ثقافة

العلم والدين والتنافي الموهوم

بسم الله الرحمن الرحيم {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ ثمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} – الملك – صدق الله العلي العظيم

ما هو العلم المعني هنا: 

المراد هو العلم التجريبي وقسم للعلوم الطبيعية كالفيزياء والعلوم الإنسانية كعلمي النفس والاجتماع. وعرف العلم بأنه العملية المنظمة التي تجمع المعلومات حول العالم وتكثِّفُها في صورة قوانين ومبادئ قابلة للاختبار.

والنظرية العلمية هي التي تفسر لنا الظواهر السابقة وتتنبأ بالظواهر المستقبلية وهي تحتمل الخطأ فقد نكتشف خطئها حينما تفشل في تفسير ظواهر مماثلة وقد اكتشف العلم خطأ نظريته في وجود الأثير لنقل الضوء وكذا تم ترميم نظرية نيوتن في الجاذبية والتي بقيت لأكثر من قرنين من الزمان إلى أن فشلت في التنبؤ بـكمية الحركة الاستباقية لمدار كوكب عطارد والتي نجحت نظرية أينشتاين للجاذبية في التنبؤ بها وحسابها بدقة شديدة.

دور العلم التجريبي: ⠀

يحكم الكون قانون السبب والمسبب ودور العلم التجريبي هو الكشف عن هذا القانون السببي عن طريق المشاهدة والاستنتاج العقلي. والعلم التجريبي محكوم بالتجربة والمشاهدات.

العقل أساس للعلم التجريبي: ⠀

فالعلم التجريبي يحتاج للعقل في نفي التناقض وإلى مقدمة عقلية أخرى لتعميم النتائج المكتشفة وهي قاعدة (حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد). وبها يتم التعدي من مورد التجربة لمثيلاتها.

هل ألغى العلم التجريبي غيره من طرق المعرفة؟

من يقول بإلغائه أشبه بمن يستخدم الترمومتر لمعرفة الوزن فالعلم التجريبي دائرته تختص بالأجسام والتجربة والمعارف أعم من ذلك لذا نحتاج في مصدر المعرفة إلى العقل والتجربة والإخبار الصادق كالوحي.

على أنه تقدم أن العلم التجريبي يحتاج للعقل في نفي التناقض وفي تعميم النتائج لمثيلات مورد التجربة.

ثم أن السبب في نفي ما عدا التجربة هو ما جرى بين الكنيسة والعلماء الطبيعيين فقد كانت تفرض عليهم تصورات خاطئة في الكون فلما توصلوا لنتائج معارضة غلوا في العلم التجريبي وجعلوه وحيداً.

ولذا صار عندهم ما يسمى بالمنهج المادي وهذا المنهج لا يمكنه إلا اكتشاف الموجود أما لم صار هكذا وأين يسير فهو لا يجيب عليه ولهذا ريتشارد دوكنز في أحد لقاءاته لما سئل من قبل مناقشه لِمَ نحن موجودون؟ قال: السؤال بـ (لِـمَ) ليس سؤالا يستحق أن يجاب عليه. لِـمَ؟ سؤال سخيف، السؤال عن (ما غاية الكون) سؤال سخيف.

لا معنى له ! وهذا من باب إنكار الإنسان لما لا يعرفه، وهو من علامة الجهل.

ٰالعلم التجريبي ليس بديلاً عن الدين:

تصور البعض أنه بعد نظريات غاليلو في الكونيات ونظرية دارون في نشوء الإنسان والأنواع ونظرية فرويد في الإرادة والاختيار لا يبقى مجال للدين والصحيح أن لا شيء من ذلك يلغي الدين .

فحتى لو تم شيء من تلك النظريات لا تنافي الحقائق الدينية وهذا ما يحتاج لبيان:
هناك حقيقة دينية وهناك حقيقة علمية.

وهناك نظرية دينية مستظهرة من النصوص وهناك نظرية علمية والنظرية في العلم والدين ليست قطعية.

أين تكمن المشكلة بين الدين والعلم؟

تكمن إذا تعارضت حقيقة دينية مع حقيقة علمية وهذا ما لم يحصل أبداً.

وأما الاختلاف بين حقيقة دينية ونظرية علمية فنقدم الدين لأن الحقيقة قطعية وكذا لو تعارضت حقيقة علمية مع نظرية دينية حينها سنقدم العلم لأن النظرية الدينية ليست قطعية فهي نتاج اجتهاد مجتهد في فهم النص.

وأما لو تعارضت نظرية دينية ونظرية علمية فنحتمل إما خطأ النظرية العلمية أو خطأ النظرية الدينية لأنها اجتهاد المجتهد وقد يكتشف خطأ فهمه للنص الديني. كما قد يكتشف العالم التجريبي خطأ نتيجته في تجارب مستقبلية.

ونظرية التطور هي نظرية علمية، وخلقة آدم لا عن نوع سابق هي نظرية دينية كما يقول بعض كبار المفسرين والعلماء ومنهم الشهيد مطهري في كتابه الدوافع نحو المادية.

إذن لا يوجد ما يوجب التعارض المضر بمصداقية أحدهما أي العلم والدين.

والعديد من العلماء الذين أثارت نظرياتهم بلبلة تجاه الدين هم مؤمنون بوجود خالق فديكارت كان مؤمنا بالله، ولكنه سعى في الوقت نفسه الى بيان العالم على نحو آلي.

وكان غاليليو كاثوليكيا مؤمنا، ولم يكن يرى أي تعارض بين آرائه العلمية وعقائده الدينية، فكان يقول ان الله هو كاتب كتاب التكوين وهو مؤلف كتاب التشريع، وان منبعي المعرفة هذين لا يمكن ان يتعارضا.

اما الانجيل فانه يتحدث عن المعارف المعنوية اللازمة لسعادة الانسان، لا عن الحقائق العلمية.

كما أن نيوتن نفسه يقول ان هذه الماكنة من صنع الله، وكان يعتقد ان لله في هذا العالم الآلي دورا دائميا، لأنه لم يكن يري ان دور الله يقتصر على الخلق البدائي، بل قال ان لله دورا مستمرا في ايجاد التوازن في المنظومة الشمسية، كما انه كرر ذكر الله في مواضع اخرى ايضا. كما أن دارون كان مؤمنا بوجود الخالق.

هل يجيب العلم التجريبي عن العلة الغائية؟

لا يمكنه ذلك فهو خارج عن دائرة التجربة فالعلم قادر على أن يحلل مِمَ صنعت الكعكة وأما لماذا صنعت فلا.

ولذلك كانَ جَواب بَابا الفاتكان (جَان بُول الثـَّـاني) واضحًا حينمَا استقبل العالم الفيزيَائِي الشـَّهير (ستيفن هوكنز) فقالَ لهُ: إذا كانَ مَا بَعد الانفجَار العَظيم لك فإنّ مَا يَسبق الانفجار العَظِيم سيظلُّ لنـَا، وتعد هَذِه المُحَاورة الفلسفية القصِيرَة نقطة هَامَّة فِي الخِلاف بَين الدين والعلم ومُنعطفـًا يَجعلُ مِنهُمَا شِقـَّين منسجمين لا متنافرين.

ولأنشتاين كلمة معروفة: الدين من دون العلم أعمى، والعلم من دون الدين أعرج.

وحسبنا أن نشير إلى أن كلمة “علم” بتصريفاتها المختلفة قد وردت في القرآن في أكثر من سبعمائة وخمسين آية.

لذا نجد أن تاريخ المسلمين ازدهر بعلماء دين مع كونهم من علماء العلوم الطبيعية.

وقد ظلت آثار هؤلاء العلماء المسلمين هي الآثار العلمية المعتمدة خلال العصر الوسيط كله، ومن آثار هؤلاء العلماء: (ابن النفيس) مكتشف الدورة الدموية الصغرى، و(جابر بن حيان) مكتشف الصودا الكاوية، وحامض الكبريتيك بعد تقطيره، و(الرازي) مكتشف زيت الزاج، وعدة أمراض، و(ابن الهيثم) مكتشف علم البصريات، و(الفرغاني) واضع علم المثلثات، و(الكندي) مؤلف في البصريات، و(الإدريسي) مثبت كروية الأرض، فضلاً عن (ابن حزم) الذي عقد فصلاً كاملاً عن إثبات كروية الأرض، نقلاً وعقلاً في كتابه المرسوم باسم (الفصل في الملل والنحل)، و(جابر بن حيان) أبو الكيمياء، و(ابن البيطار) في الصيدلية، و(ابن الحفيد) في العدوى، وغيرهم.


ملخص الليلة الثامنة من شهر رمضان المبارك ١٤٤١ هـ | سماحة الشيخ هاني البناء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى