مقالات

سعف النخيل توقف

انقشع العام 1995 عن استشهاد عبد القادر الفتلاوي وهاني الوسطي وهاني خميس، واعتقال أصحاب المبادرة والمئات من الشباب، وبعد أن كاد يلتئم بمبادرة سياسيّة للرموز المعتقلين، ازداد تدهوره مرّة أخرى في العام 1996.

جرت الأيام الدراسيّة كما لو كانت شيئاً ثقيلاً، العلم لعبة الطفل الذي لا بدّ أن يندهش، لهذا صُمِّمَت الكتب المدرسية، لإدهاش الأطفال بأشياء لم يعرفوها بعد، لكنّ هذا لم يكن ليجري بشكله الطبيعي في اللحظة التسعينيّة الخانقة.

في الفصل الدراسي الوادع، كان مدرّس اللغة العربية عبد الله ربيع ينهمك في شرح درس الضمّة والفتحة والكسرة، محمد الجالس على الجهة اليمنى من الصف يتثاءب بشكلٍ بارد، رائد يعبث بقلمه الرصاص في بياض ورقة على طاولته، بينما يتهامس طالبان في الخلف بأحاديث تبدو شيّقة، هكذا يبدو الفصل رتيباً لولا رائحة اقتحمت المكان من النوافذ لتبدّد التفاصيل الجميلة.

اجتاحت الفوضى فصلنا الدراسي، الأستاذ يغطّي أنفه بغترته البيضاء المصفرة بينما يغلق النوافذ، يتعالى بكاء بعض التلاميذ، أصوات البكاء تتقاطع مع أصوات سعال شديد، الجميع لا يرى بشكلٍ واضح بعد أن أصابتهم الرائحة بحرقة في عيونهم، ودموعٌ بدأت تنهمر، وصعوبة في التنفس!

خرج الأستاذ ليستطلع الأمر، أوصانا أن لا نتحرك من الفصل، وعاد بعد أن عرف أنّ قوات النظام أغرقت المدرسة بعبوات الغاز المسيّل للدموع.

وعندما هدأت الأمور بعض الشيء، أخرجونا في وقتٍ مبكّر من ذلك اليوم لنعود إلى منازلنا، كأنَّ شيئاً ما قد حصل، هذا ما قالته ملامح مدرّسٍ كان يقفُ بالقرب من البوابة التي يخرج منها الطلاب، كانت دموعه لا تتوقّف، صوته المبحوح وهو يوجّه الأطفال للعودة إلى منازلهم بسرعة يفسِّرُ الحرقة التي تختلج صدره، كأنّهُ أبٌ فُجِعَ بفقد أحد أبنائه.

في الطريق، كانت فرحةُ العودة مبكّراً من المدرسة يكتُمُها شيءٌ كئيب حلّ في الأشياء، لا تبدو خيوطُ الشمس في وهجها الاعتيادي، كان سعف النخيل قد توقف عن مرحه مع رياح الشمال العليلة، وبدى النهار وكأنّه أراد أن يهرب، ومن أعلى نخلةٍ احدودب جذعها لوجعِ الوطن، كانت الحمامة التي تُطرِبُ الحيّ تتوارى في حدادها في عشّها الباهت، أمّا الأرض اليابسة التي ضاقت عطشاً فقد بدت رطيبةً بعد أن أخذ منها الجدبُ مأخذه، كانت طوال الوقت تنتظر، حتى جاء فارسها «عيسى قمبر».


  • الفصل الثالث من كتاب وطن عكر

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى