ثقافة

العبودية من أعظم منازل رحمة الله

إذا تخلّق الإنسان بأخلاق العبودية، فكانت عبادته كلها لله، واستعانته كلها لله فقد جعل نفسه في منزل من أعظم منازل الرحمة، تفيض عليه رحمة الله تعالى من غير حساب.

وهذا إيجاز يحتاج إلى إيضاح وشرح: إن رحمة الله تعالى هابطة، تفيض على الكون والإنسان من غير انقطاع، ومن غير حدود، إلاّ أن لرحمة الله منازل (من حيث المكان والزمان والأحوال) فمن وضع نفسه في هذه المنازل عليه رحمة الله تعالى، على قدر المنزل.

ومن أعظم هذه المنازل منازل (الأحوال) مثل حالة الرقة، وقد رُوي (أن الله عند المنكسرة قلوبهم)([1]) ومثل حالة الذكر والتسبيح والجهر، وحالة الصيام فأن رحمة الله تنزل على هذه الأحوال بغزارة، على قدر حظ الإنسان من هذه الأحوال.

وهذه الأحوال كثيرة، ولكل منها نصيب من رحمة الله، وأعظم هذه الأحوال العبودية في الخط الصاعد والخط النازل، وأقصد بذلك أحوال العبودية في العبادة والاستعانة معاً… فأن الخط الصاعد في العلاقة بالله هو خط العبادة والخط النازل في العلاقة بالله هو الاستعانة.

والعبادة والاستعانة، يستجمعان أفضل حالات الإنسان مع الله ويجعلان الإنسان عند أفضل منازل الرحمة الإلهية، تفيض الرحمة على هذه المنازل بلا حساب ولا حدود، ومن وفقه الله لينزل بعض هذه المنازل فاضت عليه الرحمة من لدن الله إفاضة غزيرة.

فإذا انزل منزلة العبودية بكل ما في العبودية من حالات على الخط الصاعد والنازل في العلاقة بالله، فاضت عليه رحمة الله من غير حدود ولا حساب.

فان العبودية، كما قلنا تستجمع على الخط الصاعد والنازل أفضل حالات الإنسان مع الله، وارفع المنازل واسماها في السلوك إلى الله.

ومن منازل العبودية على الخط الصاعد (وأقصد بذلك خط العبادة) {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.

الذكر، الشكر، الحمد، التسبيح، الطاعة، التقوى، الاتكال على الله، الإعراض عن غيره، الرضا بأمر الله، الرضى لله، والغضب لله، المعرفة، اليقين، الولاء لله، البراءة من أعداء الله، الإيمان، الإخلاص، التضرع، التواضع، التذلل بين يدي الله، الإسلام، التسليم، الخوف، الخشية، الصبر على طاعة الله، الحب، الشوق، الأنس، الوله، الحب لله، والغضب في الله، الاطمئنان، التعظيم، الحياء، الصدق، العزم والإرادة… وغير ذلك من منازل العبادة وهي كثيرة لسنا بصدد إحصائها ولا نظمها في نظمها السلوكي، ولذلك وردت هذه المفردات في حديثنا مشتتة.

ومن منازل العبودية، على الخط النازل من العلاقة بالله، وأقصد بذلك، خط الاستعانة بالله {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

الاستغفار، الدعاء، المناجاة، الفقر، الاضطرار، الرجاء، الثقة، التوكل، التفويض، التوبة، الإنابة، الإخبات… وغير ذلك من منازل الاستعانة بالله، وهي كثيرة، لسنا بصدد استقصائها وإحصائها.

وهذه الحالات، في الخط الصاعد والنازل من العلاقة بالله من أفضل منازل رحمة الله في سلوك العبد وحركته إلى الله.

فإذا رزق الله تعالى عبداً منزلة العبودية فقد رزقه الخير كله، وجعله عند منازل رحمته الواسعة، وأفاض عليه رحمته بلا حدود ولا حساب.

إن قيمة الإنسان عند الله، على قدر ارتباطه وعلاقته بالله وقربه إلى الله، والقرب هنا بمعنى الارتباط والعلاقة، ولا شيء يحقق للإنسان هذه العلاقة المتينة القوية المحكمة مثل العبودية لله، فإن العبودية تربط الإنسان بالله بتقوى الأواصر والعلائق، وتشد العباد بالله تعالى، شداً دقيقاً محكماً.

وهذا الارتباط والانشداد والتعلق هو أحد طرفي المعادلة، والطرف الآخر هو التحرر والانعتاق عن اسر الهوى وعبودية الطاغوت والشيطان.

وبقدر ما يحقق الإنسان تلك العلاقة ويشد نفسه بالله تعالى، ويذوب، ويقهر، ويتنكر للأنا، حتى لا يكاد يرى نفسه… بنفس المقدار يتحرر من قيود الهوى والطاغوت والشيطان ومن الدنيا ويشعر بالانعتاق الكامل من هذه القيود التي تشد الإنسان إلى الدنيا شداً، وتسلبه حريته وحركة، وتعتقه عن العروج إلى الله تعالى.

وهذه هي الغاية التي من اجلها خلق الله تعالى الإنسان بهذه المجموعة الواسعة من المواهب والكفاءات التي لم نجعلها لغيره من خلقه.

ولعل إلى ذلك يُشير قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ}([2]).

والآية الكريمة ظاهرة في الحصر، ودلالة الحصر هنا على أن العبادة والعبودية في علاقة الإنسان بالله، هي الغاية من خلق الإنسان واضحة.

والى ذلك يشير ايضاً قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ}([3]).

فان (الدعاء) هو الإقبال على الله والاضطرار والتوجه إلى الله تعالى، وهو من أقوى علائق الارتباط بالله… فلا يعبؤ الله بعبده، لولا هذا الانشداد والارتباط والعلاقة القائمة على أساس الفقر، والاضطرار إلى الله.

وها هنا منازل رحمة الله، فإذا حل الإنسان في هذه المنزلة نزلت عليه الرحمة، غزيرة سابغة، تفيض عليه بلا حدود ولا حساب.

اقرأ أيضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] ـ روي هذا الحديث القدسي في تفسير كشف الأسرار 1: 135، 710، و 6: 171، و 9: 283، وتذكرة الأولياء: 186، وتفسير الرازي 2: 183، وبداية الهداية: 42، وفي بحار الأنوار73: 157 ـ نقلا عن نوادر الراوندي ـ: وسئل [رسول الله صلى الله عليه وآله] أين الله؟ فقال: عند المنكسرة قلوبهم، وفي غرر الحكم4: 238، ح5937: طوبى للمنكسرة قلوبهم من أجل الله، وجاء في كتاب الهمّ والحزن لإبن أبي الدنيا: 56: قال داود النبي صلى الله عليه وسلم: أي رب أين ألقاك قال: تلقاني عند المنكسرة قلوبهم.
  • [2] ـ الذاريات: 56.
  • [3] ـ الفرقان: 77.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى