مقالات

لا يخلو جدارٌ من اسمه!

مندهشًا بما حولي، كنت في العام 1996 ألملم حقيبتي المدرسيّة مستعدّاً للالتحاق بصفّي في السنة الدراسيّة الأولى، لا زلت أتذكّر ملامح وجه أمي وهي تُعدُّ الإفطار وتُعلِّب لي وصاياها في أكياسٍ شفّافة مثل قلبها الأبيض، لا زال ذلك اليوم الأول من حياتي الدراسيّة يذهب في عقلي ويأتي مثل ومضةٍ حمراء بعيدة، تنطفىء وتخبو، لكنّها عندما تبرق فإنّها تُثيرُ الدهشة.

كنتُ أهرول إلى خارج منزل جدّي العتيد بينما تحفّني وصايا أمي ودخان بخّورها بهالةٍ تُسنّدني أمام العالم، كشخصٍ واثقٍ من نفسه أمام الآخرين أنّ لديه أم، لن تنساه من الدعاء والأحراز والأمنيات.

في الخارج ليس كما الداخل، أو هكذا تكون فطرة الطفل عندما يخطو خارج أعتاب منزله، تبدو الأشياء مدهشة وكبيرة، تقلُّ دهشتنا أمامها، ويتضاءل حجمها كلّما كبرنا، وتذبلُ في الذاكرة، لكنّها لا تغيب أبداً، هكذا أتذكّر جدار منزل جارنا المُعدم المملوء بالنتوءات والشقوق، أعلى السور الرفيع كُتِبَت عبارة «البرلمان هو الحلّ» بخطٍّ متعرّج، تحتها بقليلٍ، كُتِبَ بلونٍ أسود «الجمريُّ عمري». وعندما سألتُ عمّي عنها، قال إنّ الجمري هو قائد الشعب وإنّه لا يعرف من هو البرلمان.

حينها، ظلَّ البرلمان سؤالاً يراودني، من هو؟ ولماذا لا يخلو جدارٌ في حيّنا من اسمه؟ وعندما لم أحصل على الإجابة بقيتُ كل يومٍ أتهجّأ حروف البرلمان بين أزقّةِ قريتنا «العكر»، تلك التي كانت عَكِرَةً على الظالمين، مثل شيءٍ لا يُمكن أن يطيب لهم.

وبينما كنتُ أتعثّرُ بأحلامي كلّ يوم، ذهاباً إلى المدرسة وإياباً منها، كانت الأجواء السياسيّة ملبّدة بغيوم الدماء الزاكيات، عيسى قمبر لم يُعدم بعد، لكنَ كلَّ شيءٍ يشي بأنَّ دماءه ستطهِّر الأرض، مثل شيءٍ لا بدّ منه، كما هو القطاف الذي يحين حينه.

لم أكن أعرف عيسى قمبر، لكنَّ صوره المطبوعة على جدران حيّنا لا زالت في ذاكرتي، الفرق الوحيد أنّها أُزيلت من على الجدران الآن، لكنّها لم تُمحَ من قلب الطفل الحائر، ذلك الذي بقي في «تنّور» التسعينيات حتى نضج!

كانت الضحكات تتعالى عندما دخلت إلى منزل جدّي المتهالك، أخطو على تراب فنائه بهدوءٍ كمن يعرف أنّه تحفة، اجتماع الأهل لم يمنعني من السؤال عمّن يكون البرلمان هذا، لكنّ أحداً لم يتعاطَ معي بجديّة، فكلّهم كما يبدو يعتبرون صغر سنّي لا يتناسب مع هذا السؤال الآن، عمتي، صاحبة المشمر الأصفر ذي الخطوط السوداء، الذي يبدو كجلد نمر، تدخل الفناء بإناء الشاي، أصوات «استكانات» الشاي أثناء مشيها تصدر صوتها المعروف وتختلط مع أصوات الأحاديث الممتعة، كل هذا المشهد لا يشدّني في شيء، فإصرار الطفل في داخلي لا يبارح مكانه، من هو البرلمان؟

عمة فضيلة، من هو البرلمان؟ تضحك عمتي فضيلة فتظهر غمازتيها على خدّيها الأجردَين بينما تجلسني إلى الأرض، تقرّبني عمتي من جانبها الأيمن وتقبلني، تبدو من خلال مداعبتها لي أنّها لا تريد الرد على سؤالي، لكنّها بعد ذلك تقول: هو مكان يجتمع فيه من ينتخبهم الناس ويقرّرون فيه مصير الناس، لم أفهم ما قالت، وشعرت أنّه لا فائدة من تكرار سؤالي.


  • الفصل الأول من كتاب وطن عكر

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى