مقالات

هل سأصمد ؟

عندما صعدت إلى السيارة، كان السائق يتحدث في البرقية: «يبناه.. يبناه، طويل العمر..»، سمعت صوت الرميحي وهو يردّ: «أي واحد فيهم؟»، يقول له المدني بطريقة أشعرتني بشيءٍ من الفخر، وشيءٍ من الخوف، وشيء من التوجسات: «عبد الله عبد الجليل.. طويل العمر»، يردّ مرّة أخرى: «جيبوه».

في الطريق نحو «التحقيقات»، صار السجن يختمر في عقلي، مثل اختبارٍ سأخوضه الآن ولم أجهز نفسي له، أعرف أنه مدرسة بمعنى الكلمة، لكنني لم أجرّبه في السابق، سمعت عنه الكثير، وكيف أنه امتحان صعب حتى على المجاهدين في سبيل الله، فمنهم من ثبتوا، ومنهم من انهاروا، ومنهم من حادوا عن الصواب، صرت أسأل نفسي: «هل أنا مستعد لهذا الامتحان الصعب والخطر؟»

صارت المشاعر تجول هنا وهناك، تماماً مثل الدورية التي أركب معها وتجول بي في الشوارع باتجاه المبنى سيء الصيت، صوت البرقية لا يتوقف، لكنني لا أنتبه له الآن، فعقلي في مكان آخر.

قبل اعتقالي، كنت قد تحدثت كثيراً مع بعض الأصدقاء الذين تعرضوا للاعتقال سابقاً حول ظروف التحقيق وأساليب التعذيب التي مورست بحقهم، صرت أتذكر ما قالوه لي كمن يستعد لنفس التجربة: الكهرباء، الفلقة، التحرش الجنسي، وغيرها، لم يكن يشغل بالي إلا أمرٌ واحد: «هل سأصمد؟»

عندما وصلنا إلى البوابة الرئيسة لمبنى التحقيقات الجنائية، أصبح حديث النفس مع الرجاء الأعلى، مع الله سبحانه وتعالى، وكان دعائي واحدًا، أن أصبر الصبر الجميل.

أخذت نفساً عميقاً، جلت بنظري في السماء، كان شيئاً ملبداً فيها، رأيت أمنياتٍ كثيرة، ولوهلةٍ صارت نفسي تقول الآن: «هذه ضريبة الثورة التي لا بد من دفعها، ولا بد من التضحية، ولا بد من العذاب والآلام». كانت الخيارات أمامي واضحة بشكل وكأنّه كُشِفَ لي الغطاء: النصر أو الشهادة.

كانت رجلاي تخطوان نحو المصير المحتوم، لكنَّ رجاءاتي المعلّقة بأستار السماء، أشعرتني برحمةٍ غامرة، فلم تحدثني نفسي بخوف، أو بتراجع، أو أسف، إنما تذكرت عذابات رسول الله(ص)، وآلام أهل بيته (ع)، تذكرت عمار بن ياسر وأمه سميّة، تذكرت الإمام موسى الكاظم (ع) الذي سُجن لسنوات طويلة ونال الشهادة مسموماً.

بدا الطريق طويلاً، مباني مختلفة وممرات وأبواب ومكاتب متعددة. قبل دخولنا، سعى المرتزقة للإيقاع بيني وبين نفسي، بدأوا يلوموني على ما فعلته، ويقولون بأنني خسرت وظيفتي ومستقبلي، وأنّ الجميع يتمنّى هذه الوظيفة التي فرّطتُ بها، أمّا أنا فكنت أمشي وأستهزئ بهم في داخلي، تعلو شفتاي ابتسامة من رزق الله، ويقين بأنني أمشي في طريق النصر.


  • الفصل التاسع عشر من كتاب وطن عكر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى