ثقافة

القرآن شفاء للقلوب المريضة

ولابد ان نتوقف قليلا عند كلمة (القلوب المريضة) لنعرف دور القرآن في شفاء هذه القلوب، وهو مصطلح قرآني ولا نعرف ما اذا كان لهذا المصطلح وجود قبل القرآن أم لا.

ويقصد القرآن بهذا المصطلح: القلوب التي تنحرف عن حالة السلامة، والتي تفقد سلامتها وبالتالي لا تستطيع ان تقوم بدورها في توجيه الإنسان الى الله تعالى.

وقد روي عن امير المؤمنين علي بن أبي طالب×: ان للجسم ستة احوال: الصحة، والمرض، والموت، والحياة، والنوم، واليقظة، وكذلك الروح، فحياتها علمها، وموتها جهلها، ومرضها شكها، وصحتها يقينها، ونومها غفلتها، ويقظتها حفظها (أي ذكرها)[1].

وبناء على هذا النص، فان القلوب تحيى بالعلم، وتموت بالجهل، وتمرض بالشك والريب، وتصح باليقين، وتنام بالغفلة، وتستيقظ بالذكر.

ثلاث طوائف من القلوب

وقد ورد في الآية المباركة التالية ذكر لثلاث طوائف من القلوب: القلوب المريضة، والقلوب الميتة (القاسية)، والقلوب السليمة.

يقول تعالى {وَما أَرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُول وَلانَبِيّ إلاّ إذا تَمَنّى ألْقَى الشّيْطانُ في اُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخ اللهُ مايُلْقِي الشّيْطانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ واللهُ عَليمٌ حَكيمٌ*لِيَجْعَلَ مايُلْقِي الشّيْطانُ فِتْنَةً لِلّذينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُم وَانّ الظّالمين لَفي شِقاق بَعيد*وَلِيَعْلَمَ الّذينَ اُوتُوا الْعِلْمَ أنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّكَ فَيُؤمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإنّ اللهَ لَهادِ الّذينَ آمَنُوا إلى صِراط مُسْتَقيم}[2].

فما يتمنى رسول ولا نبي ان يستجيب الناس للدعوة، وينقادوا لله تعالى إلاّ سعى الشيطان في افساد هذه الرغبة والامنية، واثارة الشكوك والوساوس حول دعوة الانبياء، ثم ينسخ الله عمل الشيطان، ويحكم دعوة الانبياء الى آياته، فيكون ما يلقي الشيطان من وساوس وشكوك في دعوة الانبياء سببا لافتتان طائفتين من القلوب:

(القلوب المريضة)، و(القلوب القاسية)، {فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ}، واما القلوب السليمة التي استجابت لدعوة الانبياء وعلمت، انها الحق فتزداد ايمانا وتخبت لها (أي تلين وتخشع).

فهذه ثلاث طوائف من القلوب، تذكرها الآية المباركة.

ومنها يظهر ان القلوب القاسية غير القلوب المريضة، فان القلوب المريضة هي التي تتعطل بصورة جزئية وفي بعض الجوانب، اما القلوب القاسية فهي التي تتعطل بصورة كاملة وتفقد كل دورها، فالقلب القاسي كالحجر الصلب لايأخذ ولا يعطي، ومهمة، القلب هي الأخذ والعطاء ان يأخذ من الله ويعطي للانسان. يأخذ من الله النور والوعي والقوة والعزم، ويعطي ذلك لصاحبه في حركته الى الله. اما القلوب القاسية فهي لا تأخذ من لدن الله تعالى شيئا بسبب قسوتها وبالتالي لا تعطي للانسان شيئاً.

ان الارض الهشة الرخوة تاخذ من المطر والهواء والشمس، وتمنح ذلك للنواة التي تنميها في جوفها، وبذلك تزدهر وتخصب وتخضر وتثمر، اما الارض الصلبة الصخرية فلا تأخذ شيئا ولا تعطي، وبذلك تبقى قاحلة جدباء، وهكذا القلوب القاسية.

فالقلوب القاسية في الحقيقة قلوب ميتة وعاطلة تماماً عن اداء دورها في حياة الإنسان، فهاتان طائفتان من القلوب: القلوب المريضة، والقلوب القاسية (الميتة) تفتتنان بوساوس الشيطان والقاءاته.

واما القلوب المؤمنة فتزداد ايمانا وصلابة تجاه الباطل، واخباتا وخشوعا ولينا تجاه الله تعالى، وهذه الصلابة واللين وزيادة الايمان والاخبات تكتسبها هذه القلوب في ساحة المواجهة مع الهوى والطاغوت فان المواجهة كما تضع اناسا ترفع اناسا آخرين.

أ ـ القلوب السليمة

والقلوب السليمة هي التي تؤدي دورها اداء سليما، وليس لغير الله تعالى فيها حظ او شرك، فتخلص لله تعالى في حبها وبغضها، وفي التوكل والرجاء، وتخشع لله تعالى وتخبت، وتحب في الله، وتبغض في الله، وتنقاد لامر الله، وتطيع، ولا تقدم شيئا على امر الله تعالى ورسوله، وهذه امارة سلامة القلب.

يقول تعالى: {يا أيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواالله}[3].

فالقلب السليم هو الذي لا يقدّم حبّاً ولا بغضا على حب الله ورسوله وانما يجعل حبه وبغضه تابعا لما يريد الله ورسوله، وكلامه وحركته تبعا لأمر الله.

والقلب السليم هو الذي يسلم من كل انحراف وزيغ، ومن الاستجابة للهوى والشيطان، ومن الحب في غير الله والبغض في غير الله، وهو مصطلح قرآني محدد كما كان الأمر كذلك في القلب المريض يقول تعالى:

{يَوْمَ لايَنفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إلاّ مَنْ اَتَى الله بِقَلْب سَليم}[4].

فلا ينفع الإنسان يوم القيامة بضاعة مهما كان نوعها بين يدى الله إلاّ من جاء الى الله بقلب سليم، فهو وحده البضاعة التي يتقبلها الله تعالى من عباده في ذلك اليوم.

ب ـ القلوب المريضة

وفي مقابل (القلب السليم) يقع (القلب المريض)، وهو كما ذكرنا مصطلح قرآني محدد يستعمله القرآن الكريم كثيرا يقول تعالى: {في قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً}[5].

{يا نِساءَ النّبِيّ لَسْتُنَّ كَأَحد مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيطْمع الّذي في قَلْبِهِ مَرَضٌ}[6].

{لَئِن لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ في الْمَدينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ}[7].

والقلب المريض في مقابل القلب السليم، هو القلب الذي يضعف في عمله ويتعطل في بعض الجوانب عن اداء وظيفته ودوره في عملية الأخذ والعطاء (الأخذ من الله والعطاء للانسان).

والقلب اذا ضعف في التلقي من لدن الله تعالى ضعف في امداد صاحبه بالنور، والوعي، والقوة، والعزم، بصورة طبيعية، والقلب المريض بعكس القلب السليم يستجيب لغير الله، ويكون لغير الله حظ، وشرك، ونصيب، في حبه، وبغضه، واقباله، واعراضه، واستجابته، وصدوده، ويكون للهوى دور وسلطان فيه، ومن ثم يستجيب لها، ولا يتمكن من الاخلاص لله تعالى في حبه وبغضه ورجائه وخوفه، ولا تكون مرضاة الله تعالى هي المحور الذي يستقطب كل شؤونه وعمله واهتمامه.

سيئات الجوانح والجوارح

وانما يمرض القلب بالسيئات والذنوب.

وللقلوب سيئاتها وذنوبها. كما للاعضاء والجوارح، وهذه رؤية جديدة وفهم جديد على البشرية للسيئة، يطرحها القرآن الكريم.

فالناس يفهمون (السيئة) و(الذنب) في دائرة الجوارح والاعضاء فقط، اما سيئات القلوب وما يخفيه الإنسان في نفسه فهو امر جديد على تصورات الناس للمعصية والذنب والسيئة.

يقول تعالى: {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}[8].

ويقول تعالى: {فَإنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}[9].

ويقول تعالى: {وَإن تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُم بِهِ اللهُ}[10].

فهناك من السيئات ما يخصّ القلوب، ولا علاقة لها بالجوارح والاعضاء، وسواء أظهر الإنسان ما في نفسه او اخفاه فان الله تعالى سوف يحاسبه عليها.

وأوضح منها جميعا قوله تعالى:

{وَذَرُوا ظاهِرَ الإِثْمِ وَباطِنَهُ}[11].

فان باطن الاثم، او الاثم الباطني، هو الاثم الذي ترتكبه القلوب، ويستبطنه الإنسان في نفسه، وقد امرنا ان نكف عن الذنوب، ظاهرها الذي ينعكس على الجوارح والاعضاء، وباطنها الذي تكتسبه القلوب. وهذه الذنوب والآثام في داخل النفوس، والقلوب هي اساس الذنوب التي تكتسبها الاعضاء والجوارح. فالحسد ذنب من ذنوب القلوب، والكره والبغضاء من آثام النفوس، والعجب من معاصي القلوب، ولكن لهذه المعاصي جميعاً انعكاسات واسعة على جوارح الإنسان واعضائه.

ومهما يكن من امر فان هذه الآثام هي أساس امراض القلوب وانحرافاتها وهي اساس شقاء الإنسان وبؤسه.

القرآن شفاء للقلوب المريضة

وبعد هذه الجولة السريعة في دائرة امراض القلوب نعود لنقول ان الله تعالى قد جعل القرآن شفاءً للقلوب المريضة.

يقول تعالى: {يا أيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، وَشِفاءٌ لِما في الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنينَ}[12].

ويقول تعالى: {قُلْ هُوَ لِلّذينَ آمَنُوا هُدىً، وَشِفاءٌ وَالّذينَ لا يُؤمِنُونَ في آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولئِكَ يُنادَونَ مِن مكان بَعيد}[13].

ويقول تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ ماهُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنين، ولا يَزيدُ الظّالِمِينَ إلاّ خَساراً}[14].

اسباب امراض القلوب

ولنقف بعض الوقت عند هذه الايات المباركات:

ان حالات مرض القلب تنشأ من امرين:

من الشك في الله تعالى.

ومن سلطان الهوى والشهوات على النفس.

1 ـ الشك في الله: وهذا هو السبب الأول لحالات امراض القلب، فان الشك يزلزل القلب عن مستقره في الايمان والعقيدة، ويعصف به، ويعتّم عليه الرؤية الصافية والواضحة، ويسلبه اليقين، وعند ذلك يتحول الإنسان من عنصر هادف يملك رأياً، وموقفا محددا، وخطا فكريا وسياسيا، واتجاها واضحا الى خشبة طافية في مجرى التيار يلعب به التيار، ويسلب منه الموقف والرأي والوضوح والخط.

ويفرز هذا الشك جملة من امراض القلب، وليس هذا الشك دائما في ذات الله، فقد يكون الشك في صفات الله واسماء الله الحسنى، وهو يساوق الشك في ذات الله. فالحسد وهو من اهم الأمراض النفسية، وأشدها، نابع من الشك في صفة «الرزق» وصفة «الحكمة» و«العدالة» من صفات الله الحسنى، فان الإنسان اذا آمن بان الله هو الرزاق ذو القوة المتين، لا بخل في ساحته، ولا ينقص الجود والكرم لعباده شيئاً من خزائن رحمته، وانما يوسع على من يشاء من عباده بالرزق ويقدر على من يشاء لما يراه من حكمة ومصلحة تخفى علينا… اقول:

… اذا آمن الإنسان بهذه الحقائق فلا يحسد الناس على ما آتاهم الله من الرزق والرحمة، فله ان يسأل الله ان يرزقه ما رزق غيره، فلو كانت المصلحة والحكمة تقتضي ذلك، فليس في ساحة الله تعالى بخل ولا ظلم، تعالى عن ذلك علواً كبيراً. وانما يحسد الناس بعضهم بعضا لشك يخالج نفوسهم في عدالة الله تعالى، او في رزقه لعباده او عدله، والشك في كل واحد من هذه الصفات شك في ذات الله تعالى.

وكذلك الطمع والجشع والتهالك على السعي في تحصيل حطام هذه الدنيا نابع من الشك في واحد من هذه النقاط بالضرورة. ولو ان الناس آمنوا بالله وبصفاته الحسنى ايمانا كاملا لم يحسد بعضهم بعضا، واجملوا في السعي في طلب الرزق ولم يحترقوا بنار الطمع والجشع والحسد.

وقد ورد في الادعية كثيرا الاشارة الى هذه النقطة (واجعلني بقسمك راضيا)، فان الإنسان اذا آمن بحكمة الله تعالى وعدله ورزقه برئ من الحسد والطمع، واجمل في السعي في طلب الرزق.

2 ـ سلطان الهوى والشهوات على النفس: والسبب الآخر لامراض القلب سلطان الهوى والشهوات على النفس، فيتوزع القلب بين الاستجابة لله تعالى، وسلطان الهوى والشهوات. يطيع الله تارة، ويعصي الله تعالى في الاستجابة والانقياد لاهوائه تارة اخرى. ويعطي حبه لله تعالى حينا، ولغير الله من مغريات الدنيا حينا اخر. ويجعل لله تعالى شريكا في قلبه في الطاعة والاستجابة والحب، وهذا نوع من (الشرك) ودرجة من درجاته. ومن خلال هذه الاستجابة لسلطان الهوى يمتد الشيطان الى حياة الإنسان ويحتل قلبه، ويفرض سلطانه ونفوذه على قلبه، وعقله، ويسلبه البصيرة، والعزم، والتقوى، وتتمكن من نفسه الاهواء والشهوات.

وكل ذلك يكون سببا لان يتجاوز الإنسان حدود الله تعالى، ويرتكب الذنوب والمعاصي وتكثر الذنوب، ويتكرر السقوط في حياة الإنسان، ثم تتحول هذه المعاصي والذنوب التي يرتكبها الناس في الاستجابة لاهوائهم وشهواتهم الى رين وصدأ على قلوبهم تحجبهم عن معرفة الله ورؤيته، وتحجب عنهم النور وتسلبهم البصيرة والوعي، {كَلاّ بَلْ رانَ على قُلُوبِهِمْ ما كانُواْ يَكْسِبُونَ}[15].

فهذه طائفة واسعة من امراض القلب تنشأ من سلطان الهوى والشهوات على قلوب الناس، وتستدرجهم بالنتيجة الى الشرك بنحو من الانحاء وبدرجة من الدرجات، وتسلبهم الاخلاص والايمان بدرجات مختلفة.

الشرك في الطاعة والشرك في الحب

يقول تعالى: {وَما يُؤمِنُ أَكْثَرُهُم باللهِ إلاّ وَهُم مُشْرِكُونَ}[16].

ويقول تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتّى يُحكّموكَ فيما شَجَرَ بَينَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسلِّمُوا تَسْلِيماً}[17].

ويقول تعالى: {قُلْ إنْ كانَ آباؤُكُمْ وأبناؤكُمْ وَإخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهاد في سَبيلِهِ، فَتَرَبّصُوا حَتّى يَأتِيَ اللهُ بِأمْرِهِ، وَاللهُ لايَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقينَ}[18].

والقرآن الكريم يعالج هذه الامراض التي تصيب قلوب الناس، وتفسد عليهم قلوبهم بطريقته الخاصة المتميزة، فيبرئ القلوب من امراض الشك، بتنبيه الفطرة وازالة الشكوك من النفس ويعيد الإنسان الى فطرته ووعيه، وطريقة القرآن في هذا الجانب طريقة قوية ومؤثرة متميزة. يبرئ القلوب من الامراض الناشئة عن سلطان الهوى على النفوس بالتذكير، والوعظ، والترغيب والترهيب، والقصص، والعبر، والامثال. وهي طريقة مؤثرة وقوية، فالقرآن شفاء للقلوب، يبرئ القلوب مما فيها من الامراض المستعصية، وليس من داء في النفس إلاّ وفي القرآن له دواء، لو ان الإنسان استجاب لدعوة القرآن، وقد حفلت النصوص الاسلامية بهذا المعنى.

عن رسول الله2: «ان هذا القرآن هو النور المبين، والحبل المتين والعروة الوثقى، والدرجة العليا، والشفاء الاشفى، من استضاء به نوره الله، ومن عقد به اموره عصمه الله، ومن تمسك به انقذه الله، ومن لم يفارق احكامه رفعه الله، ومن استشفى به شفاه الله»[19].

وعنه2: «استشف بالقرآن، فان الله عزّوجلّ يقول: شفاء لما في الصدور»[20].

وايضا عنه2: «القرآن هو الدواء»[21].

وعن اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب×: «ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن اخبركم عنه الا ان فيه علم يأتي والحديث عن الماضي ودواء، دائكم ونظم امركم»[22].

وعنه× ايضا: «واعلموا انه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لاحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من ادوائكم، واستعينوا به على لأوائكم: (محنتكم وشدتكم)، فان فيه شفاء من اكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والظلال»[23].

وعن موسى بن جعفر الكاظم×: «في القرآن شفاء من كل داء»[24].

وليس لامراض النفوس والقلوب من شفاء في غير القرآن، ومهما سعى الإنسان وبحث عن الشفاء لما يعانيه من بؤس وشقاء في ظل الحضارة المادية فلن يحصل على شـيء. فقد ابى الله تعالى ان يجعل شفاء الإنسان من شقائه وازماته إلاّ في كتابه المبين.

وصدق رسول الله2، حيث يقول كما يروي عنه الرواة: «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله»[25] او «من استشفى بغير القرآن فلا شفاه الله»[26].

فليس في غير القرآن دواء وشفاء لشقاء الإنسان وبؤسه، ومهما يبحث الإنسان بعيداً عن هدى الله وكتابه عن شفاء ودواء لبؤسه وشقائه، فلا يزيده ذلك إلاّ بؤسا على بؤسه وشقاءً على شقائه.

ج ـ القلوب الميتة:

والطائفة الثالثة من القلوب هي القلوب الميتة ويسمي القرآن اصحابها بـ {القاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ}[27].

وقسوة القلب هي درجة عالية من مرض القلب فيها يفقد صاحبه كل بصيرته ووعيه، وتتعاظم درجة الانغلاق في القلب، فيتحجر القلب، ويقسوحتى يفقد كل ارتباط بالله تعالى، وكل وعي وبصيرة، فيكون القلب عندئذ كالحجارة اواشد قسوة من الحجارة {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ اَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأْنْهارُ وَإنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَما اللهُ بِغافِل عَمّا تَعْمَلُونَ}[28].

وهذه الحالة هي اقصى ما يبلغه القلب من القساوة، وفقدان الوعي والرؤية والبصيرة، فهي تكون كالحجارة، اواشد قسوة من الحجارة، وذلك ان من الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء، وتتفجر منه الانهار، وان من الحجارة لما يهبط من خشية الله، فهي على ما بها من قسوة، تأخذ، وتعطي، وتهبط من خشية الله. اما القلوب القاسية، فلا تأخذ ولا تعطي، ولا ينفذ فيها نور ولا هدى، ولا تهبط من خشية الله، ولا تستكين، ولا تتضرع الى الله… وهؤلاء لا ينفعهم شيء، ولا ينفذ الى قلوبهم نور، ولا ينفعهم تذكير ولا قرآن من عند الله، ذلك ان القرآن والتذكير ينفعان من كان حيّا، وهؤلاء موتى، فقدوا كل اثر للحياة الحقيقية يقول تعالى: {إنَّ الله يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أنْتَ بِمُسْمِع مَنْ في الْقُبُورِ}[29].

واذا بلغ القلب هذا المبلغ من القسوة والانغلاق على الله تعالى، وتحجر الى هذه الدرجة فقد كل رؤية وبصيرة، وكان بينه وبين الله تعالى حجاب غليظ كامل، يجعل صاحبه في ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، تنعدم فيها الرؤية والبصيرة انعداما كاملا يبلغ درجة الصفر تماما.

انعدام الرؤية

ولنصغ الى القرآن يشرح حال هذه الطائفة من الناس يقول تعالى: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلُمات لا يُبْصِرُونَ}[30] {اَوْ كَظُلُمات في بَحْر لُجِّىٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْض إذا أخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُور}[31].

اعراض الحجاب

واعراض هذا الحجاب والانغلاق هوالعمى والصمم {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سمعهم وَعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ}[32].

{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجعُونَ}[33].

{وَالَّذينَ كَذبوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ في الظُّلُمات}[34].

{قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها}[35].

{وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثيراً مِنَ الْجِنِّ وَالانْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يَبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ اذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالأْنْعامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ}[36].

ومن اعراض هذه الحالة فقدان الاستجابة لدعوة الله تعالى، يقول تعالى: {إنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[37].

{إنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وَقْراً وَإنْ تَدْعُهُمْ إلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إذاً أبداً}[38].

اهم عوامل قسوة القلب

واهم عوامل واسباب موت القلوب وقسوتها هوالاعراض عن ذكر الله والتكذيب باياته، والاستكبار على الله وآياته.

يقول تعالى: {وَالَّذينَ كَذَّبُوا بِاياتِنا صُمٌّ، وَبُكْمٌ في الظُّلُماتِ}[39].

{وَلَوْ عَلِمَ الله فيهِمْ خَيْراً، لأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أسْمَعَهُمْ، لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[40].

{إنَّكَ لاتُسْمِعُ الْمَوْتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إذا وَلَّوْا مُدْبِرينَ}[41].

{وَإذا تُتْلى عَلَيْهِ اياتُنا وَلّى مُسْتَكْبِراً كَأنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأنَّ في أذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرهُ بِعَذاب أليم}[42].

{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَإنَّ له مَعيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى}[43].

المعادلة ذات الحلقات الثلاث

وهذا الرين والعمى والصم في الدنيا هوالعذاب الذي يعاقب الله تعالى به الكافرين والمنافقين في الاخرة. فان العذاب في الاخرة ليس من قبيل العقوبات الجزائية في الدنيا، وانما هوالصورة الحسية لانغلاق الإنسان وإعراضه عن الله في الدنيا، تتجسد في الاخرة على هذه الصورة من العذاب الاليم.

فهذه معادلة ذات ثلاث حلقات كل حلقة ترتبط بما قبلها ارتباط المسببات باسبابها التكوينية. كما ان الامراض في الدنيا هي العقوبة التكوينية للاهمال بالصحة، وليس من قبيل الجزاء، كذلك عذاب الاخرة هوتجسيد لواقع ابتعاد الإنسان وانقطاعه عن الله تعالى في الدنيا. ولنتأمل في هذه الايات المباركات من سورة المطففين ترسم لنا العلاقة بين هذه الحلقات الثلاث التي اشرنا اليها.

{كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ، كَلاّ إنَّهُمْ عن ربِّهِم يَوْمَئِذ لََمحْجُوبُونَ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحيمِ، ثُمَّ يُقالُ هَذا الَّذي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}[44].

  1. ان السيئات والمعاصي هي سبب الرين على القلوب، والرين هوالصدأ.
  2. والرين على القلوب هوالحجاب الذي يحجب الإنسان عن الله.
  3. والحجاب الذي يحجب الإنسان عن الله في الدنيا هوما يلقاه الإنسان من عذاب الجحيم في الاخرة.

ونقرأ في سورة طه: {وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَإنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ اَعْمى، قالَ ربِّ لِمَ حَشَرْتَني أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصيراً، قالَ كَذلكَ أَتَتْكَ اياتُنا فَنَسيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى}[45].

فالتعامي عن آيات الله يتحول يوم القيامة الى العمى، والعمى في الاخرة هي النتيجة التكوينية والصورة الحسية للتعامي عن آيات الله في الدنيا. ويقول تعالى: {وَمَنْ كانَ في هذِهِ أعْمى فَهُوَ في الاخِرَةِ أعْمى وَأضَلُّ سَبيلا}[46].

فالعمى في الاخرة ذوعلاقة تكوينية بالعمى في الدنيا. وليس من قبيل العقوبات الجزائية على المخالفات القانونية في الدنيا.

واذا كانت العقوبة في الاخرة نتيجة تكوينية للانغلاق على الله والانحراف والغفلة عنه تعالى في الدنيا، فان القرآن له دور مزدوج في امر القلوب في الدنيا والاخرة فاذا دخل الإنسان في رحاب القرآن. فان القرآن يضمن سلامة قلوب المؤمنين، ويتعهد عمارتها في الدنيا ويضمن في نفس الوقت، وكنتيجة طبيعية لذلك سلامة هذه القلوب في الاخرة وعدم ابتلائها بعذاب الاخرة.

ان القلوب التي تأنس بالقرآن في الدنيا وتتفاعل مع القرآن، ويصوغها القرآن لن يصيبها العذاب في الاخرة، والقلوب التي يسكنها القرآن في الدنيا يهجرها الشيطان، وحب الدنيا والهوى في الدنيا، ولا يصيبها العذاب في الاخرة. هذه جميعا قضايا متسلسلة يترتب بعضها على بعض، ولا يمكن فصل بعضها عن بعض.

وقد روي عن رسول الله2 في ذلك: «لا يعذب الله قلبا وعى القرآن»[47].

وايضا عنه2 :«لا يعذب الله قلبا اسكنه القرآن»[48].

وروي عن اميرالمؤمنين×: «اقرأوا القرآن واستظهروه فان الله لا يعذب قلباً وعى القرآن»[49].


الهوامش والمصادر

  • [1] ـ بحار الأنوار: 61/40.
  • [2] ـ الحجّ: 52 ـ 54.
  • [3] ـ الحجرات: 1.
  • [4] ـ الشعراء: 88 ـ 89.
  • [5] ـ البقرة: 10.
  • [6] ـ الاحزاب: 32.
  • [7] ـ الاحزاب: 60.
  • [8] ـ البقرة :225.
  • [9] ـ البقرة: 283.
  • [10] ـ البقرة: 284.
  • [11] ـ الانعام: 120.
  • [12] ـ يونس: 57.
  • [13] ـ فصّلت: 44.
  • [14] ـ الاسراء: 82.
  • [15] ـ المطفّفين: 14.
  • [16] ـ يوسف: 106.
  • [17] ـ النساء: 65.
  • [18] ـ التوبة: 24.
  • [19] ـ بحار الأنوار: 31.
  • [20] ـ بحار الأنوار: 92/176 عن (عدة الداعي).
  • [21] ـ بحار الأنوار: 92/176 عن (عدة الداعي).
  • [22] ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 158 (156) وبحار الأنوار: 92/23.
  • [23] ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 176.
  • [24] ـ مكارم الاخلاق: 420 باب الاستشفاء بالقرآن.
  • [25] ـ مكارم الاخلاق: 418 باب الاستشفاء بالقرآن.
  • [26] ـ مستدرك الوسائل: 1/2.
  • [27] ـ الزّمر :22.
  • [28] ـ البقرة :74.
  • [29] ـ فاطر:22.
  • [30] ـ البقرة :17.
  • [31] ـ النّور :40.
  • [32] ـ البقرة: 7.
  • [33] ـ البقرة: 18.
  • [34] ـ الانعام: 39.
  • [35] ـ الانعام :104.
  • [36] ـ الاعراف :179.
  • [37] ـ الانعام :36.
  • [38] ـ الكهف :57.
  • [39] ـ الانعام :39.
  • [40] ـ الانفال :23.
  • [41] ـ النّمل :80.
  • [42] ـ لقمان :7.
  • [43] ـ طه: 124.
  • [44] ـ المطففين : 14 ـ17.
  • [45] ـ طه 124 ـ126.
  • [46] ـ الاسراء : 72.
  • [47] ـ بحار الأنوار : 92/187.
  • [48] ـ مستدرك الوسائل:1/ 287 الطبعة الاولى.
  • [49] ـ بحار الأنوار 92/19، ورواه عن رسول الله2 في المستدرك: 4/245 الطبعة الثانية (مؤسسة آل البيت).
تحميل الفيديو
الشيخ آية الله محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن 1 (وعي القرآن)

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى