ثقافة

القرآن مأدبة الله

الأوعية الثلاثة:

يحتاج الإنسان في حركته إلى الله تعالى الى غذاء وامداد متصلين، وهذا الغذاء هو حاجة كل المصادر والاوعية التي تمنح الإنسان الحركة والقدرة والعزم في سيره وحركته الى الله تعالى.

وهذه المصادر على ثلاثة أقسام رئيسة:

1 ـ مصادر وأوعية للوعي: كالعقل، والفؤاد، والصدر، والقلب، والفطرة، على اختلاف في طريقة تلقيها للوعي.

2 ـ مصادر وأوعية للتنفيذ: الإرادة والعزم.

3 ـ و بين النوع الأول (مصادر الوعي)، والنوع الثاني (مصادر التنفيذ) لا بدّ من موضع ثالث في نفس الإنسان للتحكيم، وذلك أن العوامل المؤثرة في نفس الإنسان ليس فقط من النوع الأول عوامل وعي وخير، وإنما هناك نوع آخر من عوامل الفجور والشهوات تعمل وتؤثر في نفس الإنسان، ويتزاحم هذان العاملان على عامل الإرادة والعزم في مقام التنفيذ، ولذلك فلابدّ في نفس الإنسان من موضع للتحكيم والفصل والحسم، والأحكام الصادرة من هذه المحكمة تدخل في مرحلة التنفيذ، وهذه المحكمة هي (الضمير)، وهو الوعاء الثالث في نفس الإنسان.

1ـ النوع الأول من المصادر تتعلق بشؤون الرؤية والبصيرة والوعي، وهي الشرط الأول في الحركة، والنوع الثاني يعتبر القوة الباعثة على التحرك في الإنسان، والنوع الثالث يعتبر المحكمة الداخلية في نفس الإنسان للحل والحسم وفصل القضايا، وهو الضمير.

وهذه المصادر جميعاً بحاجة إلى غذاء متصل، كما يحتاج الجسم إلى الغذاء تماماً في فعالياته الحيوية. وهي ليست صفحات بيضاء، وأوعية فارغة تملأ بالتربية والتعليم، والعوامل والمؤثرات الاجتماعية، كما أنها ليست كنوزاً جاهزة، وعيوناً مخبوءة في نفس الإنسان، يصدر عنها الوعي، والرؤية، والإرادة، صدوراً تلقائياً، وانما هي اوعية، على درجة عالية من الاستعداد لتلقي النور، والوعي، والبصيرة، والعزم، والإرادة، والقوة من عند الله تعالى، تستنزل رحمة الله تعالى بفعل هذا الاستعداد العجيب وعلى قدر استعدادها تتلقى من الله الرحمة، فمنها أوعية كبيرة واسعة، ومنها اصغر من ذلك، ومنها دون ذلك، ومنها النفوس التي تفقد بصورة نهائية الاستعداد لتلقي رحمة الله تعالى، وأولئك هم اليائسون من رحمة الله تعالى بما ظلموا أنفسهم.

ولا شك أن هذا الاستعداد وسعته وضيقه، من عند الله تعالى، وقد وهب الناس جميعاً حدا من الاستعداد لقبول رحمته تعالى يمكنهم من الاستقامة على الصراط المستقيم، والحركة والكدح إلى الله.

والإنسان كلما يستقيم على صراط الله، ويتقدم في الحركة إلى الله تزداد قدرته واستعداده لتلقي رحمة الله، وكلما ينحرف، ويظلم نفسه، ويستجيب لعوامل الهوى في نفسه يفقد هذا الاستعداد، ويضيق وعاء نفسه لقبول رحمة الله ـ تعالى ـ وهداه، حتى يبلغ مرحلة يفقد فيها كل استعداد وامكان لقبول رحمة الله، وتلقي رزق الله النازل على عباده.

هذه المصادر والأوعية تتلقى من عند الله النور، والبصيرة، والرحمة، والعزم، والقوة، وتمد الإنسان في حركته إلى الله بما يمكنه من السير بنور وعزم، ولكي تبقى هذه الأوعية صالحة لتتلقى من جانب الله تعالى، وتمنح الإنسان من جانب آخر بما يحتاج إليه في حركته إلى الله لابد له من غذاء دائم، وهذا الغذاء هو التوجيه والإمداد الذي يمكن هذه الأوعية من مواصلة عملها من التلقي والعطاء، ومن دون هذا الغذاء تتعطل هذه الأوعية، وتفقد القدرة على أداء دورها في حياة الإنسان.

والقرآن الكريم هو الغذاء الرباني للإنسان وهو النور، والهدى، والبصيرة، والعزم، واليقين الذي يحتاجه الإنسان في حركته إلى الله تعالى.

وقد روى عن رسول الله2: «القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبة الله ما استطعتم، انه النور المبين، والشفاء النافع، تعلموه، فان الله يشرّفكم بتعلمه»[1].

«مأدبة الله فتعلموا من مأدبة الله، ما استطعتم»: أي خذوا من هذه المأدبة ما استطعتم، فلا نفاد لهذه المأدبة، ولهذا الغذاء الرباني الذي أعده الله تعالى للإنسان.

وعن أمير المؤمنين×: «كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض ولا يختلف في الله، ولا يخالف بصاحبه عن الله».[2]

الأخذ والعطاء بالقرآن

«كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به»:

والإنسان يقع بين هذين: بين الأخذ والعطاء بالسمع والبصر يأخذ الإنسان (وليس المقصود السمع والبصر الجارحة)، وبالنطق يعطي الإنسان ما يأخذه بالسمع والبصر، وبكتاب الله يسمع الإنسان، ويبصر، فلا يسمع إلاّ هدى، ولا يبصر إلاّ نوراً، ولا يتلقى بسمعه وببصره إلاّ الحق، وكأنَّ كتاب الله ينقي له ما يسمع وما يبصر، فلا يدخل نفسه إلاّ النقي من الحق، الذي لا يشوبه باطل، ولا زيف.

ثم يتفجر كتاب الله على لسانه، فينطق به، ويسدد القرآن نطقه وكلامه، فلا يقول إلاّ الحقَّ وينقّي كتاب الله ما يجري على لسانه، فلا يخالطه ما في نفس الإنسان من هوى وعصبية وانفعال.

القرآن كتاب ناطق

(وينطق بعضه ببعض): على عكس تصور الناس عن القرآن انه الكتاب الصامت، الذي يمكن تأويله وتوجيهه بالطريقة التي تمليها أهواء الناس، ولا يفصح هو عن نفسه، ليسدّ الطريق على تأويل المتأولين، وتفسير المنحرفين، فإن الامام× يقول: ان القرآن كتاب ناطق، وليس بالصامت، كما يقول الناس.

كيف نستنطق القرآن؟

يقول الإمام أمير المؤمنين×: «ذلكم القرآن فاستنطقوه»[3]. إلاّ إننا لا نحسن أن نستنطق القرآن، ولا نعرف كيف نستنطقه، ولو كنا نستنطقه لما بقي بيننا وبين معاني القرآن من حجاب ولا نفتح علينا القرآن واعطانا ما أودع الله ـ تعالى ـ فيه من كنوز المعاني والمفاهيم، والامام× يعطينا مفتاح ذلك لو أننا استعملناه لنطق لنا القرآن بما فيه، ولما التبس علينا مما فيه شـيء، يقول×: «ينطق بعضه ببعض».

بعض القرآن يشرح بعضه، وبعضه يهدي إلى بعض، وبعضه يزيل اللبس عن بعض، والقرآن في دلالته كما في أحكامه كل لا يتجزأ، فمن أراد أن يأخذ ببعض أحكامه، ويترك بعضاً، فانه لا يستطيع ان يستقيم على الصراط، وان يحصد ثمرات القرآن، كذلك القرآن في دلالاته.

فمن انتزع شطرا من كتاب الله، وفصله عن سائر أجزائه، فحاول ان يتعرف به على هدى الله ورسوله، لا يستطيع ان يبلغ هدى القرآن في كثير من الاحيان، واما من كان يستنطق بعض القرآن ببعض، ويهتدي ببعضه الى بعض، ويضم دلالات ايات الله الى بعض فان القرآن يفتح له صدره، ويكشف له عما أودع الله تعالى فيه من كنوز المعاني، ولذلك يقول الإمام× (ينطق بعضه ببعض) (ولا يختلف في الله)، وإنما يتراءى للناس أن في القرآن اختلافاً، لانهم يأخذون كل جزء منه مفصولا عن الأجزاء الأخرى، فإذا ضموا هذه الأجزاء إلى بعض، وربطوا مفاهيم القرآن ومعانيه ببعض، واقاموا من القرآن صورة واحدة في نفوسهم وعقولهم، لما اختلفت أجزاء هذا الكتاب لديهم في الله، ولما خالف بصاحبه عن الله كما يقول الامام×.


المصادر والهوامش

  • [1] ـ مستدرك الوسائل 1/287.
  • [2] ـ نهج البلاغة خطبة رقم 133 وبحار الأنوار 92 / 22.
  • [3] ـ نهج البلاغة الخطبة رقم 158 (156)، وبحار الأنوار: 92/23.
تحميل الفيديو
الشيخ آية الله محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن 1 (وعي القرآن)

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى