مقالات

فلقة أم صعق بالكهرباء ؟

أدخلوني إلى المحقق مرّة أخرى، فقال لي: ماذا تقول في كلام زميلكم؟ قلت: غير صحيح، وأقسم أنه لا دخل لي في هذا الأمر، رفع يده وصفعني لتنهال عليّ بعدها فرقة العمليات ركلاً وضرباً مبرحاً، أحسست أن روحي ستفارق إلى بارئها، لولا أنهم توقفوا وتوجهوا بي إلى زنزانة الانفرادي، حيث أمروني بالوقوف على رجليّ، كنت منهك القوى، والآلام تداهم كل أعضاء جسمي، وبمجرد أن خرجوا من الزنزانة رميت بنفسي على الأرض، أحسست بشيء رطب بين رجليّ، نجحت في رفع الصماد عن عيني، شاهدت بقعة من الدم على سروالي، اعتقدت في البداية أنهم جرحوني في فخذي، إلا أنني اكتشفت أنّي كنت أتبوّل هذا الدم، قمت بمناداة الشرطي فجاء لي، رآني مستلقياً، هتف مستنكراً: لماذا تجلس؟ قلت لك قف على رجليك.. قلت له بأنني أتبوّل دم، فقال على هيئة المستغرب، وبلهجة دارجة: «صجّ؟» فأجبته: نعم.. كنت أعتقد من ملامح وجهه أنه خشي أن يصيبني مكروه، أخذ يصرخ: عمليات.. عمليات.. اعتقدتُ أنهم يحاولون تدارك أمري، ولكنهم عندما جاؤوا رفع رجليه لينهال على منطقة الخصيتين ركلاً وهو يقول لهم: يتبول دم.. يتبول دم.. فأحاطوا بي وأخذوا يشبعوني ركلاً مثل حشرة لا قيمة لها، ولا بد لهم أن يسحقوها، لا لغة للتحدث معها سوى لغة الأحذية والصفعات والضرب، هذا ما يقولونه فعلاً لكل إنسان يدخل ذلك المبنى المشؤوم: «لا إنسانية لك، لا حقوق لك، لا تستحق شيئاً».

في اليوم التالي، أخذوني إلى الباحة الخارجيّة للمبنى، نظرت من أسفل صمادي ، والذي صار صديقاً عزيزاً، فوجدت أنّ الليل خيّم على الأشياء، ألقوني على الأرض لفترة، كانت أصوات البرقيات تتداخل مع بعضها ولا تفارق المكان، أخذت أتلصص فشاهدت دوريات كثيرة وأضواء زرقاء وحشد من القوات، كانوا يتداولون أخباراً حول ما يحدث بقرب دوار ألبا، صارت أذناي منشدتان لأحاديثهم لمعرفة ما يجري، عرفت مما يتداولونه أن مجموعة من «البلطجية» زحفوا لدوار ألبا من أجل مهاجمة منطقة العكر، وأنهم هاجموا برادات جواد الواقعة بمحطة الوقود.

بقيت مرميّاً على الأرض لمدّة، لا أعلم بالضبط لماذا أخرجوني، وكنت أتوقع أنهم سيرسلوني إلى جهاز أمن الدولة لممارسة التعذيب بشكلٍ أبشع وأشد.

بعد حوالي نصف ساعة، جاءني أحدهم وسألني ما هي صلة القرابة بيني وبين علي رضي، أجبته بأنّه ابن خالتي، فأمر قواته بأن يأخذوني لأدلّهم على منزل خالتي، فقلت في نفسي: «ذلك على جنازتي»، قلت له: «صحيح أنه ابن خالتي، لكنني لا أعرف أين يقع منزلهم»، استشاط غضباً فرفع رجله وركلني على وجهي، شعرت بالدوار، ومن ثم أخذ بقية العناصر يجروني إلى الداخل فيما كان يطلق ألفاظاً نابية وسباباً بذيئاً، أجلسوني على كرسي ووضعوا في إبطي عصا، لوهلة اعتقدت أنهم سيعذبوني بـ»الفلقة»، كنت منهك القوى ولم أذق طعم النوم منذ تلك الليلة التي حوصرت فيها قريتي، كان يردد: «لا تعرف منزلهم؟» وأنا أكرر الجواب ذاته: «لا أعرف شيئاً»، قاطعتني الكهرباء التي ألقتني خائراً، صارت نفسي تصارعني بالاعتراف بكل شيء، إلا أن نداءً داخلياً كان يقول لي: «اصمد قليلاً وتحمل هذه الأيام القليلة من أجل أن تخرج بريئاً»، تقاطعه أفكار أخرى: «هذه الأحكام تأتي من الأعلى ولا فائدة من الصمود وتوقع البراءة»، كانت هذه المشاعر المتناقضة تأتي وتذهب مع كل نوبة تسري فيها الكهرباء في جسدي، صرت أصرخ وأبكي: «سأموت.. سأموت..» أحسست أن عيني ستخلعان من مكانهما، وأن عظامي تضرب بعضها بعضاً، وبدا أنني أقرب إلى الموت، الذي يبدو أنه الأسهل من بين كل ما يجري!

جاء شخص يهرول لهذا الحاقد الذي بدا وكأنه صمم على قتلي، وأخذ يُهَدئه ويقول له «هذا عسكري»، في إشارة إليّ، وكأنه يقول له بعبارة أخرى: «لا نريد أن نتورط بدمه»، هذا ما استنتجته.

أرسلوني لزنزانة الانفرادي الباردة مرّةً أخرى، طاقتي نفدت ولم أعد أتحمل هذا البرد القارس، طلبت منهم نقلي إلى مكانٍ آخر، وألححت في ذلك، لم يستجب أحدٌ لي إلا عندما تبدّل الأشخاص وجاء أشخاص آخرون، حيث رآني أحد أفراد الشرطة من الباكستانيين أرتعد من البرد، سألني هل أريد شيئاً لآكله، قلت: «لا وإنما فقط أريد أن تقللوا البرودة»، فكّ قيودي ووضعها من الأمام ونقلني إلى غرفةٍ أخرى أقل برودةً من الأولى، قال لي إنّه بإمكاني الجلوس بدل الوقوف، غفوتُ قليلًا، وجاء لينقلني إلى الغرفة السابقة، بعد وقت قليل جاءت مجموعة لتواصل الضرب والركل والشتم.

لم يكونوا يسمحون لي بالصلاة، وكانوا يرفضون هذا الطلب بشكلٍ وكأنني لست مسلماً، لم أكن أعلم بدخول الأيام الجديدة إلا عندما يتبدل المحقق، ذلك أنني لا أرى الليل ولا النهار.

تمّ استدعائي مجدداً للجلاد فواز العمادي، حاول هذا الأخير استدراجي، فذكر لي معلوماتٍ كانت دقيقة حول مكان اجتماعاتنا، وبعض الأسماء التي تحضرها، ثم سألني: «ألم تكن يوم الجمعة في منزل فلان تقومون بإعداد الزجاجات الحارقة؟» لشدة دهشتي، شعرتُ وكأنّه ألقمني حجرًا. كم كانت معلوماته دقيقة! أجبته أنَّ هذا الأمر غير صحيح، وأنَّ هذه المعلومات كما يبدو انتزعت من أحد المعتقلين تحت الضغط لإلقاء المسؤولية علينا، عندها استشاط غضباً وأخذ يصرخ ويوجِّه إليَّ كلماتٍ بذيئة.

خرجت من غرفته إلى الزنزانة الانفرادية، لم تمض دقائق إلا ودخل رجال العمليات وأخذوني إلى غرفةٍ أخرى أصغر حجماً، أعطوني جزءًا من الأوراق التي كتبت فيها أقوالي، نظرت إليها بشكل سريع، فوجدت أن أكثرها كتب كما جاء على لساني في التحقيق، وقّعتُ الأوراق ومن ثم أخبرني أحدهم أننا سنذهب إلى النيابة العامة الآن، لوهلة تنفست الصعداء، وشعرت أنني تخلصت من عبء كان سيكون قاتلي.


  • الفصل الثاني والعشرون من كتاب وطن عكر

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى