ثقافة

الدليل العقليّ على وجود الإمام المهدي

“جاء في الرسالة التي تُنكر وجود الإمام المهديّ (أرواحنا فداه) خطاب المجيب لسائله[1]: “لقد سألتَ أولاً: هل ثمّة دليل عقليّ على وجوب وجود إمامٍ بشكلٍ دائم أم لا؟

وفي الجواب، عليك أن تعلم أنّه يتمّ الحديث عن الإمام ويقصد به تارة الإمام المنتخب من قبل الله، ويقصد به تارة أخر

زعيم دينيّ له مكانة رفيعة في العلم والتقى، يضطلع بمسؤولية إرشاد المسلمين عن طريق ما له من دارية ناتجة عن العقل الصحيح والتأمّل بالكون وبكتاب الله. ومن الواضح أنّ الإمام بالمعنى الثاني هو ما يحتاج المسلمون إليه دائماً، ولا يستغني عنه أتباع كل دين، بل وفي المطلق أتباع كلّ اتّجاه سياسيّ، إذ الجميع بحاجة إلى الإمام والقائد والزعيم.

السؤال الأول: هل يحتاج المسلمون دائماً إلى إمام إلهيّ – منصَّب من قبل الله – أم لا؟

فالجواب هو بالنفي, إذ بين يدي المسلمين جميعاً إمام إلهيّ، حيّ دائماً، وحاضر لا يغيب يمكنهم الاستفادة منه، وهذا الإمام الإلهيّ هو القرآن الكريم نفسه، بدليل ما في القرآن من قوله تعالى: ﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا[2] والذي نستفيده من الآية أنّه إمام, وهو إمام حاضر لا يغيب، فهو إمام الزَّمان”.

الجواب: تقوم الدعوى (المفترضة) على أنّ القرآن الكريم الكتاب الإلهيّ الهادي هو إمام الأمّة، ولن تحتاج معه إلى إمام إلهيّ منتخب من قبل الله. وهذا الدليل غير تامّ وغير منتج للجهتين التاليتين:

أولاً: لقد ذكر القرآن الكريم أنّ لإبراهيم عليه السلام كتاباً باسم “صحف” إذ قال تعالى: ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ[3].

وهذا الكتاب السماويّ كان إماماً لعصر إبراهيم عليه السلام وهادي المؤمنين في زمانه. بيد أنّ القرآن نفسه يحدثنا في آيةٍ أخرى عن انتخاب الله لإبراهيم إماماً دون أن تكون إمامته عليه السلام معارضة لإمامة كتابه الإلهيّ, بل هما مجتمعان في زمن واحد دون منافاة, إذ يقول تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا[4].

إنّ حاصل الجميع بين الآيتين يفيدُ – كما هو واضح – أنّه ليس هناك تعارض في أن تجتمع في عصر واحد “إمامتان” عن الله (سبحانه) أحداهما إمامة الكتاب والثَّانية إمامة الشخص، كما حصل لإبراهيم الذي جعله الله إماماً إلى جوار إمامة صحفه.

وإذا لم تكن ثمة حاجة لإمامة شخص مجعولة من قبل الله ومنتخبة من قبلة، لمَا نصَّ (سبحانه) على إمامة إبراهيم، وهو (جل وعلا) المنزَّه عن اللغو والعبث.

نستنتج مما مضى أنّ إمامة القرآن الكريم بالمعنى الذي ذكرهُ كاتب الرسالة لا تغني عن إمامة إلهية ثانية.

ثانياً: من البديهيّ أنّ القرآن بحاجةٍ في توضيح مقاصده وتفصيل المعارف وخاصة الأحكام الشرعية إلى بيان النبيّ أو السنّة النبويّة عموماً. فالقرآن مثلاً يأمر بالصلاة والصوم والزكاة والحجّ والجهاد وغيرها، فيأتي أمره مجملاً عاماً، ثم يأتي التفصيل من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يبيّن كلّ ما يتعلّق بأجزاء هذه الواجبات وشرائطها وآدابها وسننها.

إنّ الهداية النبوية هذه متمِّمة لهداية القرآن ومكمّلة لبيانه بنصٍ إلهيّ صريح، كما يقول تعالى في خطاب نبيه الأكرم: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[5]، وقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ[6].

وما نستفيده من الدور النبويّ هذا الذي يصرّح به القرآن، أنّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفس الإمامة التي افترضها كاتب الرسالة التي نتحدَّث عنها، للقرآن الكريم.

فالنبيّ (إذاً) هو إمام بنفس المعنى الذي يكون فيه القرآن إماماً, مضافاً لنبوّته صلى الله عليه وآله وسلم.

ثمّ إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جعل أهل بيته أئمّة وجعلهم عدل القرآن وقرينه الذي لا يفترق

عنه كما في حديث الثقلين وحديث السفينة وغيرهما، وقد حثّ الأمة على التمسّك بهما (القرآن والعترة) كي لا يتنكبوا عن طريق الهدى نحو الضلال.

ما نخلص إليه من هذه المقدّمات، أنّ النبيّ الأكرم وأهل بيته عليه السلام هم أئمة طِبقاً لكلام الكاتب نفسه.

وقد يمكن أن نتصوّر أنّ الكاتب لا يعترض على إمامة الرسول الأكرم وأهل بيته، وإنما يُنكر فقط وجود الإمام الغائب (الإمام المهديّ عليه السلام) وأنّ الإمامة بنظره لا تنسجم في موقعها ودورها مع الغيبة. قد يكون الأمر كذلك، بيد أنّا نعترض على صفة العموم التي ينطوي عليها كلامه المارّ آنفاً، حين يُسأل: هل يحتاج المسلمون دائماً إلى إمام إلهيّ مُنتخب من قبل الله أم لا؟ فيجيب عن ذلك بالنفي. وهذه الإجابة هي خلاف ما أثبتناه[7].

في مقطع جديد من رسالته يضيف الكاتب: “أمّا إذا أردنا أن ننسخ أسطورة من الخيال ونزعم أنّ هناك إماماً يعمّر ألف سنة هو إمام الزَّمان، فإنا نكون بذلك قد سلكنا طريقاً يتعارض مع العقل والوحي كليهما. فمن منظور الوحي عرفنا أنَّ الإمام هو الذي يمارس دوره في الهداية والتوجيه حضوراً، أمّا إذا كان غائباً وليس له كتاب أو أثر يدلّ على هدايته، ولم يكن بمقدوره أن يُواجه مشكلات العصر ويجيب على تحدياته، فمثله لا يعدّ إماماً قرآنياً، أي لا يكون إماماً بالمعنى الذي وصفه القرآن وأمر باتّباعه”.

ثم يضيف: “وإذا قيل أين صرح القرآن بأنّ أثر الإمامة هو الاضطلاع بهداية النّاس؟ نقول في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ

أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا[8] ولا يقال إنّ الأمر يخصّ الماضين, بل هو للمسلمين وأهل القرآن أيضاً، وإلّا إذا كان مختصاً بالماضين فما فائدة ذكره لهذه الأمة؟”.

الجواب: علينا بدءاً أن نذكّر بهذه المقدمات:

أولاً: إن الهداية بمعنى التوجيه والقيادة تُطلَقُ على معنيين:

المعنى الأول: يشير إلى إراءة الطريق وحسب، يشير إلى الوصول إلى المقصد وبلوغ الهدف فعلاً. وعلى المعنى الأول يمكن للمهتدي الذي أُرشد إلى الطريق أن يمضي فيه فيصل إلى المقصد، ويمكن أيضاً أن يرفض الإرشاد ولا يبلغ الهدف.

المعنى الثاني: وأمّا الهداية، فيقترن معها دائماً بُلُوغُ الهدف، لأنَّ معناها يتضمّن الإيصال عملياً. يقول تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء[9].

ثانياً: أنّ الهداية بمعنى إراءة الطريق هي من لوازم النبوّة والرسالة، فكلّ الأنبياء والرسل الكرام الذين بعثهم الله بالوحي وأرسلهم لدعوة النّاس، تعدّ الهداية خاصّة من خصائص بعثتهم وأثراً لنبوّتهم.

يقول تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ[10].

ويقول تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي[11].

وثمّة آيات كثيرة في القرآن الكريم تدلّ على هذا المعنى, بل إنّ لمؤمني الأمة سهماً في هذا الدور، حيث يقول تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي[12]، ويقول تعالى أيضاً: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ[13]، إذ من الواضح أنّ الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي من مصاديق الهداية، وإلّا لما ذُكرت باسمها.

ثالثاً: أنّ الهداية والتوجيه هما من آثار الإمامة كما ورد في رسالة الكاتب، وكما عليه صريح القرآن، حيث يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا[14] فجَعْل الإمام يقتضي – إذاً – إعطاء الهداية، وبالتالي تكون الهداية من مستلزمات الإمامة أيضاً.

رابعاً: إنّ إمامة إبراهيم عليه السلام التي نصّ عليها القرآن في قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ[15] إنما جاءت بعد سلسلة من الامتحانات الإلهية، مثل الإلقاء في النار واعتزال القوم والهجرة إلى فلسطين وذبح ولده إسماعيل، فبعد أن خرج من هذه الامتحانات الإلهية جعله الله إماماً للناس، كما يشير تعالى إلى هذا المعنى، حيث يقول في سورة الصافّات بعد أن خرج الخليل ناجحاً من اختبار الرؤية التي قضت بذبح ولده: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ[16]. والذي نخلص إليه، إنَّ إبراهيم عليه السلام قبل أن يقع عليه النصّ بالإمامة كان رسولاً نبياً من أولي العزم، له كتاب وشريعة، وكان يمارس دعوة النّاس وهدايتهم، كما يتّضح جميع ذلك بجلاء من ثانياً الآيات القرآنية.

إنَّ التأمل الكافي بهذه المقدّمة يدلّنا بوضوح أنَّ تفسير الهداية التي هي لازمة من لوازم الإمامة بمعنى “إراءة الطريق” هي واحدة من الأخطاء الفاحشة، خصوصاً وأنَّ الآيتين من سورة البقرة والأنبياء اللتين تنصّان على إمامة إبراهيم عليه السلام صريحتان في المعنى الذي بينّاه.

ومكان المفارقة أنَّه من المحال أن تكون الهداية – التي هي لازمة لإمامة إبراهيم عليه السلام – في الآيتين المذكورتين بمعنى

إراءة الطريق” لأنّ إبراهيم عليه السلام كان رسولاً قبل أن يجعله الله إماماً، ومن لوازم النبوّة والرسالة أن يمارس الهداية

بمعنى “إراءة الطريق”، وبالتالي تكون الهداية بهذا المعنى هي تحصيل للنبوّة وثمرة للرسالة.

وتحصيل الحاصل بهذا الوضوح، من المحال أن يكون هو المراد بهداية الإمامة كما هو بيّن لمن له أدنى شعور.

من هنا نتبيَّن عدم معقولية الاعتراض الذي يسوقه الكاتب لعقيدة الشّيعة في الإمام الغائب، حيث ينتظر منه الهداية التي تدلّ على “إراءة الطريق“، وهذا خطأ فاحش غير قابل للإصلاح.

إذاً لا مناص لنا من حمل هداية الإمامة على المعنى الثاني الذي يشير إلى بلوغ الهدف والإيصال للمطلوب.

وبناءً عليه يكون دور الإمامة هو سوق أعمال النّاس نحو الله (سبحانه) من لحظة صدورها في الدنيا حتّى حساب الآخرة.

وهذا المعنى ثمّة الكثير ممّا يشير إليه في الأخبار والروايات كتلك التي تمثل انعكاس الأعمال وتجلّيها في أعمدة نور ترتفع نحو العرش وتكون في محضر الأئمة، وكذلك أخبار المساءلة في القبر، ودعوة النّاس في القيامة من خلال أئمّتهم، وما ورد في كيفية توزيع صحائف الأعمال وفي الأعراف والصراط والشفاعة، فكلّها تتضمّن المعنى الذي بينّاه لدور الإمامة.

ومن الواضح أنَّ إدارة أمر الأعمال على هذا النحو هي حالة ملكوتية لا علاقة لها بمسألة الغيبة أو الحضور الجسميّ للإمام. وبالتالي يستوي حال الإمام في الاضطلاع بهذه المسؤولية في أوقات الحضور والغيبة.

ثم إنَّ هذا الدور للإمامة لا يتعارض مع دور آخر يتمثل بتصدّي الإمام لبيان

أحكام الحلال والحرام ومعارف الدين حين يكون حاضراً مبسوط اليد. فالإمام من زاوية كونه الأعلم بحقائق الدين وأحكام الحلال والحرام يتصدّر حين يكون حاضراً مسؤولية حلّ المشكلات ويجيب عمّا يعرض عليه من أسئلة وإشكالات دون أن يكون ثمة تعارض بين الدورين”[17].


الهوامش والمصادر

  • [1] لم يشر السيد خسروشاهي المشرف على نشر آثار الطباطبائي قدس سره بأية معلومات عن هذه الرسالة وتأريخها، وفيما إذا كان أصلّها بالعربية ثم تُرجمت، أم أنها كتبت بالفارسية أصلاً.وإنما نفهم من السياق أنها تضمنت إجابة عن سؤال حول وجود الإمام المهديّ عليه السلام فأنكر المجيب وجود الإمام فكان أن تصدّى له السيد الطباطبائي قدس سره بهذا الجواب.
  • [2] سورة الأحقاف، الآية 12.
  • [3] سورة الأعلى، الآية 19.
  • [4] سورة البقرة، الآية 124.
  • [5] سورة الشورى، الآية 52.
  • [6] سورة النحل، الآية 44.
  • [7] إنّ هذه الشبهة التي تثيرها الرسالة ليست جديدة قط، بل هي إعادة إنتاج لشبهات الماضين – كما سيشير لذلك السيد الطباطبائي{ أيضاً – ففي كتاب الكافي نقرأ أن رجلاً شامياً حضر مجلس الإمام الصادق عليه السلام وكان في المجلس المتكلم المعروف هشام بن الحكم، فسأل هشام الشامي قائلاً: يا هذا أربّك انظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم؟ أجاب الشامي: بل ربي أنظر لخلقه، قال هشام: ففعل بنظره لهم ماذا؟ أجاب الشامي: أقام لهم حجة ودليلاً كيلا يتشتتوا أو يختلفوا، يتألّفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربّهم، قال هشام: فمن هو؟ أجاب الشامي: رسول الله صلى الله عليه وآله، قال هشام: فبعد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ أجاب الشامي: نعم، فردَّ هشام: فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياك؟ فسكتَ الشاميُّ، فقال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام للشامي: ما لك لا تتكلم؟ قال الشامي: إن قُلت: لم تختلف كذبت، وإن قلت: أن الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت، لأنهما يحتملان الوجوه، وإن قلت: قد اختلفنا وكل واحد منّا يدّعي الحق فلم ينفعنا الكتاب والسنة.

يُراجع الحوار كاملاً في: الأصول من الكافي: ج2، كتاب الحجة: ص172.

  • [8] سورة الأنبياء، الآية 73.
  • [9] سورة القصص، الآية 56.
  • [10] سورة البقرة، الآية 213.
  • [11] سورة النساء، الآية 165.
  • [12] سورة يوسف، الآية 108.
  • [13] سورة آل عمران، الآية 110.
  • [14] سورة الأنبياء، الآية 73.
  • [15] سورة البقرة، الآية 124.
  • [16] سورة الصافات، الآية 106.
  • [17] العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره، مقالات تأسيسية، ص255-263.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى