ثقافة

أقسام الغربة

وللغربة أقسام أخرى هي غربة الوطن، الغربة الحضارية، غربة الخمول، وغربة الأنس بالله.

والغربتان الأولى والثانية، قهريتان، والثالثة والرابعة اختياريتان.

1ـ الغربة عن الوطن

الهجرة حالة قديمة في كلّ رسالات الله تعالى، لأن كلّ دعوة إلى التوحيد تواجه بقوة، وعنف من قبل المستكبرين لاستئصالها.

ولكي يسلم حَمَلة الدعوة من فتنة العذاب والاضطهاد، والبطش والفتك، وتسلم الدعوة من خطر الاستئصال لابدّ من (الهجرة) حتى تتمكن (الدعوة) من أن تستقر على الأرض، وتتكون سياسياً واجتماعياً وثقافياً.

إنّ الهجرة، ليست بحثاً عن الأمن فقط، وإنّما هي أيضاً بحث عن الوسط الملائم لتكوين الجماعة المسلمة… وليست فراراً من العدو بقدر ما هي بحث وسعي للوصول إلى موقع أفضل للانطلاق إلى مواجهة خصوم الدعوة، التي لابدّ منها على كل حال، وفي كل الحسابات.

وفي الهجرة يتم إعداد هذه الجماعة الفتية للمواجهة المسلحة، التي لابدّ منها على كل حال في العلاقة بينها وبين أئمة الشرك.

ومعاناة الغربة، عن الوطن معاناة شديدة يعرفها من قاساها، حيث يفقد الإنسان كل علاقاته الاجتماعية، وما ألفه وأنس به مرة واحدة.

ولهذه الغربة قيمة كبيرة عند الله.

عن رسول الله “ص”: <من هاجر في سبيل الله كان مع إبراهيم “ع” في الجنة>.

استمرار الهجرة:

والهجرة لا تنقطع لعدم انقطاع أسبابها من الدعوة إلى الله تعالى ومقاومة المستكبرين وجهادهم.

عن رسول الله “ص”: <أيها الناس، هاجروا وتمسّكوا بالإسلام فإنّ الهجرة لا تنقطع ما دام الجهاد> ([1]).

وعن رسول الله “ص”: <لا تنقطع الهجرة مادام العدو يقاتل> ([2]).

وعن جنادة بن أمية الازدي قال: هاجرنا على عهد النبي2 فاختلفنا في الهجرة فقال بعضنا: قد انقطعت، وقال بعضنا: لم تنقطع، فدخلت على رسول الله “ص” فسألته عن ذلك فقال: <لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار> ([3]).

واليوم حالة الهجرة واسعة، لأن حالة الهجرة تقترن مع الجهاد (ما قوتل الكفار) فلما عادت المواجهة مع الكفر عادت الهجرة من جديد، واتسعت دائرة الهجرة والغربة عن الوطن.

ولصعوبة الغربة ومعاناتها الشديدة عَدّ رسول الله2 الموت في الغربة من الشهادة في سبيل الله.

عن رسول الله “ص”: <موت الغربة شهادة> ([4]).

وعن رسول الله “ص”: <وما من مؤمن يموت في غربته إلاّ بكت عليه ملائكة السماء رحمة له، حيث قلّت بواكيه، وفسح له في قبره، بنور يتلألأ من حيث دفن إلى مسقط رأسه> ([5]).

ومن يمت في الغربة، يقع أجره على الله.

يقول تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} ([6]).

لمّا خرج رسول الله موسى”ع” هارباً من فرعون وقومه إلى (مدين) على الحالة التي ذكرها الله وهو غريب خائف جائع، فقال: يا رب، وحيد مريض غريب.

أوحى الله إليه: <يا موسى الفقير من ليس لـه مثلي كفيل، والمريض من ليس له مثلي طبيب، والغريب من ليس له مثلي مؤنس> ([7]).

الأخطار التي تهدد الهجرة في عصرنا

والهجرة اليوم حالة واسعة، تهددها أخطار حقيقية مثل خطر التغريب.

إنّ الهجرة إلى الغرب اليوم تحمل خطر الانصهار والاندماج الحضاري في الغرب للجالية المسلمة.

وعلى أصحاب الرأي والحل والعقد اليوم في العالم الإسلامي أن يحموا المسلمين من خطرين حقيقيين ملاحقة الحكام الظالمين واضطهادهم لهم في أوطانهم، والانصهار في الأقطار الغربية التي تأوي إليها الجالية المسلمة فراراً من اضطهاد الحكام، وأحيانا فراراً من الضائقة الاقتصادية في بلادهم.

2ـ الغربة الحضارية

الغربة الحضارية حصلت بعد الغزو الحضاري لأوطاننا وبيوتنا فأصبحنا غرباء في أوطاننا وبيوتنا.

وهذه الغربة ليست من قبيل الاغتراب عن الأهل والوطن وإنما حصلت لنا في أوطاننا وبلادنا وبين أهلينا وذوينا.

إن المسلم اليوم غريب في وطنه، يشعر بان الجو الذي يحيطه غير الجو الذي يألفه ويطمئن إليه، وان الثقافة التي يتلقاها في المدرسة والجامعة ومن خلال محطات البثّ، والتلفاز والصحافة شيء آخر غير ثقافة الإسلام… ويشعر أن المفاهيم الإسلامية والمصطلحات والأعراف والأخلاق والقيم والآداب الإسلامية أصبحت غريبة في بلاد المسلمين، وان الإسلام غريب، والصلاة غريبة، والصوم غريب، والعفاف غريب.

ويشعر انه يعيش في جوّ ثقافي وحضاري لا يألفه، وهو في وطنه وبين أهله وذويه.

فينقلب المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والقيم إلى أضدادها في مثل هذه الأجواء الغريبة، وذلك إذا تحول المسلم إلى شريحة من هذا المجتمع وهذه الحضارة، بأعرافها وأخلاقها وقيمها الجاهلية، فهذه هي الغربة المذمومة.

وأمّا إذا احتفظ المسلم بسلامة عقله وروحه وأخلاقه وثقافته، واحتفظ بحدود الله، ولم يدخل فيما يدخل فيه الناس، وتصدى للتغيير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يجرفه التيار، وحاول أن يغير مجرى التيار… فهذه هي الغربة المحمودة لقد بعث الله ورسوله2 ليعيد الناس إلى فطرتهم الأولى يوم خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان على الفطرة… فغيّر رسول الله2 الأفكار والأخلاق والقيم والمفاهيم والتصورات وقوانين الحياة إلى هيئتها وشكلها الأول يوم خلق الله الإنسان، بفطرته السوية… في عالم كله جهالة، وانحراف عن خط الفطرة، جاهلية في الثقافة والأخلاق والعلاقات ونظام الحياة ونظام التربية.

عن رسول الله “ص”: طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس كثير، ومن يعصهم أكثر ممّن يطيعهم.

وفي حديث آخر: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها للناس.

في هذه الغربة يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، عندئذٍ يتحول الصالحون إلى غرباء ويكون القابض على دينه كالقابض على الجمر.

وقد روي عن رسول الله “ص” في غربة الإسلام الأولى أنه كان يقول: <إن الزمان والسماوات قد استدارا كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض> ([8]).

كان المسلمون يعيشون في غربة كاملة، حتى انتشر الإسلام وترسّخت مفاهيمه وتحوّلت الغربة إلى أنس وألفة وتطابق مع الوسط الاجتماعي الذي تجسدت فيه قيم الإسلام وتصوراته وأفكاره ـ في بعض الحدود ـ.

فأصبح القاضي يحكم بالقرآن، والمساجد ترفع الآذان لإقامة الصلاة، وأصبح الحجاب عرف شايع، لا ينكره أحد، وبكلمة واحدة أصبح الواقع إسلامياً، بشكل تام، وصار المسلم يشعر بالانتماء النفسي إلى هذا الواقع، وبذلك انتهت فترة الغربة… ثم انحسر الإسلام من الساحة واشتد الانحسار حتى أصبحنا غرباء في بلادنا، غرباء في صلاتنا وثقافتنا وأخلاقنا ومصطلحاتنا وأعرافنا ولغتنا ودعاءنا.

ونحن نجد فيما روي عن حديث رسول الله “ص” إشارة إلى هذا الانقلاب الفكري والثقافي والحضاري في العصور الأخيرة للإسلام باتجاه معاكس للإسلام واليك بعض هذه الروايات:

عن رسول الله “ص”: <يأتي على الناس زمان وجوههم وجوه الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين كأمثال الذئاب الضواري سفاكون للدماء، لا يتناهون عن منكر فعلوه، وإن تابعتهم ارتابوك، وإن حدثتهم كذّبوك، وإن تواريت عنهم اغتابوك، السنّة فيهم بدعة، والبدعة فيهم سنّة، والحليم بينهم غادر، والغادر بينهم حليم، والمؤمن فما بينهم مستضعف، والفاسق فيما بينهم مشرّف… فعند ذلك يحرمهم الله قطر السماء في أوانه، وينزله في غير أوانه، ويسلط عليهم شرارهم، فيسومونهم سوء العذاب، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم> ([9]).

وفي بعض الأحاديث أن المنكر يكون معروفاً والمعروف يكون منكراً ([10])، إشارةً إلى الانقلاب في القيم والمواقف والأعراف.

وطبيعي في مثل هذه الأحوال أن الإنسان الملتزم الذي يلتزم بصلاته وصومه وقيمه وأعرافه يكون كالغريب، فلا يكاد يخرج من بيته إلى الشارع والى الأوساط الاجتماعية والى محل عمله ومحل دراسته حتى يجد كل شيء على غير الهيئة التي يقررها الإسلام ويخطط له.

وليس شيء في قبل هذه الظروف الصعبة أفضل واقرب إلى الله من أن يصمد إزاء هذا التيار ويحفظ نفسه وأهله من الانجراف معه، ويعمل على التصدي لهذا التيار لتغييره وتوجيهه بالاتجاه الصحيح، فهو كالصابر القابض على الجمر في معاكسته التيار، عن رسول الله “ص”: <يأتي على الناس زمان الصابر منهم على دينه كالقابض على الجمر> ([11]).

وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله “ص”: <يأتي على الناس زمان الصابر منهم على دينه له أجر خمسين منكم> ([12]).

وهذا الأجر المضاعف، خمسين مرة، لمن يقاوم التيار ولا يستسلم له، ولا ينجرف معه… عندئذ يكون أجره أضعاف أجر الناس يوم يكون الجو إسلامياً والثقافة إسلامية، خمسين مرة، ويكون حاله في الصبر والمقاومة وتحمل الظروف الصعبة كمن يقبض الجمرة بيده.

والمنهج السليم في مواجهة هذه الظروف الصعبة أن يحصّن المؤمنون أنفسهم بأنفسهم، من خلال التجمعات الصغيرة بين المؤمنين أنفسهم، والاهتمام بحضور الاجتماعات الإسلامية الموجهة مثل صلاة الجماعة والجمعة ومجالس الدعاء ومجامع المؤمنين والمجالس التي تنعقد في مناسبات أهل البيت “ع”… هذه التجمعات الصغيرة تمنح المؤمنين حصانة تجاه الوسط الاجتماعي الفاسد… هذا أولاً.

وثانياً: التعويض عن المؤسسات الاجتماعية الفاسدة مثل التلفاز والصحافة الفاسدة والسينما والمسرح بمؤسسات مشابهة لها سليمة، تؤدي نفس الهدف، بصورة سليمة وضمن حدود الله تعالى.

ومن أعظم العوامل التي تحصّن المؤمنين في مثل هذه الظروف الإيمان بالله، فان الإيمان بالله يبدل استيحاشهم إلى أنس وألفة، ووحدتهم إلى ثبات وطمأنينة.

وقد كان أمير المؤمنين “ع” يخاطب الناس، ويدعوهم إلى أن لا يستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله…

<أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس اجتمعوا على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل> ([13]).

ومثل هذه المائدة (التي شبعها قصير وجوعها طويل) لا ينبغي أن تصرف المؤمنين عن المائدة الإلهية إلى أعدّها الله تعالى للمؤمنين… إن المائدة الحقيقية التي ينبغي أن يجتذب المؤمنين هي مائدة القرآن، وإن قلّ من يرتادها.

وعليهم أن يعرفوا دائماً أن الإيمان حالة نادرة عزيزة، وأن المؤمنين، في مثل هذه الأوساط قلة نادرة عزيزة فلا توحشهم القلة، ولا يستوحشونها.

عن قتيبة الأعشى قال سمعت أبا عبد الله الصادق× يقول: <المؤمن اعز من الكبريت الأحمر فمن رأى منكم الكبريت الأحمر؟> ([14]).

وإذا كان الأمر كذلك، فلا محالة يكون المؤمن غريباً في مثل هذه الأوساط.

عن كامل التمار قال: سمعت أبا جعفر“ع” يقول: <والمؤمن غريب، ثلاث مرات> ([15]).

3ـ غربة الخمول

النوع الآخر من الغربة (الخمول)، وهي غربة اختيارية محمودة يبتعد فيها الإنسان المؤمن عن أسباب الشهرة والأضواء، فإن الأضواء الاجتماعيّة والسياسيّة والسمعة والاشتهار عند الناس، إذا لم تكن خالصة لوجه الله تعالى، تستهلك الإنسان لا محالة، وتستهلك اهتماماته، وتشغله عن الله تعالى شاء أم أبى… والاشتهار محرقة للعمر، ومجهود، إلاّ أن يكون في سبيل الله.

ومن هنا كان الصالحون من عباد الله يحرصون على تجنب الشهرة إذا أدت إلى الإخلال في علاقتهم بالله، وكانوا يحرصون على الابتعاد عن أسباب الشهرة حتى لا يشغلهم الناس عن الله، ولا يجد الشيطان إلى نفوسهم طريقاً، فإن في الشهرة والأضواء ثغرات كثيرة للشيطان إلى نفس الإنسان ومزالق كبيرة كالعجب والغرور والحسد ومراقبة الناس، فإن الاختلاط الكثير بالناس يؤدي إلى مراقبة الناس، ويشغل الإنسان عن الله وعن نفسه إلى اهتمامات وضيعة وحقيرة، يقول تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ([16])، وإنما يمنعنا الله تعالى من أن نمدّ عيوننا إلى ما متع الله به عباده لأنه يشغل الإنسان عن الله.

وهذه ليست دعوة للابتعاد عن الحياة الاجتماعية، واعتزال الناس وإنما هي دعوة إلى الاقتصاد في الاختلاط بالناس وتجنب الإسراف في الظهور والبروز في المجتمع ومخالطة الناس من غير ضرورة فإنها تحمل هذه السلبيات إلى الإنسان مهما حاول الإنسان أن يتنزه عنها.

وأهمّ هذه السلبيات أنّ الشهرة وما يستتبعها من الالتزامات الاجتماعية استهلاك للعمر والوقت، وتعريض للمزالق، والفتن، كالدخول في الحسد والغيبة وبغضاء المؤمنين والتنافر وأمثال ذلك من الابتلاءات الكثيرة.

 ونكرر مرة أخرى إن هذه التعليمات ليست بمعنى أن يعتزل الإنسان الناس والمجتمع… فهي حالة لا يُرغّب إليها الإسلام بالتأكيد، وفي النصوص الإسلامية ورد تأكيد كثير على الدخول مع الناس والاختلاط بهم والحضور في مجامعهم.

ولكن على أن يتم ذلك في غير إسراف، وان يتجنّب الإنسان تجمعات الفارغين والبطالين والفاسدين، أن يحرص الإنسان على عمره ووقته أن يهدره في مثل هذه الاجتماعات.

عن رسول الله “ص”: <إنّ الله يحب الأبرار الاخفياء الأتقياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يُدعوا ولم يُعرضوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة> ([17]).

وعن رسول الله “ص”: <ما قرب عبد من سلطان إلاّ تباعد من الله تعالى، ولا كثر ماله إلاّ اشتدّ حسابه، ولا كثر تبعه إلاّ كثر شيطانيه> ([18]).

وعن الإمام الصادق”ع”: <إنّ قدرتم ألاّ تعرفوا فافعلوا، وما عليك أن لم يثن عليك الناس؟ وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس؟ إذا كنت عند الله محموداً> ؟! ([19])

فكما أن الإسلام لا يدعو إلى الرهبانية بمعنى الانزواء، والهروب من الواقع كذلك لا يدعو إلى الاستغراق في مخالطة الناس والإسراف فيه، ويدعو إلى اجتناب المجالس والمحافل والاجتماعات التي تبعد الإنسان عن الله تعالى.

عن عبد الله بن سنان قال: قال: أبو عبد الله “ع”: <طوبى لعبد نومة، عرف الناس فصاحبهم ببدنه، ولم يصاحبهم في أعمالهم بقلبه، فعرفوه في الظاهر وعرفهم في الباطن> ([20]).

وعن الإمام علي”ع” ـ في وصف آخر الزمان ـ: <وذلك زمان لا ينجو فيه إلاّ كل مؤمن نومة، إن شهد لم يُعرف، وإن غاب لم يُفتقد، أولئك مصابيح الهدى وأعلام السرى.

ليسوا بالمساييح ولا بالمذاييع، أولئك يفتح الله لهم أبواب رحمته ويكشف عنهم ضرّاء نقمته>([21]).

قال الشريف الرضي في شرح كلمة الإمام “ع”: (كل مؤمن نومة) إنما أراد به خامل الذكر، والمساييح جمع مسياح الذي يسيح بين الناس بالفساد والنمائم، والمذاييع جمع مذياع وهو الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها ونوّه بها ([22]).

عن الأزدي قال: قال أبو عبد الله “ع”: <إنّ من أغبط أوليائي عندي عبد مؤمن ذو حظ من الصلاح، وأحسن عبادة ربه، وعبَدَ الله في السريرة، وكان غامضاً في الناس، فلم يشر إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافاً فصبر عليه، تعجلت به المنية، فقل تراثه وقلت بواكيه> ([23]).

يقول سفيان الثوري سمعت الإمام جعفر الصادق”ع” يقول: <عزّت السلامة، حتى لقد خفي مطلبها، فإن يكن في شيء فيوشك أن يكون في الخمول> ([24]).

وأمير المؤمنين”ع” له كلمات دقيقة في الخمول.

يقول”ع”: <كثرة المعارف محنة، وكثرة خلطة الناس فتنة> ([25]).

يعني أن الاشتهار بين الناس يجرّ الإنسان إلى الكثير من المحن، والمخالطة الشديدة للناس تجرّ الإنسان إلى الكثير من الفتن.

عن رسول الله “ص”: <رب ذي طمرين لا يؤبه لـه لو أقسم على الله لأبرّه([26]).

ولكن هاهنا حافة الانحراف والحافة الخطيرة للانحراف، والمزالق وعلينا أن نوضح النقاط التالية لأننا في هذه النقطة على حافة خطرة يكثر الانزلاق منها:

1ـ لا نقول أنّ الحياة الاجتماعية بشكل عام مذمومة، لأن الحياة الاجتماعية والتعاون على البر والتقوى مما يأمر الله تعالى به، وقد أمرنا الله بالتعاون والتبار وصلة الأرحام والتقوى وزيارة المؤمنين، والتواصل وأداء حقوق الجيران وعيادة المرضى، وقضاء حاجات المؤمنين، وهذا كله مما يريده الله، ولذلك لم ندع إلى الاعتزال عن الحياة الاجتماعية، وإنما الدعوة إلى الابتعاد عن الأضواء إذا شعر الإنسان إنّها تبعده عن الله تعالى.

وأمّا الدخول في المجتمع من أجل خدمة الناس، والصبر على الناس، والصبر على ما يكره من الناس، لا ابتغاء ما يحبّ من الناس من الاحترام، هو من أفضل الأعمال، والفرق بينهما دقيق، وهذه المخالطة من المخالطة المحمودة.

عن رسول الله “ص”: <الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم> ([27]).

وقال رسول الله “ص” ـ لرجل أراد الجبل ليتعبد فيه ـ : <لصبرُ أحدكم ساعة على ما يكره في بعض مواطن الإسلام خير من عبادته خالياً أربعين سنة> ([28]).

2ـ يدخل الإنسان المجتمع والعلاقات الاجتماعية بقدر ما ينفع، ويفيد، ويخدم أفراد المجتمع، أما إذا كان دخوله بطراً، ورئاء الناس فلابدّ له أن يتجنبه لأنه مضيعة للعمر، وزينة وتفاخر وتكاثر.

يقول تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} ([29])، ولا ينبغي للمؤمن أن ينحدر إلى هذا الوجه من وجوه الحياة الدنيا: اللعب، واللهو، والزينة، والتفاخر، والتكاثر.

إنّ هذا الوجه من الحياة الاجتماعية والعلاقات مذموم وهو وجه التفاخر والتكاثر والبطر والرئاء…

3ـ الابتعاد عن الأضواء السياسية والاجتماعية إذا كانت هذه الأضواء تجلب الفساد والفتنة في حياة الإنسان، لأن هذه الأضواء تأتي مع الموقع والسلطان، وقد سمعنا الرواية عن رسول الله2: إنّ القرب من السلطان بعد عن الله وقرب من أشراك الشيطان، وهذا هو الوجه السلبي المذموم للسلطة، أمّا الوجه الإيجابي للسلطة، فهو أن يطلب الموقع ليقيم الحق ويدحض الباطل ويكتسب بذلك مرضاة الله وذلك عندما يُجرد نفسه لخدمة الناس، وليس لما يجلب لـه الكبرياء والعجب والاحترام والإعجاب عند الناس.

فإن السلطة من أجل إقامة الحق وخدمة الناس محمودة وذات قيمة، ومن هنا ورد في القرآن الدعاء بطلب السلطان إذا كان لهذه الغاية {وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا}([30]).

وإنما تكون السلطة مذمومة إذا كانت من أجل البطر والرئاء والتظاهر والتكاثر.

يقول أمير المؤمنين”ع” في الخطبة المعروفة بالشقشقية: <أما والذي فلق الحبة وبرئ النسمة لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقارّوا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز> ([31]).

يقول ابن عباس: دخلت على أمير المؤمنين بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: <ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها يا أمير المؤمنين، فقال”ع”: والله لهي أحب إليّ من إمرتكم إلاّ أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً> ([32]).

إذا أخذنا بنظر الاعتبار هذه النقاط الثلاث عرفنا الإطار الشرعي للخمول المحمود والاعتزال المذموم في الشريعة، وما ورد في فضل الخمول ناظر إلى هذه النقاط.

4ـ الغربة في الدنيا عن الناس

وهذا هو النمط الرابع من الغربة، وأصحابها يعيشون في الدنيا كما يعيش سائر الناس، من غير فرق، ولكن قلوبهم متعلقة بالآخرة.

وقليل من الناس أولئك الذين يُحسنون أن يعيشوا الآخرة في الدنيا… إنما الناس في الغالب من تستغرقهم الدنيا، فينقطعون عن الآخرة وينسونها، من أهل الدنيا، وهم كثير، وأما من تستغرقهم الآخرة، فينقطعون عن الدنيا، من أهل الرهبانية والاعتزال، فهم قليل.

وأمّا الذين يعيشون الآخرة، ولا يقطعهم عيش الآخرة عن الحياة والحركة في الدنيا في وسط الناس، فهم أقل من القليل، أولئك هم الذين يتحركون مع الناس في الأسواق وقلوبهم متعلقة بالله، وكأنهم غرباء عن الناس، وهم مع الناس، وتلك هي الغربة.

عن رسول الله “ص”: <كن في الدنيا كأنك غريب> ([33]).

وهذه هي الغربة الاختيارية، التي يكتسبها الإنسان باختياره لأنه يتعمد الاستيحاش من الناس وعدم الاسترسال في العلاقات الاجتماعية التي تصرفه عن علاقته بالله.

وهي تتكون من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: الأُنس بالله والاشتغال بذكر الله.

والوجه الثاني: الانقطاع عن الناس، والاستيحاش من الناس، وعندما يحصر الإنسان اهتمامه بالله وذكر الله ينصرف عن الناس بصورة طبيعية.

والوجه الثالث: التقلب مع الناس في السراء والضراء في الأسواق والأعمال وفي السلم والحرب فهو يعيش في وسط الناس مثلهم، يمارس حياته بشكل طبيعي، كما يمارسون حياتهم، يتحرك في السوق، ويدخل البيت لخدمة أهله، ويعمل، ويتزوج، ويتحرك في الأسواق مثل سائر الناس، ولكن ما يميزه عن الناس ويفصله عنهم أن قلبه متعلق بالله تعالى، وليس مع الناس في الدنيا.

ورد عن أمير المؤمنين في هذا المعنى: <صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى> ([34]).

وكان يقول أحدهم: <منذ ثلاثين سنة، أعيش مع الناس ولستُ معهم>، لتعلّق قلبه بالله.

فهو يعيش مع الناس ولكن قلبه قد عزف عن الدنيا والناس.

عن أبي عبد الله “ع” قال: <إنّ رسول الله “ص” صلّى بالناس الصبح ذات يوم فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفراً لونه، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه، فقال لـه رسول الله “ص”: كيف أصبحت يا فلان، قال: أصبحت يا رسول الله موقناً، فتعجّب رسول الله “ص” من قوله، وقال: إنّ لكل يقين حقيقة (علامة) فما حقيقة يقينك؟ قال: إنّ يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها> ([35]).

ويقول أمير المؤمنين”ع” في صفة المتقين: <عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم> ([36])… وإذا صغرت الدنيا في عين الناس، فلا تجتذب قلبه، ويبقى قلبه مع الله، وإن كان جسمه مع الناس في الأسواق والمجامع والمحافل.

اقرأ أيضاً:


المصادر والمراجع

  • [1]ـ كنز العمال: 46248.
  • [2]ـ كنز العمال: 46274.
  • [3]ـ كنز العمال: 46298.
  • [4]ـ معجم الحديث النبوي: 472.
  • [5]ـ بحار الأنوار 67: 200.
  • [6]ـ النساء: 100.
  • [7]ـ وروي من ليس له حبيب، بحار الأنوار 13: 361 ح76 عن عدة الداعي: 107.
  • [8] ـ السيرة الحلبية 3: 256.
  • [9]ـ بحار الأنوار 22: 453، جامع الأخبار: 129 ـ 130.
  • [10]ـ راجع الوسائل 15: 348ح22، والكافي 5: 59ح14.
  • [11]ـ جامع الأخبار: 129 ـ 130.
  • [12]ـ أمالي الطوسي 2: 99.
  • [13]ـ نهج البلاغة: خطبة 199.
  • [14]ـ أي قال هذا الكلام ثلاث مرات، بحار الأنوار64: 160ح4 عن الكافي 2: 242.
  • [15]ـ المصدر السابق.
  • [16]ـ طه: 131.
  • [17]ـ كنز العمال: 5929.
  • [18]ـ بحار الأنوار 72: 67، 27.
  • [19]ـ ميزان الحكمة 3: 1098، عن بحار الأنوار 73: 121، 110.
  • [20]ـ البحار 69: 272، ومعاني الأخبار: 380 ـ 381.
  • [21]ـ ميزان الحكمة 3: 1099، عن نهج البلاغة، الخطبة: 103، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7: 109.
  • [22]ـ نهج البلاغة 1: 198.
  • [23]ـ البحار 69: 274.
  • [24]ـ البحار 78: 202.
  • [25]ـ ميزان الحكمة 3: 1099، عن غرر الحكم: 7124.
  • [26]ـ ميزان الحكمة 3: 171.
  • [27]ـ كنز العمال 1: 142 ح686.
  • [28]ـ ميزان الحكمة 3: 1966، عن الدر المنثور 1: 161.
  • [29]ـ الحديد: 20.
  • [30]ـ الإسراء: 80.
  • [31]ـ نهج البلاغة 1: 37.
  • [32]ـ نهج البلاغة 1: 80.
  • [33]ـ معجم الحديث النبوي: 473.
  • [34]ـ خصائص الأئمة للرضي: 106، شرح ابن أبي الحديد18: 346.
  • [35]ـ أصول الكافي ـ كتاب الإيمان والكفر ـ حقيقة الإيمان واليقين 2: 44.
  • [36]ـ نهج البلاغة 2: 161.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى