ثقافة

التوحيد و رفض التمييز الطبقي

التوحيد

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا یَصِفُونَ) (المؤمنون/ 91)

ذكرنا أن عقيدة التوحيد تستتبعها التزامات على المستوى الفردي والاجتماعي، أي إن التوحيد حين يحلّ في المجتمع يصوغ المجتمع وفق رؤيته، ثم تأتي مستلزمات الفرد الموحّد في هذا المجتمع.

عبّرنا عن هذه المستلزمات التوحيدية بـأنها«ميثاق التوحيد». ووضّحنا أن أول هذه المواثيق حصر العبودية والطاعة بالله سبحانه وتعالى. واليوم نذكر واحدًا آخر منها وهو «رفض الطبقية».

سنوضّح هذا المفهوم في هذه المحاضرة، وهو باختصار أن أفراد المجتمع في ظل التوحيد لا تمييز بينهم من حيث الحقوق والواجبات، بل يعيشون تحت سقف واحد، ويتجهون في مسير واحد، ويتمتعون بنوع واحد من الحقوق والإمكانات.

لو عدنا إلى التاريخ لألفينا الاختلاف الطبقي من الأمراض المزمنة في تاريخ البشرية، لا في المجتمعات القبلية المتخلفة فحسب،‌ بل أيضًا في البلاد التي تعتبر مهد الحضارة البشرية، إذ في هذه البلاد نشاهد هذه الطبقية في أبشع صورها.

ما معنى الطبقية؟ إنها تعني عدم تماثل الأفراد الذين يعيشون في مجتمع واحد. طبقة فُرض عليها أن تعيش في معاناة وحرمان، وأن تكون مسخّرة لخدمة طبقة أخرى عن قناعة ورضا. وطبقة أخرى تتمتع بألوان اللذائذ والامتيازات، دونما رقيب. والهند أفضل مثال على ما نقول. تعلمون أن الهند مهد الحضارة الآرية، ومن أولى المجتمعات البشرية على ظهر الأرض. وهذه الأرض بالذات تضجّ بالاختلاف الطبقي. فهناك أربع طبقات أصلية.‌ حبّذا لو راجعتم كتب تاريخ الأديان، وقارنتم الوضع هناك، بمفاهيم التوحيد في الإسلام والقرآن الكريم.

في الهند كان التقسيم الطبقي يقرر وجود طبقة (البراهمة)، وهي طبقة رجال الدين وأعلى الطبقات الاجتماعية.‌ والثانية طبقة قواد الجيش والأمراء والإقطاعيين (كاشا تريا)، وكان بين هاتين الطبقتين مواجهة مستمرة، أحيانًا تعلو الطبقة الأولى وأحيانًا الثانية. والطبقة الثالثة وهم الصنّاع والزراع (فايشيا)، والطبقة الرابعة وهم المنبوذون (سودرا)، وكل طبقة من هذه الطبقات لها أصل مستقل في الخلقة.

هذا التقسيم تاريخي، غير أنه امتدّ إلى القرن العشرين. والذي رفض هذا الاختلاف الطبقي هو غاندي وتبعه جواهر لعل نهرو.

أردت أن أقول إن هذا الاختلاف الطبقي سائد في مهد الحضارة البشرية حتى بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا من بزوغ شمس التوحيد القرآني.

وطبعًا بين هذه الطبقات الأربع الأصلية عشرات بل مئات الطبقات الفرعية كما يقول جان ناس في تاريخ الأديان، وفي هذا النظام الطبقي لا يحق للفرد أن يتزوج من الطبقة الأخرى ولا أن يقترب منها. لا لشيء إلاّ لأن كل طبقة مخلوقة من أصل يختلف عن أصل الطبقة الأخرى. فالبراهمة مخلوقون من رأس الإله براهما، والثانية من يده والثالثة من عضده والرابعة من رجله. ولذلك فإن الاختلاف بين الطبقات قائم في أصل الخلقة، ولا يحق للطبقة السافلة أن تتعامل مع الطبقة الشريفة!! ومن هنا فلا اعتراض على هذا الوضع الطبقي، ولا تغيير أو تبديل. إذ حين يعتقد فرد بأن أصل خلقته كانت على هذه الشاكلة، حين يعتقد بأن طينته سافلة فلا اعتراض على انتمائه الطبقي السافل.

لم يكن هذا الأمر مقتصرًا على الهند، بل كان مشهودًا في الحضارات القديمة الأخرى أيضًا.. في مصر وفي إيران.

وجاء الإسلام ليرفض تعدد الآلهة، ويقرر أن البشر مخلوقون من إله واحد.. ومن طينة واحدة، ولهم فطرة واحدة، والآيات الكريمة في هذا الصدد كثيرة نظير قوله تعالى: (یَا أَیُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِی خَلَقَكُمْ وَ الَّذِینَ مِن قَبْلِكُمْ).

فالبشر بأجمعهم من أصل واحد، ويحملون كفاءات تمكّنهم من التكامل والسموّ لا فرق بينهم في ذلك، اللهم إلاّ المجموعة التي اصطفاها الله سبحانه لهداية البشرية كالأنبياء والأئمة، فهؤلاء الصفوة خارجون من بحثنا، وحديثنا عن عامة أفراد المجتمع.

في ظل التوحيد يخلو المجتمع من الطبقية والفئوية، ليس فيه طبقة تمتلك امتيازات خاصة، وطبقة أخرى محرومة من هذه الامتيازات بحكم خلقة كل طبقة.

والطبقية ليست بالضرورة قائمة على فكرة الاختلاف في أصل الخلقة، بل تقوم أحيانًا على أساس الظلم الاجتماعي والاقتصادي كما هو مشهود في المجتمعات الرأسمالية القائمة. أقلية تسيطر على ثروات العالم وتستثمر خيرات الأرض لصالحها وأكثرية ساحقة ليس لها نصيب من كدّها وكدحها.

هذه الطبقية أسوأ من تلك الطبقية القائمة على أساس اختلاف أصل الخلقة. فهذه الطبقية الرأسمالية تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان والمساواة ثم تمارس أبشع أنواع الاستغلال وانتهاك الحقوق.

أعود إلى معنى التوحيد الذي تنتفي في ظله الطبقية، وأقول: إن من معاني التوحيد هو أن الخالق واحد، والناس جميعًا مخلوقون من إله واحد، أي إنهم في طراز واحد لا طرازين، في طبقة واحدة لا طبقتين.

لقد رفض القرآن ادعاء اليهود والنصارى بأنهم أبناء الله وأحباؤه دون غيرهم من البشر: (وَقَالَتِ الْیَهُودُ وَ النَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ) ويجيبهم رب العالمين: (قُلْ فَلِمَ یُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ)

ورفض ادعاء اليهود بأنهم شعب الله المختار إذ قال: (قُلْ یَا أَیُّهَا الَّذِینَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِیَاءُ لِله مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِینَ # وَ لَا یَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا…).

نعم، في المجتمع قد نرى إنسانا متوهّج الذكاء وآخر أقل منه، أو نرى فردًا يتمتع ببُنية قوية وآخر لا يتمتع بهذا القدر، ولكن هذا لا يعني أن القويّ يتمتع بمزيد من الحقوق الاجتماعية، لا يعني أن هناك من يحقّ له أن يتعلّم ويتطور وآخر لا يحقّ له ذلك.

فرص التكامل العلمي والعملي متاحة للجميع. خلافًا للمجتمعات غير التوحيدية حيث الطريق معبّد لفئة ومليء بالأشواك والعقبات لفئة أخرى.

جميع أفراد المجتمع الإسلامي قادرون على أن يرتقوا إلى أسمى الرتب. بلال الحبشي يرتقي إلى مقام مؤذن المسلمين، وهذا المقام غير الذي نعرفه اليوم عن مؤذن المسجد، فهو مقام رفيع. وسلمان الفارسي يرتفع إلى مستوى أن يكون واليًا على صقع مهم من البلاد الإسلامية. وأمثال ذلك كثير.

ومع أن الله سبحانه اصطفى مَنْ تأهّل لهداية البشر لكننا نرى هذه الصفوة تشعر أنها فقيرة أمام الله، تتضرّع إليه بخشوع وبكاء ونحيب.

هذا الإمام السجاد (عليه السلام) ابن رسول الله وعلي وفاطمة والحسين (عليهم السلام)، عرفه المسلمون بسجوده وخشوعه وتضرعه ومناجاته وأدعيته، وهكذا نرى هذه الصفوة تكدّ وتسعى في العيش والحياة. هذا علي وهذا الباقر وهذا الصادق (عليهم أفضل الصلاة والسلام) يكدّون، ويحرثون الأرض أسوة بغيرهم من الكادحين العاملين في المجتمع.

والآن نقف عند الآيات 84-91 من سورة المؤمنون: (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَ مَن فِیهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) الخطاب للمشركين الذين كانوا يقسّمون الأرض ومن فيها بين آلهتهم (سَیَقُولُونَ لِله قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ). ‌أي أفلا تعون وتعودون إلى أنفسكم؟!

(قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِیمِ # سَیَقُولُونَ لِله قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) أي لماذا لا تتقون الله ولماذا لا يكون فكركم وعملكم مطابقًا لما يريده سبحانه؟!

(قُلْ مَن بِیَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَیْءٍ وَ هُوَ یُجِیرُ وَ لَا یُجَارُ عَلَیْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) من الذي يملك القدرة المطلقة والسلطة المطلقة في هذا الكون؟ كل ما بيدنا من قدرة وسلطة فهي محدودة بالزمان والمكان، ولكن السلطة المطلقة بيد الله تعالى.. ابتداء من الحركة داخل الذرة إلى حركة الكواكب والمجرات.. إلى حياة الأحياء ونموّها.. كل شيء بقبضته وهو الذي يلجأ إليه اللاجئون (یُجیرُ) ولا يستطيع أحد أن يجير دون إذنه (ولا یجار علیه) أي لا يستطيع المسيحي مثلًا إن أذنب أن يستجير بعيسى ليحميه من الله سبحانه، هذا غير ممكن. (سَیَقُولُونَ لِله قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) إذن لماذا تُخدعون؟

والملفت للنظر أن القرآن الكريم يركز على عناصر الخداع والغفلة باعتبارها من عوامل الإعراض عن الحقّ. فعوامل مثل الجهل والغرور من جهة وعوامل إغفال الناس وخداعهم من جهة أخرى لا تزال حتى اليوم تفعل فعلها لإبعاد الشعوب عن رؤية الحقيقة.

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ) عبارة: (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ) رفض لمن قال نحن أبناء الله، (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) رفض لتعدد الآلهة، ولو تعدد الخالق تعددت طبقات المخلوقات.. وزالت الوحدة وانعدم الانسجام في الكون. وهذا هو معنى: (لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ)، لكان هناك إله النور وإله الظلمة وإله الخير وإله الشرّ وإله الطبقة البشرية العليا وآخر للسفلى! مفهوم التوحيد يرفض ذلك ويرى أن الكون وحدة متصلة. الإنسان والحيوان والجبال والأرض والموجودات كلها متصلة مترابطة متحدة.

(وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا یَصِفُونَ) سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا.

والقسم التالي الآيتان 21 و 22 من سورة البقرة: (یَا أَیُّهَا النَّاسُ) الخطاب للناس جميعًا بمختلف ألوانهم وألسنتهم وأصقاعهم، إنه موجه للإنسانية جمعاء.

(اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِی خَلَقَكُمْ وَ الَّذِینَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).. الدعوة إلى عبودية الله للتحرر من عبودية الطاغوت.. أي من عبودية كل ما يصدّ الإنسان عن كماله وسموّه ورفعته. وهذه العبودية هي التي تؤدي إلى التقوى، وقد شرحنا مفهوم التقوى من قبل، وذكرنا أنه صيانة الروح من كل ما يؤدي بها إلى الهبوط. وهذا ما يحتاجه الإنسان والمجموعة البشرية، خاصة حين يتهددها الانزلاق في مستنقعات الرذيلة.

(الَّذِی جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَ السَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ)، هذا الكون كله مسخّر «لكم»، للبشرية جمعاء، لا لفئة دون فئة، وخيرات الأرض للبشر جميعهم، لا لجماعة تستثمر هذه الخيرات كلها، والباقي يعيشون على فتات موائدهم.(فَلَا تَجْعَلُوا لِله أَندَادًا وَ أَنتُمْ تَعْلَمُونَ) وحّدوا الخالق كي تنجو المجتمعات البشرية من الآلهة المتعددة، ومن ثم من الطبقية.

ونصل إلى الآية 13 من سورة الحجرات: (یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَ أُنثَى وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ).

وأقف عند عبارة «يا أيها الناس» فالخطاب للبشرية جمعاء بمختلف ألسنتها وألوانها وأقاليمها وانتماءاتها، وأقف عند «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» ففيها رفض تام للطبقية، ليست كرامة الإنسان مِنْ نَسبِهِ وحَسَبِهِ ومكانته في مجتمعه، بل من تقواه. بل ــ وهذه ملاحظه دقيقة وهامة ــ حتى المتقون ليست لهم امتيازات بشرية خاصة، المتقي لا يتمتع ــ باعتباره متقيًا ــ بامتيازات مالية أو حقوقية خاصة، فهم مكرمون ومقربون عند الله سبحانه. طبعًا التقوى لها آثار اجتماعية أيضًا، ومن هنا فإن بعض المسؤوليات لا يتولاها إلا أصحاب التقوى.

والآية 70 من سورة الإسراء: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِی آدَمَ وَ حَمَلْنَاهُمْ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّیِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِیرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِیلًا) التكريم لأولاد آدم كلهم، وتيسير النقل بالبر والبحر لهم جميعًا، وتوفير الطيبات من الرزق لا يختص بفئة دون فئة، وتفضيلهم على كثير من المخلوقات يعمهم جميعًا.. جميعًا لا يختص بفئة معينة أو طبقة خاصة.

اقرأ أيضاً:

روح التوحيد رفض العبودية لغير الله

الآثار النفسية للتوحيد

تحميل الفيديو
الإمام السيد علي الخامنئي
المصدر
مشروع الفكر الإسلامی في القرآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى