ثقافة

الإنسانية المضطهدة والانتظار

“إنّ حال البشرية قد وصل إلى المضائق الشديدة والعقد الصعبة. فاليوم إنّ الثقافة المادّية تُفرض على البشر بالقوّة وهذه معضلة. إنّ من يعذّب البشر اليوم على مستوى العالم هو التمييز، فهذه عقدةٌ كبرى. واليوم قد أوصلوا حال ذهنية النّاس الخاطئة إلى حيث تضيع صرخات طلب العدالة من قبل شعبٍ ثائرٍ وسط عربدة المتسلّطين والمهيمنين وسكرهم, وهذه عقدةٌ أخرى أيضاً. واليوم يعاني مستضعفو أفريقيا وأمريكا اللاتينيّة، وملايين النّاس الجائعين في آسيا وآسيا القصوى، وملايين الملوّنين من ظلم التمييز العنصريّ، وقد تطلّعت عيونهم بأملٍ نحو منجٍ ومنقذ، ولا تسمح القوى الكبرى لهذا النداء المنجي بأن يصل إلى أسماعهم، هذه معضلة. فالفرج يعني فتح هذه المضائق وحلّ هذه المعضلات وفكّ هذه العُقد. فوسّعوا من رؤيتكم، ولا نحدّ أنفسنا في بيوتنا وحياتنا اليومية، فالعالم كلّه يطلب الفرج ولكن لا يدري ما هو الطريق.

(…) يجب أن تقتربوا بحركتكم المنظّمة في استمرار الثورة الإسلاميّة إلى الفرج العالميّ للبشريّة، وأن تقرّبوا أنفسكم من ظهور المهديّ الموعود والثورة الإسلامية النهائية للبشرية الّتي ستشمل العالم كلّه وتحلّ كلّ هذه العقد خطوة خطوة، وأن تقرّبوا البشرية بذلك أيضاً، فهذا هو انتظار الفرج. وإنّ لطف الرّبّ المتعال، ودعاء وليّ العصر عجّل الله تعالى فرجه الشريف المُستجاب، سيكون دعامتنا في هذا الطريق، ويجب علينا أن نتعرّف على هذا الإمام أكثر ونكون أكثر ذكراً له. فلا ينبغي أن ننسى إمام الزَّمان. فاحفظوا ذكر وليّ الله الأعظم في قلوبكم، واقرأوا “اللهمّ إنّا نرغب إليك في دولةٍ كريمة”[1] من أعماق قلوبكم وبالضراعة الكاملة. فلتكن أرواحكم في انتظار المهديّ وكذلك قواكم الجسمانيّة فلتتحرّك في هذا الطريق. وإنّ كلّ خطوةٍ تخطونها على طريق تثبيت هذه الثورة الإسلامية ستكون خطوة إضافية نحو ظهور المهديّ”.

لقد تحرّك أئمّتنا جميعاً في هذا الخطّ، من أجل أن تسيطر الحاكميّة الإلهيّة وحاكميّة القانون الإلهيّ على المجتمعات. لقد بُذلت الكثير من الجهود والجهاد والآلام والمحن والسجون والنفي والاستشهاد المليء بالثمار والعطاء، مثلما أنّ بني إسرائيل وبعد قرونٍ قد وجدوا هذه الفرصة في زمان سليمان النبيّ وداوود”[2].

يستعرض الإمام المغيّب السيد موسى الصدر في محاضرة له حول الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف جملة من العناصر التي تعطي للانتظار صبغته الحركية فيقول:

“من المشاكل التي يعاني منها مفهوم الانتظار، هو ضعف الإيمان، الذي يمكن أن يصيبه الهزال ولا يبقى منه إلّا الهيكل والنقش.

وفي الحقيقة، من الممكن لنا أن نجعل ميزاناً نقيس به هذا الإيمان، فمتى ما برزت منه حركة وحياة فمن الممكن أن نحاكم أنفسنا، ونقضي بيننا وبين وجداننا وبين ربّنا، فنسمّي أنفسنا بالمؤمنين. فهذا الإيمان، الإيمان الذي نتغنّى به، متى يظهر؟ متى يحكي؟ متى يأمر؟ متى ينهى؟

الإيمان الحيّ، هو الإيمان الذي يحرّك، ويدفع، ويوقف، ويقول ويأمر، وينهى.

إنّ المسجد مكان العبادة، والعبادة تكريس للإيمان، والإيمان مبدأ ومنبع الأمل، واليأس موت وجمود. من المعروف أنّنا نعتبر اليأس كفراً، ولكن لماذا يكون اليأس كفراً؟ لأنّ اليأس معناه عدم الإيمان بالحقّ. أمّا الإيمان بالله – وأرجو الانتباه إلى هذه الكلمة – الإيمان بالله والله هو الحقّ وهو العدل وهو العلم، وهو صاحب الأسماء الحسنى، والأمثال العليا، فالإيمان بالله يستلزم أن نؤمن بأنّ العالم أيضاً عالم الحقّ، والعدل، والعلم والجمال… لماذا؟ لأنّ هذا العالم من صنع الله.

إنّ الإيمان بالله الحقّ يعني: الإيمان بالله العالم، وأنَّ الأرض مبنيةٌ على أساس العلم، ومع الجهل لا يمكن السير في هذه الأرض إلا سير الأعمى والغريق. الإيمان بالله العادل، يعني الإيمان بأنّ الأرض مبنية على أساس العدل وهكذا. فإذاً، حين نؤمن بالله، ونرى أنفسنا على حقّ، معناه أنّ المستقبل لنا.

لماذا؟

لأنّ الكون قائم على أساس الحقّ، فالحقّ سينتصر لأنه من صميم الكون، ومن قاعدة الحياة، ولهذا يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ﴾، كتبنا في الكتب السماوية القديمة وإلى اليوم: ﴿أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[3] أما غير الصالح، فهو غريب في الكون، هذا أجنبيّ، هذا مثل دخول حصاة في الجسد! فالجسد سوف يدفعها ليتخلّص منها.

وهكذا الكون! الذي هو كون الله الحقّ، العدل، العالم… الباطل فيه غريب، والجاهل فيه غريب، والظالم فيه غريب، والمنحرف فيه غريب، والفوضويّ فيه غريب، وهكذا بعد مدّة يُدفع خارجاً. لا مجال على أرض الله للجاهل، لا مكان في أرض الله للظالم، لا مكان في بلاد الله للمنحرف الفوضويّ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا[4]، ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ[5] هذا سير العالم.

وواأسفاه على المسجد! كيف كان وكيف صار المسجد! كان محلّ الأبطال. هل تعلمون لماذا يسمّون المحراب محراباً؟

المحراب شعار المسجد، وسيلة الحرب، المذبح… هذه الشعارات، شعارات حية نابضة، لا يجب أن نحنطها ونحولها إلى أداة للجمود والسكون والوقوف وترك الدنيا والابتعاد عنها، والانعزال عن العالم. المسجدُ مصنعُ الرجال، المسجد يهيئ: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ[6] الزينة مفسرة بالسلاح، لأنّه لا زينة للرجل إلّا السلاح. هل نتزيّن بالملابس والحرير؟ نتزين بالكحل وتصفيف الشعر؟ هذه زينة النساء. والزينة مفسرّة في جميع التفاسير بالسلاح، ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ﴾ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ، المسجد محلّ التجنيد، محلّ الحركة، محلّ الحياة والاندفاع، محلّ التحرّر،

محلّ الانتظار.. وأمّا نحن الذين نحيي ذكرى صاحب الزَّمان، ذكرى الأمل والانتظار, سوف نكرّس بإذن الله هذين الهدفين العظيمين الأمل والانتظار لبناء المسجد.

وما أحوجنا في هذا اليوم إلى الأمل والانتظار، لأنّ النكبات والمحن حاولت أن تأخذ منا الأمل والانتظار. إنّ المؤمن لا ييأس كيفما كان!

في واقعة بدر، كان المشركون يرفعون شعارين: فقسم منهم رفع صنماً كانوا يسمّونه: هُبل، وكانوا يرددون الأنشودة المعروفة: “أعلُ هُبل، أعلُ هُبل“: المسلمون جاوبوا بأمر النبيّ: “الله أعلى وأجلّ”. أما الفئة الثانية فكانوا يرفعون الصنم الثاني العزّى وكانوا يقولون: “هذه عزّى، ولا عزّى لكم“، فالمسلمون أجابوا: “الله مولانا ولا مولى لكم“. لو كان لهم هبل والعزى، نحن لنا الله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ[7]. هو الأمل بالله العظيم، الأمل لا نفقده أبداً، ولن نفقده وقد مرّت علينا ظروف أظلم من هذه وما فقدنا الأمل.

نحن اليوم بحاجة إلى الأمل وإلى الانتظار والتهيؤ، كما سمعتم، لا يمكن أن يقبل منّا الله الانتظار بمعنى الاتّكال والتواكل. ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [8]، من الذي سينصره الله؟ ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ[9] هؤلاء هم هذا الخطّ”[10].

الجهاد والانتظار

“ماذا يعني انتظار الظهور؟ وماذا يعني نصّ “أفضل الأعمال انتظار الفرج“. البعض يتوهَّم ويظنّ أنّ “انتظار الفرج” وهو أفضل الأعمال يعني أن ننتظر ظهور إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف مع جمع من خواصّ أصحابه وأنصاره وعدّتهم “313” رجلاً ومعهم جمع آخر من غير الخواصّ، فيحاربون أعداء الإسلام ويطهّرون الأرض من دنسهم، ويقيمون العدل والأمن في البلاد ويوفّرون الرفاه والحرية بأكمل صورهما، بعد ذلك يقولون لنا: تفضلوا! البعض يتوهَّم أنّ انتظار الفرج هو هذا، ويصفونه بأنَّه أفضل الأعمال. ولكنّ الانتظار الحقيقيّ للفرج، هو بانتظارنا ظهور الإمام عليه السلام للانخراط في جيشه والقتال تحت إمرته حتّى ولو استشهدنا في هذا القتال. الانتظار الحقيقيّ هو أن يكون أمل الإنسان كلّه وكلّ أمانيه حقاً هي الجهاد في سبيل الله، وليس الانتظار حتّى يأتي الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف فنقول له: إذهب أنت وحدك فأنجز كلّ المهام الشاقة، وعندما يحين وقت جني الثمار سنأتي نحن. هذا هو منطق أصحاب موسى. أمّا أصحاب محمّد فقد قالوا له: يا رسول الله! لا نقول لك ما قاله لموسى بنو إسرائيل، أصحاب موسى عندما وصلوا إلى فلسطين – بيت المقدس – ورأوا فيها جنداً متأهّبين قالوا لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[11]. كان هذا هو منطق أصحاب موسى، اذهب أنت وربّك فقاتلا وطهّرا فلسطين من دنس الأعداء، وسنأتي نحن بعد أن نطمئنّ إلى أنّه لم يبق خطر فيها. إنّ موسى عليه السلام قد سألهم مستنكراً: فما هو واجبكم إذن؟! عليكم أنتم أيضاً أن تخرجوا من دياركم الغاصب الذي أخرجكم منها. أما أصحاب النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أمثال المقداد، فما كان قولهم كهذا، وإنّما قالوا: “لقد آمنّا بك وصدّقناك وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحقّ وأعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلَّف منَّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غداً[12].[13]

الهوامش والمصادر

  • [1] الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص424.
  • [2] الإمام السيد علي الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنةً، ص385 – 387.
  • [3] سورة الأنبياء، الآية 105.
  • [4] سورة النور، الآية 55.
  • [5] سورة القصص، الآية 5.
  • [6] سورة الأعراف، الآية31.
  • [7] سورة الزمر، الآية67.
  • [8] سورة الحج، الآية 40.
  • [9] سورة الحج، الآية 41.
  • [10] كلمة الإمام السيد موسى الصّدر في مناسبة 15 شعبان ولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
  • [11] سورة المائدة، الآية 24.
  • [12] القول لسعد بن معاذ وقد قاله جواباً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي استشار الأنصار في الخروج إلى المشركين في معركة بدر، تجده في السيرة النبوية لابن هشام، غزوة بدر.نهاية الجزء الثاني من طبعة بيروت.
  • [13] العلامة الشهيد الشيخ مرتضى مطهري، نهضة المهديّ في التاريخ، ص 256-262.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى