ثقافة

ضوابط منهجية في دراسة قضية المهدويّة

يحدّد الإمام الخامنئي مجموعة من الضوابط المنهجية التي لا بدّ من الالتزام بها في مقام البحث العلميّ والممارسة العملية وفي ميادين التبليغ كذلك، ومنها:

قضية المهدويّة قضية اعتقادية أساسية:

إنّ قضية المهدويّة هي في عداد المسائل الأصلية التي تدور في سلسلة المعارف الدينية العليا كقضية النبوّة مثلاً، حيث إنّ أهميتها ينبغي أن تقارن بأهمية النبوّة، لأنّ ذاك الشيء الذي تبشّر به المهدويّة هو نفس الأمر الذي جاء من أجله جميع الأنبياء عليهم السلام، وانطلقت من أجله جميع البعثات، وهو عبارة عن إيجاد عالمٍ توحيديّ مبنيّ وقائم على أساس العدالة، وبالاستفادة من جميع الاستعدادات التي أودعها الله تعالى في الإنسان. ومثل هذا العصر هو عصر ظهور الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، هو عصر المجتمع التوحيديّ، عصر حاكمية التّوحيد، عصر الحاكمية الحقيقية للروحانية والدين على كل مجالات حياة البشر، وعصر استقرار العدل بمعناه الكامل والجامع، وهذا ما جاء الأنبياء عليهم السلام من أجله.

فإنّ جميع التحرّكات التي قام بها البشر في ظلّ تعاليم الأنبياء عليهم السلام – وطيلة هذه القرون المتمادية – هي تحركات نحو الجادّة العريضة المُعبَّدة التي ستكون في عصر الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف متوجهةً نحو الأهداف السامية حيث يسير النّاس عليها. فمثل هذه التحركات مثل جماعةٌ من النّاس يتحرّكون في الجبال والأودية والطرق الشاقة والصعبة والمنعطفات الخطرة تبعاً لإرشاد أشخاصٍ معيّنين من أجل أن يصلوا إلى تلك الجادّة الأساسية. فعندما يصلون إلى الجادّة الأساسية يُفتح الطريق أمامهم ويتبيّن الصراط المستقيم وتصبح الحركة عليه سهلة، ويمكن السير عليه بيسر.

فإذا وصلوا إلى تلك الجادّة الأساسية لن تبتلى هذه الحركة بالتوقّف، بل سيبدأون سعياً جديداً نحو الأهداف الإلهية السامية، وذلك لأنّ استعدادات البشر لا منتهى لها، وطوال هذه القرون المتمادية كان البشر يسيرون على هذه الطرق وعلى المنعطفات والطرق الصعبة والشاقة، وهم يواجهون الموانع المتعدّدة بأبدانٍ متعبة، وأقدامٍ مثخنة بالجراح من أجل أن يوصلوا أنفسهم إلى هذه الجادّة الأصلية، جادّة زمان الظهور. إنّه عالم الظهور الذي ستبدأ البشرية فيه حركتها.

فلو لم تكن المهدويّة، لكان معنى ذلك أنّ جميع مساعي الأنبياء عليهم السلام وكلّ هذه الدعوات والبعثات وهذه التضحيات والجهود المضنية ستكون بلا فائدة وتبقى بلا أثر. لهذا فإنّ قضية المهدويّة هي قضيةٌ أساسية وتُعدّ من المعارف الإلهية الأساسية.

وجميع الأديان الإلهية تقريباً ـ إلى الحدّ الذي وصلت إليه مطالعاتنا ـ لديها ما يمثّل اللبّ والمعنى الحقيقيّ للمهدوية، لكن بأشكالٍ تمّ تحريفها وأشكالٍ مبهمة دون أن يتّضح المراد منها بالدقة.

المهدويّة قضيّة الإسلام وجميع المسلمين:

إنّ قضية المهدويّة في الإسلام من المسلّمات ولا تختصّ بالشّيعة، فإنّ جميع المذاهب الإسلامية تقبل بأنّ غاية العالم عبارة عن إقامة حكومة الحقّ والعدل على يد المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف. فقد روى أجلاّء الرواة عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في رواياتٍ معتبرة ذلك بطرقٍ مختلفة في المذاهب الإسلامية المتعدّدة، لهذا لا يوجد في ذلك أيّ شكٍّ، غاية الأمر أن امتياز الشّيعة في هذا الأمر أنّ قضية المهدويّة عندهم لا يعتريها الإبهام، وليست مسألةً معقّدةً يصعب على النّاس فهمهما، بل هي مسألةٌ واضحة ولها مصداقٌ واضح نعرفه، ونعرف خصائصه ونعرف آباءه وأسرته وولادته وتفاصيل أخباره، وفي مثل هذه المعرفة لا ينحصر الأمر بروايات الشّيعة، فهناك رواياتٌ جاءت عن طرقٍ غير شيعية، توضّح لنا مثل هذه المعرفة، ويجب على أتباع المذاهب الأخرى أن يلتفتوا ويدقّقوا حتّى تتّضح لهم هذه الحقيقة. لهذا إنّ أهمية المسألة هي بهذا المستوى ونحن أولى من الآخرين أن ننهض لمعالجتها، ويجب القيام بالأعمال العلمية الدقيقة والمتقنة على هذا الصعيد.

تلازم قضية الانتظار مع قضية المهدويّة:

قضية الانتظار قضيةٌ لا تنفكّ عن قضية المهدويّة، فالانتظار من المصطلحات المفتاحية الأساسية لفهم الدين. الانتظار يعني الترقّب، يعني ترصّد حقيقة قطعية، الانتظار يعني ذاك المستقبل الحتميّ والقطعيّ، وخاصة انتظار موجود حيّ وحاضر، فهذه مسألة في غاية الأهمية، فلا يُكتفى بالقول إنّ هناك من وُلد ووُجد، كلا فهذا الموجود له حضور بين النّاس. وفي الروايات أنّ النّاس يرونه وهو يرى النّاس ولكن لا يعرفونه. وشُبه في بعض الروايات بالنبيّ يوسف عليه السلام الذي كان يراه إخوته وكان بينهم وجلس مجلسهم ولكنّهم لم يعرفوه. فهو حقيقةٌ بارزةٌ واضحةٌ ومستنهضة، وهذا ما يعين على فهم معنى الانتظار، الذي تحتاجه البشرية والأمة الإسلامية بطريقٍ أولى، وهو الذي يضع على عاتق الإنسان تكليفاً، فعندما يكون الإنسان على يقين من مثل هذا المستقبل وكان من أهل العبودية لله كما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[1]، ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ[2] يفهم وعليه أن يهيئ نفسه ويكون منتظراً ومترصّداً.

وظيفة المنتظرين:

إنّ من لوازم الانتظار الإعداد الذاتيّ، بمعنى أن نعلم أنّ هناك واقعةً كبرى ستحدث ونكون منتظرين دوماً، فلا يصحّ أبداً أن يُقال إنّه قد بقي سنواتٌ أو فترات محدّدة لوقوع الأمر، ولا يصحّ أبداً أن يُقال إن هذه الحادثة قريبة وسوف تقع في هذه الأيام المقبلة. وعلينا أن نكون مترصّدين دائماً ومنتظرين دوماً.

فالانتظار يوجب على الإنسان أن يعدّ نفسه بطريقةٍ وهيئةٍ وخُلُقٍ يقارب الشاكلة والهيئة والخُلُق المتوقّع في الزَّمان الذي ينتظره.

فعندما يكون ذلك العصر المنتظَر هو عصر الحقّ والتوحيد والإخلاص والعبودية لله وهو منتظَرٌ فعلينا أن نقرّ بأنفسنا من مثل هذه الأمور ونعرّف أنفسنا إلى العدل ونهيّئها للعدل ولقبول الحقّ، فإنّ الانتظار يوجد مثل هذه الحالة.

ومن الخصائص المودعة في حقيقة الانتظار هي أن لا يقنع الإنسان بمقدار التقدّم الحاصل في وضعه الحالي، بل يسعى للإكثار منه يوماً بعد يوم، وأن يزيد من تحقّق الحقائق ومن الخصال المعنوية والإلهية في نفسه وفي المجتمع. إن هذه من لوازم الانتظار أيضاً.

ضرورة التحقيق العلميّ الجادّ بقضيتي الانتظار والظهور:

بحمد الله تعالى هناك اليوم من يقوم بأعمالٍ علمية. فلا ينبغي الغفلة عن هذه الأعمال العلمية المتلازمة معاً لدقة فيما يتعلّق بقضية الانتظار وقضية عصر الظهور. ويجب اجتناب عمل العوام والجهلة بشدّة، فمن الأشياء التي يمكن أن تشكّل خطراً كبيراً مثل هذه الأعمال البعيدة عن المعرفة، ولا ترجع إلى سندٍ ومدركٍ فيما يتعلّق بقضية إمام الزَّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهو ما سيشكّل فرصة مناسبة للأدعياء الكاذبين، فالأعمال غير العلمية وغير الموثّقة والتي لا تعتمد على المصادر والمدارك المعتبرة هي أوهامٌ وخيالاتٌ صرفة، ومثل هذه الأمور تبعد النّاس عن حالة الانتظار الحقيقية، وتهيّئ الأرضية للأدعياء الكاذبين والدجّالين، فهذا ما يجب اجتنابه بشدّة.

وعلى مرّ التاريخ ظهر مدّعون قاموا بتطبيق إحدى العلامات على أنفسهم، أو على أحد الأشخاص كما أشير إليها الآن، وكل هذه أخطاء، فإنّ بعض الأشياء التي ترجع إلى علائم الظهور ليست قطعية وهي أمورٌ لم ترد في الروايات المعتبرة التي يمكن الاعتماد عليها، وهناك روايات ضعيفة لا يصحّ الاستناد إليها، وتلك الموارد التي يمكن الاستناد إليها لا يمكن تطبيقها بسهولة. لقد وُجد دوماً من كان يطبّق هذه الأشعار الصادرة عن (شاه نعمة الله ولي) على أشخاصٍ مختلفين على مرّ القرون وهذا ما شاهدته بنفسي. قد يأتي شخص ويقول: لقد رأيت رجلا بطريقة ما، وما قد رآه في الواقع هو شخص ما، ثمّ يأتي زمان آخرـ لنفرض بعد مئة سنة ـ فيجد شخصاً آخر ينطبق عليه نفس الأمر! هذا خطأٌ، وهذه أعمالٌ مضلّة وتوقع في الأخطاء.

فعندما يقع الانحراف والخطأ فسوف تُهجر الحقيقة ويُشتبه الأمر فيها، وتتهيّأ الوسيلة لإضلال أذهان النّاس، لهذا ينبغي اجتناب عمل العوام والاستسلام للشائعات العامية بشدّة، وليكن العمل علمياً قوياً موثّقاً بالمدارك والأسانيد، وهو بالطبع عمل أهل هذا الفنّ، وليس عمل أيّ إنسان، بل ينبغي أن يكون من أهله ومن أهل الحديث والرجال والأسانيد، ومن أهل الفكر الفلسفيّ، فليعلم ويتعرّف إلى الحقائق وعندها يمكن أن يدخل في هذا الميدان ويقوم بالأعمال التحقيقية، فيجب الاعتناء بجدّية في هذا القسم من العمل مهما أمكن لكي يُفتح الطريق بمشيئة الله تعالى أمام النّاس، وكلّما استأنست القلوب بمقولة المهدويّة وتعرّفت عليها وأضحى حضور هذا العظيم عجل الله تعالى فرجه الشريف بالنسبة لنا نحن الذين نعيش في عصر الغيبة محسوساً أكثر ونشعر به أكثر ويتعمّق ارتباطنا به فسيكون أفضل بالنسبة لعالمنا ولتقدّمنا نحو تلك الأهداف.

اقيمة التوسّل والأنس بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف:

إنّ التوسّلات الموجودة في الزيارات المختلفة – والتي لبعضها أسانيد جيّدة ـقيمةٌ عالية، فالتوسّل والتوجّه والأنس بهذا الإنسان العظيم عن بعد لا يعني أن يدّعي أحدٌ أنّني سأصل إلى محضره أو أسمع صوته، أبداً ليس الأمر كذلك، فأغلب ما يُقال في هذا المجال ادّعاءاتٌ: إما أن تكون كذباً، أو أن من يقولها لا يكذب ولكن يتخيّل. فلقد شاهدنا أشخاصاً لم يكونوا كاذبين ولكن كانوا يتخيّلون وقد نُقلت تخيّلاتهم لهذا وذاك كوقائع! فلا ينبغي الإذعان لمثل هذه الأمور.

إنّ الطريق الصحيح هو الطريق المنطقيّ، وذاك التوسّل توسّلٌ عن بعد، والتوسّل الذي يسمعه الإمام عليه السلام منّا سيقبله إن شاء الله ولو كنّا نتحدّث مع مخاطبنا عن بعد، فلا إشكال في ذلك، والله تعالى يوصل سلام المسلّمين ونداء المنادين إلى هذا الجليل عجل الله تعالى فرجه الشريف، فهذه التوسّلات وهذا الأنس المعنويّ جيدٌ جداً وضروريّ.

نسأل الله بمشيئته تعالى أن يقرّب ظهوره ويجعلنا من أتباعه في غيبته وحضوره ويجعلنا بمشيئته من المجاهدين معه والمستشهدين بين يديه”[3].

الهوامش والمصادر

  • [1] سورة الأنبياء، الآية 105.
  • [2] سورة الأنبياء، الآية 106.
  • [3] من كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في أجواء ولادة الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف لعام 1432هـ. في جمعٍ من أساتذة وخرّيجي فرع المهدويّة بتاريخ: 9/7/2011.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى