ثقافة

صراع الإسلام مع العلمانية

رغم أن معظم الحكومات في دول العالم الإسلامي تحكم بغير أحكام الإسلام الحنيف، ولا تطبق تشريعاته في الشأن العام، إلا أن الثابت عند جميع المسلمين المتدينين والباحثين في الشأن الإسلامي، أن الإسلام دين ودولة ومنهج شامل للحياة، وأنه يجب أن يطبق ويعمل بأحكامه الشرعية في جميع المجالات وشؤون الحياة: الخاصة والعامة واعتبار مخالفة ذلك معصية دينية يستحق صاحبها عليها العقاب الإلهي الأليم في يوم القيامة، والقول بخلاف ذلك قول شاذ وغير معتبر، وقد ظهرت في العالم الإسلامي على امتداد التاريخ وعرض الجغرافيا، حركات إسلامية تطالب بإقامة الدولة الإسلامية، وتطبيق الإسلام والعمل بجميع أحكامه وتشريعاته في جميع المجالات وكافة الشؤون: الخاصة والعامة وتعتبر ذلك تكليف وواجب شرعي على المسلمين، وقامت دول إسلامية بالفعل على هذا الأساس، وكان أولها الدولة الإسلامية التي أقامها الرسول الأعظم الأكرم (ص) في الجزيرة العربية، وكان مركزها وعاصمتها السياسية في المدينة المنورة، ومنها دول معاصرة يقودها الفقهاء العدول الأتقياء العارفون بالإسلام الحنيف وأحكامه وتطبيقاته الصحيحة، والحريصون عليه وعلى مصالح الأمة الإسلامية تمام الحرص وأكمله، ولم يمنع من ذلك تعدد الرؤى الإسلامية واختلاف اجتهادات الفقهاء، لأنه توجد صيغ عملية ممكنة وأصيلة للتوفيق.

وتواجه الإسلام الحنيف المعاصر تحديات جسمية واختبار قوة الفكر والأصالة، لإثبات نفسه وكفاءته وفاعليته وأصالته في إقامة الدولة وتدبير شؤونها، وفي صراعه الوجودي المرير على الساحة الدولية، أمام العلمانية بالخصوص، أي: الصراع بين الربوبية الإلهية التي تحتم إقامة الدين الإلهي والرجوع إليه وتطبيق أحكامه، وبين الربوبية البشرية، وتدعو لأن يكف الديني عن احتلال مكان المركز في توصية حياة البشر وقيادتها، وأن تحمل الحياة صفة المادية والنسبية والدنيوية والمنفعة، وتخلع عنها لباس الديني والمقدس والمطلقات: الدينية والروحية والأخلاقية والإنسانية.

وتركيزنا على الصراع بين الإسلام الحنيف وبين العلمانية، لأن الزمن قد تجاوز موجة الإلحاد التي ظهرت كردة فعل على ظهور المنهج العلمي التجريبي، وتطورات العلوم الطبيعية والصناعات وتطورات التكنولوجيا، في ظل تخلف الفكر الديني في أوروبا في ظل الإقطاع وهيمنة الكنيسة، وفي المجتمعات الإسلامية في ظل الدكتاتورية الرجعية، والحكومات المستبدة الظالمة، وانتشار الفساد والتحلل والتخلف والفقر، وانتهاك حقوق الإنسان والتضييق على حرية الفكر وتهميش دور العلماء والمفكرين المستقلين عن السلطة والمستنيرين ونحو ذلك، وقد انتصرت الأديان السماوية على الإلحاد انتصاراً باهراً بقوتها الذاتية المستمدة من قوة المنطق والموافقة للفطرة والطبيعة وأصل الخلقة والتكوين رغم ما كانت تواجهها من التحديات والصعوبة وما تقف في وجهها من صعوبات كأداء، وذلك بفضل الله سبحانه وتعالى وتوفيقه وتسديده للعلماء الربانيين النورانيين والمؤمنين الصادقين المجاهدين الصابرين وتضحياتهم العظيمة في سبيل الدين الحق والإنسانية، وانتهى خطر الإلحاد إلى الأبد وبدون رجعة إن شاء الله؟عز؟، فلم يعد الإلحاد يشكل خطراً جدياً أو تحدياً أمام الإسلام الحنيف والأديان السماوية في الدين الحاضر منذ أن سقط الإتحاد السوفييتي وخرجت الماركسية والاشتراكية والشيوعية من ساحة الصراع الفكري والسياسي عملياً ولم تبقى إلا جيوب صغيرة، هي عبارة عن جماعات وأحزاب صغيرة فاقدة للحيلة والتأثير والفاعلية، لا تزال على ولائها للماركسية والاشتراكية والشيوعية البائسة، وبقي الصراع الحقيقي: الفكري والسياسي قائماً ومحتدماً بين الربوبية الإلهية وبين الربوبية البشرية، أي: بين الإسلام الحنيف الدين الإلهي العالمي الشامل، وبين العلمانية التي تريد أن تفرض نفسها: فكرياً وعملياً وتعزل الدين عن الدولة، أو عن الحياة بجميع جوانبها وفق منظور العلمانية الكلية الشاملة.

وقد وجدت العلمانية المعاصرة في الغرب في الإسلام الحنيف خصماً شرساً ومعانداً، وينطوي على تحدي جديد، وخطورة وتهديد نوعي، لم تعهد مثله: شدة ونوعاً في مواجهتها مع اليهودية والكنيسة الكاثولوكية التي ارتبطت ولادة العلمانية بالصراع معها في مطلع القرن العشرين، وقد واجهت العلمانية ذلك التحدي الكبير والتهديد النوعي من الإسلام رغم كونه جديداً على الساحة الأوروبية، حيث قدم إليها مع موجات الهجرة والعبيد، ورغم كون المسلمين لا زالوا يمثلون أقلية ولا يمتلكون إمكانيات: مادية واقتصادية وسياسية كبيرة، فالعلمانية تواجه مع الإسلام عقائد ومعارف إلهية ورؤية متكاملة لتفسير الكون والإنسان والحياة والمجتمع والدولة والتاريخ، تتصف بالواقعية والعمق والإحكام، تستند إلى الدليل الكافي والبرهان العقلي المحكم الصحيح، وله نظامين: قيمي وتشريعي واقعيين ومتكاملين ومتوافقين مع العقل والفطرة والطبيعة وأصل الخلقة والتكوين، وقد ولدت العقائد والمعارف الإسلامية والنظامين: القيمي والتشريعي إيماناً راسخاً منقطع النظير أو لا نظير له عند أتباع الأديان السماوية، ومواقف صلبة وعلاقات متينة ونفس طويل، واستعداد كامل للبذل والتضحية بالنفس والنفيس بشكل لا مثيل له أبداً عند أتباع الأديان السماوية أو غيرهم.


الأستاذ عبدالوهاب حسين | كتاب الإسلام والعلمانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى