بيرق

أسلحة السجين (4): صناعة الإرادة

الإرادة هي العزيمة والرغبة في انجاز الشيء، وهذه الرغبة تارة تكون قشرية ظاهرية وتارة تكون صفة حقيقية راسخة في النفس.

الإرادة القشرية: من علامات هذه الإرادة هو التقلب في المواقف بسبب الخوف أو اليأس أو المصلحة الخاصة، وقد وصف الإمام علي (ع) المتقلبين في مواقفهم بأنهم أهل نفاق فقال: وأحذركم أهل النفاق، فإنهم الضالون المضلون والزالّون المزلّون، يتلونون ألواناً ويفتنّون افتناناً.  نهج البلاغة ص414.

وهذا النوع من الإرادة يجب ألا ينخدع به السجين المقاوم، وليختبر نفسه في بعض المواقف حتى يعرف أن الإرادة التي يحملها من هذا النوع أو لا، وإن صناعة الإرادة التي نريدها هي من النوع الآتي.

الإرادة الحقيقية: وهي صفة نبيلة وفضيلة يقدسها جميع البشر، ومن علامات من يحملون هذه الإرادة أنهم ثابتون على الموقف، ليس في قاموسهم لفظ الندم والتراجع، لأنهم أتباع الحق والإيمان بالمبادئ التي ينطلقون منها، فهم حينما شخصوا الحق من الباطل آمنوا بمبدأ الحق ثم اتخذوا موقفاً يرونه هو التكليف الشرعي لهم، وبهذا تكون النتيجة واضحة فإن الموقف (التكليف الشرعي) بما أنه يستند إلى مبادئ لا تتزلزل فهو أيضاً لا يتزلزل، هذه هي المواقف العقائدية التي صدرت من أمثال تلك الشخصية العظيمة التي قالت لأبي عبدالله الحسين (ع) يوم العاشر: والله يا أبا عبدالله لو أعلم أني أُقتل وأُحرق وأُذر في الهواء يُفعل بي ذلك سبعين مرة لما تركتك.

والإرادة الحقيقية لها عدة مراتب:

المرتبة الأولى: صبر بلا بصيرة: والأشخاص في هذه المرتبة يُعرفون بالتحمل وشدة الموقف ولكن في النهاية إما أن ينحرف عن الصواب أو يتم التحكم به عن بعد، مثل مقاتلي داعش وغيرهم من الذين صاروا مصداقاً لقوله تعالى {قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} سورة الكهف: 104. 

المرتبة الثانية: بصيرة بلا صبر: وهؤلاء يعرفون الحق ولكنهم يقفون على التلة، يتمنون غلبة الحق على الباطل ولكنهم إما يسكتون خوفاً أو لا يعرفون إلا الهذر باللسان والتنظير، وهذه المرتبة أكثر وجوداً وعدداً من الأولى في المجتمعات، والقرآن الكريم تعرض لموقف من هذا القبيل: {فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} سورة البقرة: 249 مع أن هذا الجيش أدرك الحق مع هذا القائد المبعوث من الله، ولكنه انقسم إلى ثلاث فئات، فئة شربت الماء فسقطت في أول امتحان، وحينما وصلوا إلى العدو تخاذلت فئة مع أنها ممن آمن بالقائد !! ولكنها تحمل بصيرة بلا صبر (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم)، ولكن الفئة القليلة الباقية هي التي نصرت القيادة الإلهية فانتصرت.

المرتبة الثالثة: صبر وبصيرة: وهم الشخصيات النادرة، مثلهم مثل الكبريت الأحمر والإبرة وسط كومة القش، مواقفهم راسخة منطلقة من رسوخ إيمانهم بالسماء والوعد الإلهي، لا يبتغون حطام دنيا ولا يلهثون وراء مصلحة شخصية، هم الصابرون في أشد المضائق المظلمة، الثابتون حينما ترعد الرواعد وتبرق البوارق، السائرون على طريق ذات الشوكة والخطر، تجد ثلة منهم اجتمعوا في كربلاء وكان العباس بن علي أبرزهم فقد كان نافذ البصيرة صلب الايمان لو زالت الجبال لظل ثابتاً، ولو اسودت الدنيا لظل بصيراً.

ومن كل ذلك نستفيد أن الإرادة رأس يقوم على ركنين: الصبر والبصيرة، الصبر يكسب الإنسان تحملاً للمشاق التي يواجهها في الطريق، والبصيرة تكسب الإنسان وضوحاً في الهدف فيكون سيره على الجادة الصحيحة ولا ينحرف.    

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى