مقالات

احذر يا صديقي.. إنها مكيدة

بعد استشهاد الشهيد فاضل المتروك، ثاني شهداء ثورة الرابع عشر من فبراير، دخل أحد أقاربه من العساكر بعد خمسة أيام من استشهاده إلى موقع العمل وقدّم أوراق وفاة الشهيد وأوراق إجازة مرضيّة لموظّفة هناك، قائلاً لها بحرقة قلب: أمّا يوم غد فأنا مُضربٌ عن العمل، وإذا كان لديكم شيء اذهبوا لشباب 14 فبراير أو الجمعيّات السياسيّة وبعدها تعالوا وتحاوروا معي!

بدا الجميع مصدوماً مما يقول، ينظرُ بصمتٍ لذلك الموقف المجنون، وعمّا سيؤول إليه. كان الشاب يهمّ بالخروج لولا أنّه التفت نحو صور حكّام البحرين، موجّهاً يده نحوهم وكأنّه يحاكمهم: «انظروا لهؤلاء الأصنام الثلاثة، سيسقطون وسنودعهم السجن».

كانت هذه الكلمات الأخيرة كالصاعقة، جعل الموظفة العسكريّة تسارع في كتابة تقرير حول ما جرى، طلب الضابط المناوب على إثره شهوداً، ولأنّي كنت أحد الحاضرين طلبت منّي الموظفة أن أكون شاهداً فرفضتُ ذلك، مبرّراً ذلك بأنّي لم أسمع ما حدث، وهو ما أغضبها وصارت تُردّد: ولا تكتموا الشهادة، فيما صرتُ أردّد معها ببرود أعصاب: لم أسمع شيئاً.

هكذا يريدون لنا أن نُسلّم الوطن لهم لقمةً سائغة، تماماً كما يخونونه ليل نهار، تارة باستجلاب المرتزقة وتجنيسهم، وتارةً بتقديمه للأجنبي والمستكبر والمحتل ليعيث فيه فساداً. في هذا الوضع، لم يكن خروجنا إلى ميدان اللؤلؤة خاطئاً ولا للحظةٍ واحدة، فالوطن كان بحاجة لحالة إنعاش.

في ميدان اللؤلؤة، التقيت بذلك الشاب وتحديداً في مضيف ميدان الشهداء، كان يخبز «الجباتي» للمعتصمين، تبادلت معه أطراف الحديث، ورويت له ما حدث بعد خروجه من المركز في ذلك اليوم،. لاحقًا، تطوّرت الأحداث إلى أن دخل درع الجزيرة إلى البلاد فهرب الشاب إلى دبي، وبعد أن تم إلغاء العصيان المدني عدنا إلى أعمالنا، فتلقيت اتصالاً منه يبدي فيه رغبته في العودة إلى البلاد وتقديم استقالته، سألته باستغراب: «هل تعلم بما يحصل في البلد؟» بدا صمته وراء سماعة الهاتف طويلًا، قلت له إنّ درع الجزيرة والجيش هدموا المساجد واعتقلوا الرموز ولم يُبقوا حرمةً لأحد، انتظر قليلاً، أنا مثلك أريد تقديم استقالتي ولكن في حال قدمتها في هذه الظروف فمصيري السجن، ردّ عليّ بأنه سينظر في الموضوع.

عندها، كان قد اتصل بوكيل القوّة في مركز الشرطة وأخبره برغبته في تقديم استقالته، قال له تعال إلى هنا وقدّمها واذهب لمنزلك، هذا ما قاله لي في الاتصال الثاني، قلت له بأنّ في الأمر حيلة من أجل القبض عليه، وشدّدتُ عليه بعدم العودة وبأنّ الوضع ليس آمناً، طلب مني أن أستكشف الأمر، فاستفسرتُ عنه في المركز وعن مصيره في حال قدم استقالته، وقد أخبروني ما أخبروه إيّاه تماماً. حينها اتصلت به مرّة أخرى وأطلعته على نتائج استطلاعي حول الأمر ونصحته بعدم العودة، فقال لي بأنه سيعود وليحدث ما يحدث!

في اليوم التالي، وبينما كنت أهم للانصراف من مكتبي، أقلّب هموم الوطن في خاطري الهائم، والتعب ينخر قلبي، وإذا بي أراه يدخل المركز وكأن شيئاً لم يكن، توجهت إليه مسرعاً: لماذا أتيت؟ فقال لي كما في المرة الأولى: فليحدث ما يحدث!

توجّه إلى وكيل القوة الذي وعده بالأمان، فاستمهله إلى أن يخبر الضابط بتواجده هناك، التقيتُ به بعد خروجه من عند الضابط وسألته ماذا سيحصل، قال لي إن الضابط أمر باعتقاله، ذهبت مسرعاً إلى صديقي وأخبرته بالأمر، وأخذت آمره بأن يهرب بسرعة من البوابة الآن، إلا أنه رفض!

تمّ القبض عليه، أدخلوه أوّلاً على الضابط المناوب، ومن ثم طلبوا منّي إيصاله إلى مركزٍ آخر لعدم وجود من يوصله، رفضتُ في البداية، حيث كنتُ قد قطعت عهداً مع نفسي أنّه في حال وصل الأمر إلى وقوع الظلم على أيّ أحدٍ فإنّي سأخالف الأوامر حتّى لو تسبب ذلك في اعتقالي، إلّا أنّ فكرةً لمعت في رأسي، وهي أن أستغل هذه المهمة من أجل تهريبه.

قلت له، في السيارة، إنّي سأوصله إلى منطقته، وطلبتُ منه أن يغادر البلاد بسرعة، ردّ عليَّ ضاحكاً بأنّه لا يريد توريطي في الأمر، أصرّيتُ عليه ولكنّه رفض رفضاً قاطعاً وطلب مني إيصاله إلى حيث طلبوا منّي. كنتُ قد هيأتُ نفسي للهروب أنا أيضاً؛ فالأوضاع لم تكن تُحتمل.

أوصلته إلى إدارة الأشغال حيث طلبوا مني، سلّمني أغراضه الشخصيّة لأوصلها إلى منزل أهله، أشرتُ له في آخر اللحظات إلى أنّ فرصته في الهرب لا تزال سانحة. ابتسم باطمئنان، كمن يعرف أنّ التضحية لا بد منها لإنقاذ الوطن، كان يواجههم بموقفه الصلب، يُسلّم نفسه لهم ليقول «إنّي لست خائفاً، وإن الوظيفة تحت قدمي، وإنّ السجن أحبُّ إليّ مما تدعونني إليه».


  • الفصل الحادي عشر من كتاب وطن عكر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى