين النحو الأول من الناس أولئك الذين يعيشون في الدنيا بقلوبهم وأجسامهم وعقولهم، والنحو الآخر الذين يعيشون في الدنيا بأجسامهم وعقولهم وليس بقلوبهم.

ولتوضيح هذه النقطة نقول: (يعيشون مع الناس بأجسامهم) اعني: أنهم يخالطون الناس في مجالسهم ونواديهم وتجمعاتهم، (ويعيشون مع الناس بعقولهم) أي: أنهم يدخلون فيما يدخل فيه الناس من اكتساب الرزق والموقع في الأسواق وساحات المجتمع ضمن حسابات عقلية كما يدخل سائر العقلاء من أهل الدنيا، ولكن تبقى قلوبهم متعلقة بالله تعالى ولم تشغل الدنيا شيئاً من قلوبهم قط.

وهذه ميزتهم التي تفصلهم عن سائر الناس.

فالمتقون هم الذين يعيشون في الدنيا بأجسامهم وعقولهم، فهم <حلماء علماء أبرار أتقياء قد براهم الخوف بري القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، ويقول: لقد خولطوا! ولقد خالطهم أمر عظيم>([4])، (خولطوا) أي خالطهم الجنون، كالعاشق الولهان الذي يعيش مع الناس وقلبه عند من يعشق وهذا هو النحو الرابع من الاغتراب.

اقرأ أيضاً:


المصادر والمراجع

  • [1]ـ الأنعام: 162.
  • [2]ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20: 87.
  • [3]ـ الحديد: 23.
  • [4]ـ نهج البلاغة 2: 162.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى