ثقافة

المكاسب التي ينالها الإنسان اذا دخل في دائرة نفوذ القرآن

المقدمة

ان المكاسب التي ينالها الإنسان اذا دخل في دائرة نفوذ القرآن جمّة كثيرة، والآفاق التي يفتحها الله تعالى على الإنسان، اذا انعم عليه بالعيش في رحاب القرآن واسعة.

فان رحاب القرآن رحاب كثير البركات. فمن انعم الله عليه بالعيش في رحابه والاستضاءة بنوره فقد فتح عليه ابواباً واسعة من رحمته، يقول تعالى: {وهذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ}[1] ويقول تعالى:{وهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أنْزَلْناهُ}[2]والقرآن كتاب كريم {إنّهُ لَقُرآنٌ كَريمٌ}[3] كثير الخيرات والبركات، وهوكتاب مجيد {ق والْقُرآنِ الْمجيدِ}[4]، والمجد بمعنى سعة الكرم والفضل.

كلمة رسول الله

وقد روي عن رسول الله2 في ذلك: «من استضاء به نوّره الله، ومن عقد به أُموره عصمه الله، ومن تمسك به انقذه الله، ومن لم يفارق احكامه رفعه الله، ومن استشفى به شفاه الله، ومن آثره على ماسواه هداه الله، ومن جعله شعاره ودثاره أسعده الله، ومن جعله إمامه الذي يقتدي به، ومعوّله الذي ينتهي إليه آواه الله الى جنات النعيم والعيش السليم»[5].

ولكن هذه الاثار والبركات التي ينزلها الله تعالى على قارئ القرآن تخص فقط أولئك الذين يستضيئون بالقرآن، ويعقدون به أمورهم، ويتمسكون به ولا يفارقون أحكامه، يستشفون به، ويؤثرونه على ما سواه، ويجعلونه شعارهم ودثارهم، وإمامهم الذي يقتدون به، ومعوّلهم الذي ينتهون اليه، وعند ذلك ينعم الله عليهم بنعمة النور، والبصيرة، والعصمة، والنجاة، والهداية، والسعادة، وليس كل من قرأ القرآن ينال هذه البركات، ويدخل في رحاب القرآن، في مجال نفوذه وتأثيره وهدايته.

كلمة الامام الباقر

وحدّد الامام الباقر× هذه الطائفة من الناس بقوله: «ورجل قرأ القرآن، فوضع دواء القرآن على داء قلبه، فاسهر به ليله، واظمأ به نهاره، وقام به في مساجده، وتجافى به عن فراشه، فبأولئك يدفع الله العزيز الجبار البلاء وبأولئك يديل الله عزوجل من الاعداء وباولئك ينزل الله الغيث من السماء فوالله لهؤلاء في القرآن أعز من الكبريت الاحمر»[6].

والوصف ـ في الرواية ـ دقيق: (وضع دواء القرآن على داء قلبه)، فان من يخضع ادواءه لداوء القرآن، فلابد ان يشفيه القرآن.

وهؤلاء ليس فقط ينزل الله عليهم بركاته ورحمته، وإنما ينزل الله تعالى بهم بركاته ورحمته على الآخرين، ويرفع الله تعالى بهم الابتلاء عن الاخرين.

إِلاّ انهم قليلون كالكبريت الاحمر.

كلمة الامام الصادق

وفي حديث آخر للامام الصادق× في صفة هذه الطائفة من القراء: «وقارئ قرأ القرآن، فاستتر به تحت برنسه، فهو يعمل ويقيم فرائضه، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، فهذا ممن ينقذه الله من مضلات الفتن، وهومن اهل الجنّة يشفع فيمن يشاء»[7].

هؤلاء يعكفون على القرآن، كما يغطي البرنس الرأس والجسد، ويحكّمون القرآن على سرهم وعلانيتهم، ويحكّمون القرآن في حلاله وحرامه، وفي محكمه ومتشابهه، أولئك الذين ينقذهم الله من مضلات الفتن.

وفيما يلي نذكر جملة من هذه البركات والافاق التي يفتحها الله على من ينعم عليه بالعيش في رحاب القرآن:

يفتح له القرآن خزائنه

إن آيات القرآن خزائن علم ومعرفة، ولا ينال خزائن القرآن الا من رزقه الله العيش في رحاب القرآن، فاذا رزق الله عبدا وعي القرآن، ومكّنه من التدبر فيه ودراسته، فتح القرآن عليه خزائنه وكنوزه، واراه الله من معارفه ما لا يراه الاخرون، وفتح عليه من كنوزه وخزائنه ما لا يعرفه الاخرون. وهذه الخزائن هي التي يشير اليها الامام علي بن الحسين زين العابدين× فيما روي عنه: «آيات القرآن خزائن العلم، فكلما فتحت خزانة ينبغي لك ان تنظر فيها»[8].

وقد اوضحنا طرفا من هذا الامر في الشطر الاول من هذا الحديث.

حلاوة القرآن والانس به

ان للقرآن حلاوة لمن يتذوقه: وقليل ما هم.

وقد كان الامام الصادق× يدعوالله تعالى ويسأله عند ابتداء قراءة القرآن ان يرزقه الله حلاوة تلاوته: «اللّهم ارزقنا حلاوة في تلاوته، ونشاطا في قيامه، ووجلا في ترتيله، وقوة في استعماله في آناء الليل واطراف النهار»[9] واذا أَنعم الله تعالى على عبد بحلاوة تذوق القرآن فلا يكاد ان يشبع منه، ولا يكاد ان يصبر عليه.

وقد مرت علينا قريبا كلمة حذيفة: (لوطهرت القلوب لم تشبع من القرآن) وكلمة بعض الصالحين في ذلك: (ثم تلوت القرآن، وكأن الله تعالى يخاطبني، فوجدت فيه لذة ونعيما لا اصبر عليه) وليس كل احد يشعر بحلاوة القرآن وانما يحتاج الإنسان لكي يشعر بحلاوة طعم القرآن الى سلامة الذوق والقلب قبل ذلك، وقد تُقدم للمريض أشهى ألوان الطعام، فلا يتذوقه وليس في الطعام نقص اوعيب وانما النقص والعجز في مذاق المريض.

ومن يك ذا فم مرّ مريض                              يجـد مـرّا به المـاء الزلال

واذا احس الإنسان بحلاوة في تلاوة القرآن فأنه يستمرؤه ويكرره، ويعيده من غير ان يملّه، وقد رأينا من قبل كيف كان رسول الله2 واهل بيته وخيار اصحابه يعيدون الآية الواحدة، ويكررونها طويلا، ولا يملون التكرار والاعادة، ولا يزيدهم التكرار الا شوقا اليها ولهفة.

واذا أحسَّ الإنسان بحلاوة تلاوة القرآن انس بالقرآن، فلا يكاد يفارقه، ولا يستوحش لشيء، اذا كان القرآن معه.

وكان الامام علي بن الحسين زين العابدين× يقول: (لومات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد ان يكون القرآن معي)[10].

الارتقاء بالقرآن

لقراءة القرآن ثلاث حالات: حالة يقصد بها صاحبها الثواب عندالله، مفصولة عن اسبابها الحقيقية وموجباتها. ولا نريد ان نشكك في صحة وشرعية هذه الحالة… وانما نقول: ان الثواب الذي يترتب على قراءة القرآن لا ينفصل في اغلب الاحوال عن الآثار التي تتركها قراءة القرآن في نفس القارئ.

فكلما كان تأثير القراءة وفعله في نفس القارئ أقوى كان الثواب اعظم وأكبر. والاثر الذي تتركه القراءة فى نفس القارئ هوالتعليل الصحيح لمايترتب على القراءة من الثواب.

وحالة ثانية يقصد بها صاحبها استيعاب معارف القرآن وحفظها، دون ان يتجاوز إناء الذاكرة، وينفذ الى القلب والعقل، وهؤلاء هم العلماء غير العاملين الذين يعرفون القرآن ولا يعرفونه، والقرآن معهم وفيهم، وليس معهم وفيهم، كما يقول الامام امير المؤمنين×: «فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم، ومعهم وليسا معهم … وكأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم»[11].

وحالة ثالثة يتحول فيها القرآن بالقراءة الى العناصر المكونة لشخصية الإنسان، ويدخل القرآن في بناء شخصية الإنسان، وعقله، وروحه، وفؤاده، وعواطفه وأحاسيسه.

ويشعر الإنسان عندما يقرأ القرآن انه يأخذ من القرآن، وان القرآن يعطيه، وانه ينطبع بالقرآن، وان القرآن يطبعه بطابعه الخاص المتميز، ويغذيه ويرويه،ويصح التعبير عنه بـ(التمثيل الروحي والعقلي)، في مقابل عملية التمثيل العضوي في النبات والحيوان، حيث يتناول الكائن الحي المواد غير العضوية من الاملاح والمعادن ويحولها في جسمه الى مواد عضوية، وتتحول هذه المواد الى الخلاياوالالياف المكونة لجسم الكائن الحي.

كذلك القراءة تشكل عملية تمثيل من نوع آخر، يتحول فيها
القرآن الى طريقة تفكير واحساس، وعاطفة، ورؤية، وبصيرة، وفؤاد، وذوق، وعزم، وضمير. وبتعبير اخر ينموالإنسان وتتكامل شخصيته بالقرآن.

كتاب الله تبصرون به وتسمعون

يقول اميرالمؤمنين× «كتاب الله تبصرون به، وتسمعون».[12]

وكلمة: (تبصرون به وتسمعون)كلمة معبرة، تعبيراً، رائعاً عما نريد ان نثبته هنا. فان البصر والسمع جهازان في القلب للالتقاط والاستلام. (المقصود بهما أبصار القلوب وأسماع القلوب فان للقلوب اسماعاً وابصاراً كالتي في رؤوسنا).

فاذا كانت الابصار والاسماع صافية وسليمة فلا تتلقى الا الطيب النقي، واذا كانت مريضة فانها تتلقى الطيب والخبيث معا، تتلقى الطيب مقرونا باغراءات الشيطان ووساوسه فيمزج له الشيطان الطيب بالخبيث، واذا اجحف المرض بالقلوب والاسماع، والابصار، فلا تتلقى الا الخبيث من إِغراء الشيطان، وكيده، ووساوسه، وخداعه وتضليله.

كلما صفت موارد الإنسان صفت مصادره

والإنسان اخذ وعطاء وهو يعطي ما يأخذ ـ عادةـ ، لان فاقد الشيء لا يعطيه، فاذاكان ما يأخذ طيبا، كان عطاؤه طيباً كله، وكان قوله وعمله طيباً كله.

واذا كان ما يتلقاه طيبا مشوبا بالخبيث، كان فعله وقوله طيبا مشوباً بالخبيث، واذا كان لايتلقى الا الخبيث فلايعطي الا الخبيث، وكان فعله وقوله خبيثاً كله. يقول تعالى: {وَالبَلَدُ الطَيِّبُ يَخرُجُ نَباتُهُ بإِذنِ ربِّهِ وَالّذي خَبُثَ لايَخرُجُ الاّ نَكِداً}[13].

وهذه المعادلة والمسانخة بين مايأخذه الإنسان ومايعطيه من اوضح مقولات العقل. والإنسان كما ذكرنا اخذ وعطاء. فاذا صفت موارد الإنسان صفى عطاؤه.

واذا تكدرت موارده تكدر عطاؤه. والقلب ومافيه من السمع والبصر اجهزة استلام واخذ، فاذا سلمت للانسان هذه الاجهزة فلابد ان يسلم فعله وقوله من كل خبيث، ولابد ان تكون الثمرة التي يعطيها الإنسان في فعله وقوله ثمرة طيبة مباركة.

فإذا كان قلب الإنسان وسمعه وبصره قرآنيا، وكان الإنسان يبصر بالقرآن ويسمع به كما يقول الامام علي× فلايكون قوله ولافعله ولاتفكيره الا قرآنيا ومطبوعا بطابع القرآن.

فإن الذي لا يبصر الاّ جمال الله وجلاله، ولايسمع الاّ آيات الله ونداءه لايمكن ان يكون قوله وفعاله الا نسخة طبق القرآن.

وقد ورد في الحديث القدسي:>ما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به<[14].

فهناك من الناس من يلقف القرآن كما تلقف البقرة العشب بلسانها، وتزدرده، من غير مضغ وتخزنه في معدتها، من غير هضم لتجتره بعد ذلك.

عن رسول الله2 :«ان قرأ المنافق القرآن لايخطئ الفا ولا واواً ولاميما يلقف القرآن بلسانه كما تلقف البقرة الكلاء بلسانها»[15].

وهذه الطائفة لا تنتفع بالقرآن أبدا، ذلك ان القرآن لايتجاوز السنتهم، ولا ينفذ الى عقولهم وقلوبهم، ولا يتفاعلون معه في شيء.

عن رسول الله2:«سيجيء من بعدي اقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة»[16]

وطائفة اخرى من الناس يتلقون القرآن بعقولهم وقلوبهم وينفذ القرآن الى نفوسهم ويسهم القرآن في بنائهم ولكن في حركة بطيئة ضعيفة.

وطائفة ثالثة ينهلون من منهل القرآن نهلا سريعا، ولا يتلقون قرآنا من عند الله حتى يجسدوه في سلوكهم وعملهم، وتكاد ان تكون قراءة القرآن في نفوس هؤلاء الناس انقلاب نور، وانفجار هدى ورحمة، وكذلك كان اصحاب رسول الله2 يتلقون القرآن.

فقد روي ان رجلا جاء ليتعلم القرآن وانتهى الى قوله تعالى:

{فَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّة خَيراً يَرَهُ، وَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّة شَرّاًيَرَهُ}[17].

«فقال يكفيني هذا وانصرف فقال رسول الله2 انصرف الرجل وهو فقيه»[18].

أرايت الطفل والمراهق الآخذان في النموكيف يتحول ما يأخذانه من الطعام الى نمو سريع جسمهما وعقلهما، وكذلك تتلقى هذه الطائفة من الناس القرآن، وتتفاعل معه وتجسّده في سلوكها وحياتها في حركة سريعة.

والإنسان على نفسه بصيرة يشعر جيدا ما اذا كان القرآن يرويه، ويعطيه، وينميه، ويساهم في تكوينه، اوأن القرآن لا يتجاوز لسانه الى قلبه، يتحول في احسن الحالات في ذاكرته الى مخزون علمي لا ينفذ شيء منه الى نفسه، والى هذا التكامل والنموفي شخصية الإنسان بقراءة القرآن تشير الروايات الواردة في القراءة: (اقرأ وارقَ). وكأن القراءة عملية نمووارتقاء مستمرة في شخصية الإنسان تعطي الإنسان، ويأخذ منها الإنسان، ويتكامل بها وينمو.

الارتقاء بالقرآن في النصوص الاسلامية

ولنذكر جملة من هذا النصوص فهي جديرة بالتأمل والدراسة:

1ـ عن رسول الله2: «تعلّموا القرآن، فانه يأتي يوم القيامة صاحبه فيقول: انا القرآن الذي كنت أسهرت ليلك، واظمأت هواجرك، واجففت ريقك، واسبلت دمعك، فأبشر، فيوتى بتاج، فيوضع على رأسه، ويعطى الامان بيمينه، والخلد فى الجنان بيساره، ويكسى حلتين، ثم يقال له: اقرأ وارقَ. فكلّما قرأ آية صعد درجة، ويكسى أبواه حلتين، ان كانا مؤمنين ثم يقال لهما هذا لما علمتماه القرآن»[19].

2ـ وعن علي×:«يقال لصاحب القرآن:اقرأوارق ورتل كماكنت ترتل في الدنيا، فان منزلتك في الدنيا عند اخر آية تقرؤها»[20].

3ـ وروى الصدوق في كتاب (من لا يحضره الفقيه) عن امير المؤمنين× في وصيته الى ابنه محمد بن الحنفية:« اعلم ان درجات الجنة عدد آيات القرآن، فاذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن: إقرأ وارق».

4ـ عن الامام علي بن الحسين زين العابدين×: «عليك بالقرآن فان الله خلق الجنة بيده،لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، ملاطها المسك، وترابها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن. فمن قرأ القرآن قال له: اقرأ وارق، ومن دخل الجنة منهم لم يكن في الجنة اعلى درجة منه، ما خلا النبيون والصديقون»[21].

5ـ وعن الامام الباقر محمد بن علي بن الحسين×: «يجيء القرآن في احسن منظور اليه صورة… فيقول يا رب فلان اظمأت هواجره، واسهرت ليله فيقول تبارك وتعالى: ادخلهم الجنة على منازلهم، فيقوم قوم يتبعونه، فيقول للمؤمن: اقرأ وارق، فيقرأ ويرقى حتى يبلغ كل رجل منهم منزله التي هي له فينزلها»[22].

6ـ وعن الامام الصادق×:«يدعى ابن آدم المؤمن للحساب، فيتقدم القرآن امامه… فيقول: يا رب أنا القرآن وهذا عبدك المؤمن،قد كان يتعب نفسه بتلاوتي، ويطيل ليله بترتيلي، وتفيض عيناه اذا تهجد فارضه عني، كما ارضاني.

فيقول العزيز الجبار: عبدي أبسط يمينك فيملؤها من رضوان الله ويملأ شماله من رحمة الله، ثم يقال له: هذه الجنة مباحة، فاقرأ واصعد، فاذا قرأ آية صعد درجة»[23].

7ـ وكان من دعاء الامام جعفر بن محمد الصادق× حينما يأخذ المصحف للقراءة: «واجعلني ممن ترقيه بكل آية درجة في أعلا عليين» [24].

وفي دعاء آخر له× عندما يأخذ المصحف للقراءة: «واجعل لي بكل حرف درجة في أعلى عليين».

8ـ عن موسى بن جعفر× عن رسول الله2 : «عدد درج الجنة آي للقرآن فاذا دخل صاحب الجنة قيل له: اقرأ وارق لكل آية درجة فلا تكون فوق حافظ القرآن درجة»[25].

9ـ عن ابي عبدالله الصادق×: « ان درجات الجنة على عدد آيات القرآن، فيقال لقارئ القرآن: اقرأ ارق »[26].

10ـ وعن الامام الصادق×: «عليكم بمكارم الاخلاق، فان الله عزوجل يحبها. واياكم ومذام الافعال، فان الله عزوجل يبغضها، وعليكم بتلاوة القرآن، فان درجات الجنة على عدد آيات القرآن، فاذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن: اقرأ ارق، فكلما قرأ آية رقي درجة».[27]

تحليل النصوص

وهذه النصوص تستوقف الإنسان للتأمل

1 ـ فان للجنّة درجات، وفوق كل درجة درجة، وهي درجات لا تحصى كما في هذه النصوص.

2 ـ وهذه الدرجات هي درجات كمال الإنسان ونموه وارتقائه. وكلما كانت درجة الإنسان في سيره التكاملي ارقى واعلى كانت درجته في الجنة اعلى، وليست الدرجات في الجنة مفصولة عن درجات الإنسان في نموه وكماله في الدنيا.

3 ـ والقرآن هو سلم كمال الإنسان، ونموه في هذه الدنيا، وآيات القرآن درجات هذا السلم، فكلما قرأ الإنسان آية من القرآن، عن وعي وبصيرة ارتقى ونمى درجة. إذن فبالقرآن ينموالإنسان، ويتكامل، وتتم به حركته التصاعدية الى الله تعالى ويوازي هذا النمو والتحرك والتكامل في الدنيا ارتقاء في درجات الجنة في الاخرة. وليس احدهما غريبا عن الاخر، وانما درجات الجنة نتيجة طبيعية لدرجات كمال الإنسان في الدنيا، وانعكاس عنها. ودرجات كمال الإنسان في الدنيا نتيجة طبيعية لدرجة تفاعل الإنسان مع القرآن، ومساهمة القرآن في بناء شخصه، والذي عبرنا عنه بعملية (التمثيل). فكلما ازداد الإنسان معرفة بكتاب الله، والتصاقاً به، وتفاعلا معه تقدم شوطاً اكثر في هذه الحركة التكاملية الى الله.

والى هذا المعنى تشير الآية المباركة من سورة الانفال: {وَإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتهُمْ ايماناً}[28] فمهما تعاطى الإنسان آيات الله ازداد ايمانا وازداد كمالا.

درجات القراء

ودرجات القراء في الكمال والقرب من الله بمقدار ما يقرؤون، ويعون من كتاب الله.

عن رسول الله2: «من قرأ عشر آيات في ليلته لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين، ومن قرأ مأة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين، ومن قرأ خمس مأة آية كتب من المجتهدين»[29].

إذن درجة الإنسان في تلاوة القرآن ووعيه، هي درجته في الكمال، ودرجته في الكمال هي درجته في القرب من الله تعالى ودرجته في القرب من الله تعالى هي درجته في الجنة.

اختلط القرآن بلحمه ودمه

ولعل ادق تعبير عن هذا «التمثيل القرآني» هوماورد في النصوص الاسلامية من ان القرآن يختلط بلحم القارئ ودمه، اذا صدق في قراءته، وأنعم الله عليه بوعي القرآن.

عن الامام الصادق×: «من قرأ القرآن، وهوشاب مؤمن، اختلط القرآن بلحمه، ودمه، وجعله الله مع السفرة الكرام البررة، وكان حجيزا عنه يوم القيامة»[30].

عندئذ يدخل القرآن في تكوين عقل الإنسان، وارادته، وقلبه، ويصبغه القرآن بصبغته الخاصة المتميزة، فيكون هواه قرآنيا، وارادته قرآنية، وعقله وفؤاده قرآنياً واحاسيسه قرآنية.

ان المعاناة والمكابدة التي يعانيها الإنسان أول الامر تفرز في الإنسان حالة قرآنية، فلا يفكر، ولا يريد ولا يتكلم الا بالقرآن، حتى كأن القرآن اختلط بلحمه ودمه.

وعندئذ يطرد القرآن من نفسه الشيطان والهوى، والفجور، والشرك، والخبائث لان الاهواء والفجور تعشعش في الاعماق المظلمة من النفوس والقلوب، فاذا استنارت النفوس بالقرآن خرج منها الفجور والاهواء فان القرآن اذا دخل في بيت من باب خرجت الاهواء والفجور من الباب الاخر.

واذا كان قارئ القرآن شابا كان تأثير القرآن اسرع الى نفسه، وكان اختلاط لحمه ودمه بالقرآن أسرع واقوى، ولذلك خصت الرواية هذا الاختلاط بالقرآن، والتفاعل معه بالشباب، بصورة خاصة، ذلك ان قلوب الشباب غضة طرية لم يتمكن منها الشيطان والسيئات بعد، ولم تتحكم فيها الاهواء، ولم تسلبها نقاوة الفطرة وسلامة الضمير، فتكون على استعداد اكثر لقبول القرآن، وتلقيه، والتفاعل معه. يقول اميرالمؤمنين× في وصيته لابنه الامام الحسن×: «وإنما قلب الحدث كالارض الخالية».

ومهما يكون من امر فان أمر هذا القرآن عجيب في التحامه بالنفس الإنسانية، وتفاعله معها، واختلاطه بها، اذا صفت النفوس وطهرت، وصدق أصحابها في محاولة تزكية نفوسهم، وتطهيرها، والتفاعل مع كتاب الله.

ولسنا نجد كلاما بشريا اصدق وأدق في التعبير عن هذا الالتحام والتفاعل بشخصية الإنسان وانقلاب الشخصية الإنسانية به الى شخصية قرآنية في كل ابعادها من هذا الدعاء الذي يرويه الرواة عن الامام الصادق×: «وأسألُك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك اسالك ان تصلي على محمد وآل محمد، وان ترزقني حفظ القرآن، واصناف العلم (من القرآن)، وان تثبتها في قلبي، وسمعي، وبصري، وان تخالط بها لحمي، ودمي وعظامي، ومخي، وتستعمل بها ليلي برحمتك»[31] كذلك يدخل القرآن في نفس الإنسان، ويمتزج ويختلط بلحمه، ودمه، وعقله، وعظامه، ومخه، ويستوعب ليله، ونهاره، ويملأ قلبه، وعقله، ويصبغ كل شخصيته، ويحولها الى شخصية قرآنية.

كأنما ادرجت النبوة بين جنبيه

واذا بلغ الإنسان هذا المبلغ من التفاعل، والالتحام بالقرآن فكانما أُدرجت النبوة بين جنبيه إلاّ انه لا يوحى اليه، ذلك أنَّ القرآن هومنهاج النبوة، وطريقها، وإذا تشبّع الإنسان بهدى القرآن وتوجيهه، فكأنما جسد النبوة في سلوكه وفعله ومنطقه.

وفي النبوة تجتمع مقومات وعناصر الكمال الإنساني، فيملك الإنسان عندئذ هذه المقومات غالبا ـ الا الوحي ـ فيفكر بالطريقة النبوية ويتعامل مع الله ومع الناس ومع نفسه بالطريقة النبوية، وينعم الله عليه بشفافية النبوة، ووعيها وبصيرتها، وينعم عليه برهافة الحس النبوي، وسلامة الضمير والعاطفة، ونقاوة الفطرة، كما في الانبياء عليهم السلام، الذين لم تدنسهم الجاهلية بانجاسها، ولم تلبسهم من مدلهمات ثيابها. اقرأوا بامعان وتأمل هذه النصوص التالية:

1 ـ عن رسول الله2: «من قرأ ثلث القرآن، فكأنما اوتي ثلث النبوة، ومن قرأ ثلثي القرآن فكأنما اوتيثلثي النبوة ومن قرأ القرآن كله فكانما اوتي تمام النبوة. ثم يقال: اقرأ وارق بكل آية، درجة، فيرقى في الجنة بكل آية درجة حتى يبلغ ما معه من القرآن، ثم يقال له: اقبض فيقبض ثم يقال له: هل علمت ما في يدك؟ فيقول: لا، فاذا في يده اليمنى الخلد وفي الاخرى النعيم»[32].

2 ـ وعن الامام علي بن ابي طالب×: «من قرأ القرآن فكأنما ادرجت النبوة بين جنبيه الاّ انّه لا يوحى اليه»[33].

القرآن يفتح ابواب الاستجابة للدعاء على الإنسان:

وانما تنغلق ابواب الاستجابة للدعاء علينا، لان قلوبنا تنغلق على الله تعالى، فليس في ساحة الله تعالى بخل، ولا شح،ولا انغلاق وإنما هي نفوسنا تنفتح على الله، فيستجيب الله تعالى لدعائنا، وتنغلق فلا يستجيب، وكيف يرتفع الدعاء الى الله من قلب منغلق على الله، قد حجبته ذنوبه واهواءه. فاذا دخل الإنسان في رحاب القرآن، وطهر القرآن قلبه مما يرين عليه، وأزال القرآن حجب الهوى عن قلبه، وفتح منافذ قلبه على الله تعالى فليس شيء اسرع الى دعائه من الاستجابة، ذلك انه لا يحول بينه وبين الله تعالى حجاب يحجبه عن الله. وقد ورد في النصوص الاسلامية أن قراءة القرآن من اسباب استجابة الدعاء.

عن الامام الصادق×: «من قرأ وأة آية من أيّ آي القرآن شاء ثم قال سبع مرات: يا الله. فلودعى على الصخور لقلعها ان شاء الله»[34].


الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الانعام: 92.
  • [2] ـ الانبياء: 50.
  • [3] ـ الواقعة: 77.
  • [4] ـ ق: 1.
  • [5] ـ بحارالأنوار: 92/ 31 عن تفسير الامام العسكري×.
  • [6] ـ الكافي: 2/ 627.
  • [7] ـ وسائل الشيعة: 4/ 849.
  • [8] ـ الكافي: 2/ 440.
  • [9] ـ الكافي: 2/ 417.
  • [10] ـ الكافي: 2/ 440.
  • [11] ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 147.
  • [12] ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 131، وبحارالأنوار:92/22.
  • [13] ـ الاعراف: 58.
  • [14] ـ المحاسن للبرقي :1 / 291، والكافي: 2 / 352.
  • [15] ـ الجعفريات : 173، ومستدرك الوسائل :4 / 242 .
  • [16] ـ وسائل الشيعة: 4 / 858 .
  • [17] ـ الزلزال: 7 ـ 8 .
  • [18] ـ نقل الرواية الغزالي في الاحياء: 1،287 وقال العراقي في الهامش اخرجه ابوداود والنسائي في السنن الكبرى وروى قريباً منه الحاكم في المستدرك 2 / 532 عن عبدالله بن عمر.
  • [19] ـ الكافي : 2 / 441 .
  • [20] ـ مجمع البيان: 1/16.
  • [21] ـ مستدرك الوسائل : 1 / 299 الطبعة الاولى .
  • [22] ـ الكافي: 2 / 439 .
  • [23] ـ الكافي: 2 / 449 .
  • [24] ـ بحارالأنوار: 92 / 207، ومكارم الاخلاق: 394 .
  • [25] ـ بحار الأنوار: 92 / 22 عن كتاب الامامة والتبصرة.
  • [26] ـ ثواب الاعمال للصدوق: 161، وبحارالأنوار: 92 / 188 ح 10 .
  • [27] ـ امالي الصدوق: 216، وبحار الأنوار 92 / 197 ح 4.
  • [28] ـ الانفال :2.
  • [29] ـ الكافي: 2/448.
  • [30] ـ الكافي: 1/441.
  • [31] ـ الكافي: 2/419.
  • [32] ـ عن تفسير ابي الفتوح الرازي (راجع مستدرك الوسائل: 1/293 الطبعة الاولى).
  • [33] ـ مجمع البيان: 1/16.
  • [34] ـ مكارم الاخلاق: 420 باب الاستشفاء بالقرآن.
تحميل الفيديو
الشيخ آية الله محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن 1 (وعي القرآن)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى