ثقافة

معنى الغربة في الروايات

الغربة: في مقابل الألفة والأنس.

ومعنى الحديث: إن الإسلام بدأ منذ أول يوم غريباً لا يعرفه أحد، وتنكّر لـه الناس، وتنكّر الناس للتوحيد ولقيم التوحيد، وكان المسلمون قلّة ومطارَدين وملاحَقين ويعذَّبون.

و قد بلغت هذه المواجهة قمتها في مقاطعة قريش للنبي2 وأهل بيته وأصحابه فترة من الزمن في شعب أبي طالب، تحمل المسلمون خلالها كثيراً من الأذى والعنت.

ثم أصبح الإسلام معروفاً للناس واستقبله الناس ودخلوا فيه أفواجاً، وفتح الله لهم الأرض… وبذلك انتهت المرحلة الأولى من الغربة.

وسيعود الإسلام إلى غربته مرة أخرى.

وفي تفسير معنى الغربة الواردة في الروايات السابقة يقول الجزري: أي أنه كان في أول أمره كالغريب الوحيد الذي لا أهل له عنده، لقلّة المسلمين يومئذٍ وسيعود غريباً كما كان، أي يقل المسلمون في آخر الزمان فيصيرون كالغرباء، (فطوبى للغرباء)، أي الجنة لأولئك المسلمين الذين كانوا في أول الإسلام، ويكونون في آخره، وإنما خصّهم بها لصبرهم على أذى الكفار، أولاً وآخراً ولزومهم دين الإسلام ([1]).

الغربة المحمودة والغربة المذمومة

والغربة ليست مطلوبة، ولا محمودة إذا كانت بمعنى الوحشة والانفراد والفرار من المجتمع، وهذه الغربة هي التي يعاني منها الإنسان المعاصر ويشعر بها تجاه الحضارة المادية المحيطة به، فهو يشعر أنه غريب عن نفسه، غريب عن هذا الإنسان الذين يمثله في التحرّك في المجتمع، وغريب عن مجتمعه وحضارته، هذه الحضارة التي تتنكر لقيمه وأخلاقه وفطرته وضميره وعاطفته، وأنّه ليس هناك ما يربط بينه وبين هذه الحضارة وهذا المجتمع فهو شيء آخر ليس من سنخ تكوينه وشخصيته الحقيقية التي يعمل هذا المجتمع على عزلها وضمورها.

الغربة هنا، هي حالة عدم الانسجام بين فطرة الإنسان وتكوينه الذي خلقه الله تعالى عليه وبين الوسط الذي يعيش فيه، وبينه وبين نفسه.

وهذه الغربة هي الغربة المذمومة في الإسلام، وهي من مصائب الإنسان في الحضارة المادية.

إن الحضارة المعاصرة تعتمد المادة، بشكل واسع، وتتنكر للغيب وللإيمان بالله وللعبودية لله وللروح وللقيم الروحية… وتبنى فيها العلاقات الاجتماعية على أسس مادية بحتة… والإنسان المعاصر يشعر انه يعيش في وسط غريب عن تكوينه وفطرته، وأن هذه الحضارة لا تستجيب لفطرته وتكوينه، ويحسّ بفجوة عميقة تفصله عن الوسط الذي يعيش فيه، ويشعر أنه غريب عن هذا الوسط، ويشعر انه غريب حتى عن نفسه، لأنه هو أيضا يتحول بالتدريج إلى عنصر من العناصر التي تكوّن الوسط الذي يعيش فيه.

فيشعر بالنفور والغربة عن نفسه وعن الوسط الحضاري الذي يعيش فيه.

وهذه هي الغربة المذمومة التي يرفضها الإسلام ويكافحها، ويدعو إلى الانسجام التام بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان والوسط الحضاري الذي يعيش فيه.

إن هذه الغربة تنطوي على أمرين:

أولاًـ الاستسلام للواقع الفاسد القائم في الوسط الاجتماعي وعدم التصدي لتغييره وهدمه وبنائه… فيتحول الإنسان إلى جزء من أجزاء هذه الحضارة.

وثانياًـ الإحساس بالغربة وعدم الانسجام.

ولا يعارض الثاني الأول؛ فإن الإنسان عندما يستسلم للواقع الاجتماعي ويتحول إلى بعض مكّونات الواقع الاجتماعي لا يفقد تكوينه وفطرته بالكامل، فيبقى يشعر شعوراً فطرياً بالفجوة العميقة بينه وبين الوسط الاجتماعي الذي لا يستجيب لفطرته وتكوينه الذي خلقه الله عليه، ويشعر بالغربة تجاه الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه كما يشعر بالغربة عن نفسه أيضا، لأنه هو أيضا قد أصبح جزءاً من مكّونات هذه الحضارة، فينفر من الحضارة التي يعيش فيها ويكرهها ويكره نفسه، ويتمرد على هذه الحضارة ويتمرد على نفسه، ويحاول أن يتهّرب عنها وعن نفسه باللجوء إلى المخدرات، وهذا حديث طويل ومن مصائب الإنسان في الحضارة المادية.

هذه هي الغربة المذمومة.

وأما الغربة المحمودة فهي تقترن دائما بالمقاومة وعدم الانصهار في الوسط الاجتماعي.

إن الغربة هي الغربة، المذمومة منها، والمحمودة، وهي حالة عدم الانسجام بين مكونات الفطرة ومكونات الحضارة التي يعيشها الإنسان.

والفرق بينهما أن الغربة المذمومة تفقد حالة المقاومة، وتتحول من الفعل إلى الانفعال في السخط على الحضارة المادية والتمرد عليها والتهرب منها.

وأمّا الغربة المحمودة فتتحول إلى فعل في التصدي لتغيير الواقع الاجتماعي ومقاومته للانصهار في الوسط الحضاري وهدم وبناء لإعادة بناء الحضارة الإنسانية على أسس متطابقة مع الفطرة الإنسانية.

وهذه النقطة بالذات هي سرّ قيمة الغربة المحمودة.

إنّ قيمة هذه الغربة تعود إلى أنّ هؤلاء الغرباء يحملون هموم هذه الرسالة في ظروف غربة الإسلام، وعندما تنحسر قيم هذا الدين عن الساحة يبقى هؤلاء الغرباء ثابتين صامدين، وهذا الثبات في ظروف غربة هذا الدين هو سبب عودة هذا الدين إلى الحياة من جديد، وهؤلاء الغرباء هم الذين يحفظون الإسلام يومئذٍ، كما حفظوا الإسلام في اليوم الأول لظهوره في مكة.

اقرأ أيضاً:


المصادر والمراجع

[1]ـ بحار الأنوار 8: 12.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى