ثقافة

القرآن القول الفصل

المقدمة

من خصائص كتاب الله انه القول (الفصل) والكلمة (الحاسمة) (الفرقان) في حياة الناس في التمييز بين الحق والباطل، وفرز بعضه عن بعض، والذين يؤتيهم الله تعالى بصيرة ونوراً بالقرآن لا يختلط لديهم الحق بالباطل، ولا تلتبس عندهم الخطوط، ويمكنهم كتاب الله من فرز الحق عن الباطل، والهوى عن الهدى، بصورة دقيقة وواضحة.

يقول تعالى: {إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ}[1].

أي قول فاصل بين الحق والباطل.

ومن اسماء القرآن (الفرقان)، لانه يفرق بين الحق والباطل، ويفرز هذا عن ذاك، ويميز بعضهما عن بعض.

يقول تعالى: {وَأَنْزَلَ التّوْراةَ وَالاِْنجيلَ، مِن قَبْلُ هُدًى لِلنّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ}،[2]، {تَبارَكَ الَّذي نَزَّلَ الفُرقان على عَبدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذيراً}[3].

ويقول تعالى في صفة القرآن: {شَهْرُ رَمَضانَ الّذي أُنْزِلَ فيهِ الْقُرآنُ هُدًى لِلنّاسِ وَبَينات مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ}[4].

والقرآن ميزان دقيق لتشخيص الحق عن الباطل والهدى عن الضلال: {اَللهُ الّذي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْميزانَ}[5].

التباس وتداخل الحقّ والباطل

من طبيعة الحياة الدنيا انها تخلط الحق بالباطل، حتى يكاد يصعب على الإنسان التمييز بينهما وفرز بعضهما عن بعض.

ويتداخل الحق والباطل في المجتمع، فلا يكاد الإنسان، يميز اصحاب الهدى والحق عن اصحاب الهوى والباطل، ففي الناس الصالحون، وفيهم الفاسدون، وفي الناس اصحاب القلوب السليمة وفيهم اصحاب القلوب المريضة، وليس من السهل فرز الناس بعضهم عن بعض، وتمييز الصالح منهم عن الطالح، وتتداخل الخطوط والاتجاهات والاراء والمواقف في الحياة الدنيا فلا يكاد يميز الإنسان احياناً الحق منهاعن الباطل.

ويعتلج الحق والباطل في داخل النفوس فيتداخل الهوى والهدى، والحق والباطل، والنور والظلمة في داخل نفس واحدة، ويتوزع الإنسان بينهما، ويحير في التشخيص والتمييز.

وقد جعل تعالى في حياة الإنسان اربع مفارز تفرز الحق عن الباطل، وتميز هذا عن ذاك، وترفع الالتباس بينهما، بصورة دقيقة، وهذه المفارز ثلاثة منها في الدنيا وواحدة في الاخرة.

اما التي في الآخرة فيوم الفصل.

ويوم الفصل: من خصائص يوم القيامة، انه يوم الفصل والتمييز بين الناس، ففي الحياة الدنيا يدخل الناس بعضهم في بعض، فلا يكاد يميز الإنسان بين الصالحين وغيرهم من الناس، اما في الاخرة فيتميز المجرمون عن الصالحين.

{وَامْتازُوا اليَومَ أيُّها الُْمجْرِمُونَ}[6].

وفيه ينشطر الناس الى شطرين، صالح وفاسد، ويفصل يوم القيامة بينهما فصلا دقيقا.

ومن اسماء القيامة في القرآن (يوم الفصل):

{هذا يَوْمُ الفَصْلِ الّذي كُنْتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ}[7].

{إنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ ميقاتُهُمْ أَجْمَعينَ}[8].

{وَإذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ، لأيّ يَوْم أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ}[9].

{إنَّ يَوْمَ الفَصْلِ كانَ ميقاتاً}[10].

ان الحياة الدنيا تلبس الناس جميعا اقنعة متشابهة، فيختلط الناس بعضهم ببعض، وتسترهم هذه الاقنعة فلا يكاد الإنسان يميز الناس بعضهم عن بعض اما يوم القيامة فتسقط هذه الاقنعة عن الوجوه ويتعرى الناس، ويحشرون عرايا من دون قناع ولا ستر {يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ}[11].

وفي الحياة الدنيا تصيب الإنسان حسناته وسيئاته كما تصيبه حسنات وسيئات غيره، فاذا احسن المحسنون، وتضرعوا الى الله واتقوا، فإن الله تعالى ينزل رحمته على تلك الجماعة وتصيب هذه الرحمة المحسن والمسئ منهم على نحو سواء، كما ان الناس اذا اساءوا فإنّ شر هذه الاساءة يصيب الناس جميعا، المسيئين منهم وغير المسيئين، واذا استنزلت هذه الاساءة غضب الله تعالى، فان الغضب الالهي يصيب تلك الجماعة المسيء منها والمحسن، على نحو سواء، وهذه سنة الهية في الثواب والعقاب في الدنيا، يقول تعالى: {وَاتّقُوا فِتْنَةً لا تُصيبَنَّ الَّذين ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصّةً}[12].

اما الاخرة فينفرز الناس بعضهم عن بعض، ويصيب كل واحد من الناس تبعات واثار عمله خاصة، ان خيرا فخيراً وان شراً فشر.

يقول تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرى}[13].

ولا يحشر الناس في الاخرة كما يحشرون في الدنيا جميعاً، بعضهم مع بعض يصيب بعضهم حسنات الاخرين وسيئاتهم، وانما يحشر الناس في الاخرة كل بانفراده ويحاسب فردا {وَكُلّهُمْ آتيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً}[14].

امّا الفصل والفرقان في الدنيا ففي ثلاث:

التقوى فرقان: والتقوى في حياة الإنسان نور وفرقان، تمنح صاحبها القدرة على التشخيص والتمييز، فلا تختلط عليه الامور، ولا يلتبس لديه الحق بالباطل.

يقول تعالى: {يا أيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَكُمْ فُرْقاناً}[15].

وتمنح التقوى صاحبها نورا وبصيرة وعلما تمكنه من ان يمشي به في الناس ويميز به الحق عن الباطل، والهوى والنور عن الظلمة.

يقول تعالى: {يا أيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَامِنُوا بِرَسُولِهِ، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِه، وَيَجعَل لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحيمٌ}[16].

يؤتكم كفلين من رحمته: اجران، وليس اجرا واحدا، ويجعل لكم نورا تمشون به: نورا في العمل والمعاشرة والسلوك، وليس للتنظير والتفكير فقط.

ويغفر لكم: وهذه الثالثة مغفرة وتطهير للذنوب.

ويقول تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ}[17].

الذين يتقون الله تعالى يعلمهم الله مالا يعلمون، ويهديهم الله الى الصراط المستقيم من بين المسالك والطرق الكثيرة، ويبصرهم الحق من بين شعب الباطل والهوى.

الفتنة والابتلاء فرقان: والفتنة والابتلاء في الحياة الدنيا من أقوى عوامل الفرز بين الحق والباطل، يفرزان الباطل عن الحق في نفس الإنسان، ويفرزان الباطل عن الحق في المجتمع ايضا وهذان دوران للفتنة والابتلاء في فرز الباطل عن الحق، ففي داخل النفوس يعتلج الهوى والهدى دائما.

وفي تمحيص النفوس مما فيها من الهوى والفجور والباطل يقول تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما في صُدُورِكُمْ وَلِيمَحَّصَ ما في قُلُوبِكُمْ}[18].

والتمحيص هو تخليص النفس والمجتمع مما فيهما من الزيغ والهوى.

الفتنة تشطر المجتمع شطرين

والدور الاخر للفتنة هو فرز الناس بعضهم عن بعض، ان الناس ليتداخلون في حالات اليسر والرفاه، ويختلطون ببعض، ففيهم المتقون الصالحون، وفيهم اصحاب القلوب المريضة، وتحشرهم الحياة الاجتماعية على صعيد واحد في السوق والعمل وفي المسجد، وفي ساحات الحياة المشتركة الاخرى، فلا نكاد نتبين اصحاب القلوب السليمة من اصحاب القلوب المريضة. فاذا حلّت الفتنة بساحة المجتمع اختلف الحال، وشطرتهم الفتنة شطرين متميزين الى اليمين، والى اليسار، كما يتميزون يوم القيامة تماما، فان الفتنة خافضة رافعة، تخفض اناسا، وترفع اخرين، وتميز هولاء عن اولئك، تصمد في الفتنة طائفة من الناس، فيزيدهم الله نورا على نورهم، وصلابة على صلابتهم، وينهار اخرون، ويستسلمون لتيار الضلال والانحراف، فيجرفهم التيار معه الى حيث يحب الشيطان من السقوط والهلاك، وتعبير القرآن بهذا الصدد دقيق: {وَلُِيمَحِصَّ اللهُ الَّذينَ امَنُوا، وَيَمْحَقَ الْكافِرينَ}.

ففي الوقت الذي تمحص الفتنة طائفة من الناس، وتطهرهم، وتخلصهم من الدنس والفجور، تمحق طائفة اخرى، وتهلكهم. يقول امير المؤمنين علي بن ابي طالب× في الفتنة التي حدثت بمقتل عثمان بن عفان، وما استتبع هذه الفتنة من البلبلة، والارتباك في صفوف المسلمين: «الا وان بليتكم قد عادت كهيئتها، يوم بعث الله نبيه2، والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة، ولتغربلن غربلة، حتى يعود اسفلكم اعلاكم، واعلاكم اسفلكم، وليسبقن سباقون، كانوا قصروا، وليقصرنّ سباقون كانو سبقوا»[19]، ويقول× ايضا في نفس الفتنة: «والله لتمحصن، والله لتميزن، والله لتغربلن، حتى لا يبقى منكم الا نزر»[20]. بلبلة، وتمحيص، وتمييز، وغربلة، ثم لا يبقى في عملية الغربلة هذه الا القليل النادر من الناس. فالفتنة تفرز الناس الى شطرين اثنين، وفي الفتنة يسقط أناس كانوا من السباقين والبارزين في ساحة العمل، ويسبق أُناس لم يكن لهم شأن أو اسم يذكر من قبل.

قوانين السقوط والصعود في الفتنة

وهذا التخلف والسقوط، والسبق والصعود لا يحصل بصورة عفوية، وانما يحصل بموجب قوانين وسنن الهية دقيقة، فالذين اتقوا وخافوا مقام ربهم يسلمون من هذه العاصفة، والذين استسلموا لاهوائهم تأخذهم عاصفة الفتنة معها، يقول امير المؤمنين× ، وهو الخبير بامر الفتن، وقد فقأ عينيها، كما يقول هو×: «ايها الناس انما بدأ وقوع الفتن من اهواء تتبع، واحكام تبتدع، يخالف فيها حكم الله، يتولى فيها رجال رجالا»[21].

فاذا اتبع الإنسان هواه أوكله الله الى نفسه فيجرفه تيار الفتنة ويُسلبه القدرة على المقاومة والصمود، فلا يكاد يكون للانسان حول ولاقوة امام عاصفة الفتنة الهوجاء.

يقول امير المؤمنين× ايضا: «ان ابغض الخلائق الى الله رجلان: رجل وكله الله الى نفسه، فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة، ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدى من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حمال خطايا غيره رهن بخطيئته»[22].

واما اذا ما اتقى الإنسان الله تعالى وخاف مقام ربه، فان الله عزوجل يلتزمه ولا يكله الى نفسه، ويتولى اموره، ويرزقه الحول والقوة، فلا يصيبه من هذه العاصفة سوء. يقول امير المؤمنين×: «اعلموا انه من يتق الله يجعل له مخرجا من الفتن، ونورا من الظلم»[23] ويقول× ايضا: «يا ايها الناس شقوا امواج الفتن بسفن النجاة»[24].

الفتنة تخلط وتفرز

ومن العجب ان الفتنة تقوم بدورين اثنين متعاكسين: تبلبل، وتخلط، وتشبه، وتسلب من الناس بصائرهم، فيلتبس عندهم الحق بالباطل والباطل بالحق، وفي نفس الوقت تفرز، وتميز اصحاب الحق والمتقين عن غيرهم.

وقد سمعنا الامام يقول في الفتنة: «لتبلبلن بلبلة، ولتغربلن غربلة، حتى يعود اسفلكم اعلاكم، واعلاكم اسفلكم»، والبلبلة والغربلة فعلان متعاكسان، فان البلبلة خبط وخلط، والغربلة تمييز وفرز. ويقول الامام امير المؤمنين× ايضا في الفتنة ودورها في الخبط والخلط والتلبيس: «ان الفتن اذا اقبلت شبهت، واذا ادبرت نبهت يشبهن مقبلات ويعرفن مدبرات»[25]. فان اعصار الفتنة اذا اقبل يشبه ويلبس الامر على الناس، ويحدث للناس بلبلة وتشويشا في الرؤية، ويسلبهم القدرة على التشخيص، فاذا ادبرت الفتنة، وانتهى الاعصار انتبه الناس الى هذا الخلط والخبط الذي اصابهم في ظروف الفتنة، وعند هبوب الزوبعة. وليس في هذا التعاكس في عمل الفتنة ودورها تناقضاً، وانما تخبط الفتنة، وتشوّش، وتخلط الحق بالباطل، وتلبس الامر لغير المتقين. اما المتقون فلا تمسهم الفتنة بسوء، ولاتنال من رؤيتهم وبصيرتهم، ولاتسلب منهم الرؤية والوعيويزيدهم الله تعالى فيها نورا وصلابة وقوة، فتميزهم الفتنة عن غيرهم وتفرزهم عن الناس.

الفتنة تسقط الاقنعة عن الوجوه

وبذلك فالفتنة تشطر الناس شطرين: اكثرية كبيرة من الناس تسحقهم، وتجرفهم معها، واقليّة من الناس تفرزهم وتمحصهم وتخلصهم. ولا يكاد يتميز هؤلاء الناس الذين تكشفهم الفتنة، وتعريهم عن الاقنعة التي كانوا يتسترون بها، وتجرفهم معها لولا الفتنة، فلقد كانوا في ظروف اليسر والسلامة مع المؤمنين الصالحين لا يختلفون عنهم في شـيء مما يراه الناس، بل كانوا يبارونهم في التظاهر بالتدين والتقوى. ونقرأ في كتاب الله هذه المقارنة بين حالة اليسر والشدّة وكيف تكشف الفتنة الناس وتعريهم، وتظهرهم على حقيقتهم وواقعهم، وتسفر عن وجوههم الحقيقة: {وَالْقائِلِينَ لإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنا وَلا يَأتُونَ الْبَأسَ إلاّ قليلا، أشِحَّةً عَلَيكُمْ فَاذا جاءَ الْخَوْفُ رَأيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أعْيُنُهُمْ كَالَّذي يُغْشى عَلَيْهِ من الْموْتِ فَاذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بألْسِنَة حِداد أشحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأحْبَطَ اللهُ أعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسيراً}[26].

القرآن (القول الفصل)[27]:

والعامل الثالث للفصل والفرز في حياة الإنسان: القرآن الكريم فهو القول الفصل في حياة الناس، والفصل كما يقول الراغب في (المفردات) إبانة أحد الشيئين عن الآخر، حتى يكون بينهما فرجة، والقرآن (قول فصل) بين الحق والباطل، ليس فقط يميز بين الحق والباطل ويفرق بينهما بل يفصل بينهما حتى لا يكاد الامر يلتبس على احد يقول تعالى: {إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وما هُوَ بِالهَزلِ}[28].

وهو الفرقان، الفارق بين الحق والباطل {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذي أُنْزلَ فيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيِّنات مِنَ الْهُدى وَالْفُرقانِ}[29].

فاذا التبس الحق بالباطل، واشتبه الامر على الإنسان فان القرآن يمنح الإنسان بصيرة ونوراً يميز بها الحق عن الباطل والهوى عن الهدى.

ويقول تعالى {تَبارَكَ الّذي نزَّل الفُرقَانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكونَ لِلْعَالَمينَ نَذيراً}[30].

وليس معنى (الفرقان) ان الله تعالى فرّق القرآن تفريقاً في النزول ولم ينزله مرة واحدة وذلك ان (التوراة) قد نزل مرّة واحدة، وليس في ذلك شك، ومع ذلك فان الله تعالى يقول {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارونَ الْفُرْقانَ}[31] فيسمي (التوراة) فرقاناً.

فالقرآن فرقان، لانه يميز الحق عن الباطل، ويمكّن الإنسان من التفريق بين الحق والباطل، اذا التبسا عليه واليك تفصيل لهذا الاجمال:

ان الشيطان لاينفذ الى نفس الإنسان من خلال الحق الصريح، ولا من خلال الباطل الصريح ـ إلاّ بالنسبة الى اولئك الذين تمكّن من قلوبهم ـ فلا يدعو الشيطان الإنسان الى مجانبة الحق ومخالفته، عندما يكون الحق صريحاً وخالصاً، ولا يدعوه الى الباطل واتباعه، عندما يكون الباطل صريحاً، وانما ينفذ الشيطان الى قلوب الناس عادة اذا التبس الحق بالباطل وتداخلا و تشابها، فان الشيطان يجد في هذا الالتباس والتداخل بين الحق والباطل ارضاً هشة للنفوذ والتأثير.

يقول اميرالمؤمنين×: «الا والحق لو خلص لم يكن اختلافاً، ولو ان الباطل خلص لم يخف على ذي حجى، ولكنه يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان معا، فهنالك يستولي الشيطان على اوليائه، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى»[32].

وعند ذلك يحتاج الإنسان الى حصانة تحميه من الشيطان، وتمنحه مناعة تمنع الشيطان من النفوذ الى نفسه، ويحتاج الى نور وبصيرة، تمكنه من تمييز الحق من الباطل، وفرز احدهما عن الآخر و التقوى هي تلك الحصانة، والقرآن هو ذلك النور والبصيرة التي تمكّن الإنسان من الفصل بين الحق والباطل، عند الالتباس {قَدْ جاءَكُم مِنَ الله نُورٌ وَكِتابٌ مُبينٌ}[33].

واليك طرفا من النصوص الاسلامية في هذا المعنى:

الكلمة النبوية في القرآن

عن رسول الله2 قال: اذا التبست عليكم الفتن، كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فانه شافع مشفع، وما حل مصدق، من جعله امامه قاده الى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه الى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل، ليس بالهزل، وله ظهر وبطن فظاهره حكمة، وباطنه علم، ظاهره انيق، وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، ومنازل الحكمة، دليل على المعروف لمن عرفه».

ايضاح وشرح للكلمة النبوية

واجب ان اقف قليلا عند فقرات هذا الحديث يقول رسول الله2: «اذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم»: ان الفتن اذا اقبلت كانت كقطع الليل المظلم، ظلمات فوق بعض، تنعدم فيها الرؤية تماما، اذا اخرج يده لم يكد يراها، وهذه خاصية الفتنة المظلمة، تسلب الرؤية، ويلتبس فيها الحق بالباطل، حتى لا يكاد يميز الإنسان فيها الحق عن الباطل.

(فعليكم بالقرآن): عليكم باللجوء الى القرآن، والتسلح بالقرآن، والتبصر والاستنارة به، (فانه شافع مشفع وما حل مصدق): فان القرآن يشفع الى الله للعاملين به ولحملته، ويطلب لهم من الله النور، والبصيرة، والتمييز، وازالة اللبس، والهدى والبصيرة، كما ان القرآن (ماحل مصدق)[34]، يسعى الى الله عزّ وجلّ في المعرضين عنه، ويشكوهم الى الله، ويصدقه الله تعالى.

(وهو كتاب تفصيل، وبيان وتحصيل): ليس فيه اجمال او غموض، ولا يترك لحملته لبسا او ترديدا، في شأن من شؤون الدنيا والاخرة.

(وهو الفصل، ليس بالهزل): انه القول الفصل، الفاصل بين الحق والباطل، وبين الهوى والهدى، وهو الجد كل الجد، ليس فيه من الهزل شيء.

(له نجوم وعلى نجومه نجوم): والنجوم هي معالم الطريق للسائر في الليل في البيداء {وَعَلامات وَبالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}[35] ففي القرآن نجوم ومعالم للطريق، لا يضيّع الطريق من تمسك به، وسار على هداه ومعالمه، وتأكيداً للهداية والدلالة الى الله على هذا الطريق الشائك والطويل، فان على نجومه نجوماً، ولهذه المعالم معالم، فاذا ضاع الإنسان والتبست عليه معالم الطريق فان على هذه المعالم والنجوم معالم ونجوم اخرى في القرآن، فلا يكاد يضيعُ ولا يمكن ان يلتبس عليه الامر في حال من الاحوال.

الكلمة النبوية الثانية

وعن رسول الله2: «القرآن هدى من الضلالة، وتبيان من العمى، واستقالة من العثرة، ونور من الظلمة، وضياء من الاحداث: (الفتن)، وعصمة من الهلكة (الهوى)، ورشد من الغواية، وبيان من الفتن، وبلاغ من الدنيا الى الآخرة، وفيه كمال دينكم، وما عدل احد عن القرآن إلاّ إلى النار.»[36]

كلمة اميرالمؤمنين في استنطاق القرآن

وانما يكون القرآن فصلا وفرقاناً، اذا حاول الإنسان ان يستنطق القرآن، ويحكّمه في حياته على نفسه، وفيما يختلط عليه من امر الحق والباطل وهذا هو مفتاح وعي القرآن.

يقول اميرالمؤمنين× ، وهو ممن اتاه الله تعالى مفاتيح وعي القرآن: «فاستنطقوه (لقرآن)، ولن ينطق، ولكن اخبركم عنه: الا ان فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم ونظم ما بينكم»[37].

وانما ينطق القرآن لنابعلم ما يأتي بما يبين من سنن الله تعالى، في التاريخ، وفي حياة الإنسان، والتي نستطيع ان نستقرء منها المستقبل كما نستطيع ان نفهم بها الماضي.

وان القرآن لينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، والذين آتاهم الله تعالى مفاتيح وعي القرآن وفهمه يحسنون فهم القرآن واستنطاقه.

كلمة اُخرى لأمير المؤمنين في القرآن

ويقول اميرالمؤمنين×: «كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يخالف بصاحبه عن الله»[38].

واتهموا عليه اراءكم

ولا يكفي ان نستسلم للقرآن، وننقاد له في مرحلة العمل وتنفيذ الحكم فقط، وانما يجب ان نتهم عليه اراءنا، ونُخطّأ به تصوراتنا وقناعتنا، ونخضع قناعاتنا وآراءنا وافكارنا لكتاب الله، كما نخضع أعمالنا وتصرفاتنا له، ونجعله مقياسا لافعالنا وقناعاتنا.

يقول أميرالمؤمنين× في القرآن: «واستدلوه (لقرآن) على ربكم، واستنصحوه على انفسكم، واتهموا عليه اراءكم واستغشوا فيه اهوائكم»[39].

فاذا جعلنا القرآن مقياسا و ميزاناً لا نفسنا، في العمل، والتفكير فان القرآن يعطينا عند ذلك القول الفصل فيما يلتبس علينا من أمر الحق والباطل، ويمنحنا فرقاناً نفرق به بين الحق والباطل والضلال والهدى {إنّا اَنْزَلْنا إلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أراكَ الله}[40] فقد انزل الله الكتاب على رسوله2، ليكون له مقياساً وميزاناً للحكم والفصل بين الناس، بما اراه الله في هذا الكتاب.

من جعله امامه قاده الى الجنة

ولكي ينطق القرآن لنا بالقول الفصل، وبالفرقان بين الحق والباطل، علينا ان نحكّم القرآن على آرائنا وتصوراتنا، ولا نُحكِّم آراءنا وتصوراتنا وقناعاتنا على القرآن. فان «من جعله امامه قاده الى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه الى النار»[41] فمن يجعل القرآن أمامه، ويتخذه اماماً يقوده القرآن الى الجنة، ومن يحاول ان يحمّل القرآن اراءه وقناعاته وهواه، ويتقدم القرآن يسوقه الى النار.

فإذا حَكَّمنا القرآن على آرائنا وقناعاتنا، وجعلنا القرآن مقياساً وميزاناً لتصحيح افكارنا، واتّخذنا من القرآن اماما واستنطقناه فانه يفتح صدره لنا، ويمنحنا نوراً، وبصيرة، وتشخيصا، وتمييزا في حياتنا، لايلتبس معه علينا الحق بالباطل ولا الهدى بالضلال.

حديث الحارث في القرآن

عن الحارث الأعور قال: دخلت على اميرالمؤمنين علي بن أبي طالب×، فقلت: يا أميرالمؤمنين، انا اذا كنا عندك سمعنا الذي نسد به ديننا، واذا خرجنا من عندك سمعنا اشياء مختلفة مغموسة، لا ندري ما هي.

قال: سمعت رسول الله2 يقول: أتاني جبرئيل. فقال: يا محمّد سيكون في امتك فتنة. قلت: فما المخرج منها؟ فقال: كتاب الله، فيه بيان ما قبلكم من خبر، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من وليه جبار، فعمل بغيره أقصمه الله، ومن التمس الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، لا تزيفه الأهواء، ولا تلبسه الالسنة، ولا يخلق عن الردّ ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء. من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن أعتصم به هُدِي الى صراط مستقيم هو الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.[42]

كلمة الامام زين العابدين في القرآن

وكان الامام زين العابدين علي بن الحسين‘ يقول في صفة القرآن في الدعاء عند ختم القرآن:

«وفرقاناً فرقت به بين حلالك وحرامك، وكتاباً فصلته لعبادك تفصيلا وميزان قسط لا يحيف عن الحق لسانه اللهم صل على محمّد وآل محمّد، واجعلنا ممن يعتصم بحبله، ويأوي من المتشابهات الى حرز معقله، ويسكن في ظل جناحه، ويهتدي بضوء صباحه»[43].

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الطّارق 13ـ14.
  • [2] ـ آل عمران: 3 ـ 4.
  • [3] ـ الفرقان: 1.
  • [4] ـ البقرة: 185.
  • [5] ـ الشورى: 17.
  • [6] ـ يس: 59.
  • [7] ـ الصّافات: 21.
  • [8] ـ الدّخان: 40.
  • [9] ـ المرسلات: 11 ـ 13.
  • [10] ـ النبأ: 17.
  • [11] ـ الطّارق: 9.
  • [12] ـ الانفال: 25.
  • [13] ـ الزّمر: 7 والاسراء: 15 وفاطر: 18 والانعام: 164.
  • [14] ـ مريم: 95.
  • [15] ـ الانفال: 29.
  • [16] ـ الحديد: 28.
  • [17] ـ البقرة: 282.
  • [18] ـ آل عمران: 154.
  • [19] ـ بحار الأنوار: 5/218، ونهج البلاغة: الخطبة رقم 16.
  • [20] ـ بحار الأنوار: 5/216.
  • [21] ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 5.
  • [22] ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 17.
  • [23] ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 83 ـ 183.
  • [24] ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 2.
  • [25] ـ كتاب الغارات لابي اسحاق الثقفي 1/6 وما بعده
  • [26] ـ الاحزاب: 18 ـ 1.
  • [27] ـ وكما القرآن عاملفصل وتمييز في حياة المسلمين فان اهل البيت ^ قرين الكتاب في هذا الامر، وقد صرح بذلك رسول الله2 في حديث الثقلين الشهير الذي رواه ثقاة المحدثين من الشيعة والسنة.
  • [28] ـ الطارق: 12 ـ 13.
  • [29] ـ البقرة: 185.
  • [30] ـ الفرقان: 1.
  • [31] ـ الانبياء: 48.
  • [32] ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 50.
  • [33] ـ المائدة: 15.
  • [34] ـ الماحل الذي يسعى الى السلطان عن رعيته، والقرآن ماحل مصدق اذا سعى عن الانسان الى الله عزّ وجلّ صدقه.
  • [35] ـ النحل: 16.
  • [36] ـ الكافي 2/439.
  • [37] ـ بحار الأنوار 92/23، ح 24، عن نهج البلاغة: الخطبة رقم 156.
  • [38] ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 133.
  • [39] ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 176; وبحار الأنوار، 92/24.
  • [40] ـ النساء: 105.
  • [41] ـ من حديث رسول الله2، تفسير العياشي، 1/2.
  • [42] ـ تفسير العياشي، 1/3.
  • [43] ـ الصحيفة السجادية: الدعاء رقم 42.
تحميل الفيديو
الشيخ آية الله محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن 1 (وعي القرآن)

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى