ثقافة

التعبئة ورجال الله

صفات أبناء التعبئة

مع أخذنا بعين الاعتبار الأدوار الخطيرة والتكاليف الصعبة التي تواجهها الأمّة، فإنّ السؤال يحضر عن العناصر الكفيلة بإعداد أفراد على مستوى القضية، أي إعداد رجال الله والتعبويين الذين يحقِّقون إرادة الله تعالى في إزالة الموانع عن طريق الهداية، والذين هم في الحقيقة يقومون بدور الأنبياء والأئمة عليهم السلام. لذلك أليس من الواجب وجود مستوى من الأخلاق والسلوك والعلم والمعرفة يليق بهذا المستوى من الدور؟

إنّ الذي آمن بالإسلام قلباً وقالباً، عقيدةً وأحكاماً، بشكلٍ صادق ويقينيّ سوف يكون جاهزاً وحاضراً ـ وبكامل قوّته ـ لأداء التّكليف في طريق الإسلام الأصيل وهذه هي ميزة التعبوي المجاهد، وأفضل تعبيرٍ ورد في القرآن الكريم يمكن أن يُرادف لفظ التعبويين هي كلمة ﴿رِبِّيُّونَ﴾، يقول الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾1.

ومعنى هذه الآية، أنّه في الوقت الذي أمر به الله تعالى الأنبياء بالجهاد، برز رجال لله شديدو الإخلاص، واستجابوا لنداء الجهاد وقاتلوا في ركاب الأنبياء ضد الكفار والمشركين.

فما هي صفات هؤلاء الربّانيين المجاهدين في القرآن الكريم؟ لنتعرَّف من خلالها على الصفات المطلوبة في التعبويين ليكونوا في صفوف المجاهدين الربيين في وقت الحاجة.

الاستقامة والصمود

لقد أثبت القرآن الكريم لهؤلاء المجاهدين في ركاب الأنبياء ميزة خاصة، وهذه الميزة تصدق بشكل دقيق على التعبوي اليوم، لأنَّه يواجه نفس الظروف والمصاعب، وإن اختلفت المظاهر والأشكال. فالله تعالى يقول في وصف هؤلاء المجاهدين: ﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾2.

ومعنى الآية، أنّه في ميدان الحرب يواجه المجاهدون القتل والجرح والكثير من الصعوبات والظروف القاسية، ويمكن أن تُتحمل الحوادث المريرة والعذابات والمشقات والمصائب إلى حدود معينة ولمدة قصيرة، فكلُّ إنسان محدود بطاقة تحمُّل وسعة صبر معينة.

لكن عندما تطول الحرب: تضعف الإرادات بالتدريج ويصبح تحمّل المشكلات أمراً غير ممكن، ومع طول مدة المعارك يشيع الفقر والخراب والمرض والتشرّد وغياب الآباء عن العائلات، وهذا ما يُنتج ضغوطاً نفسيةً وآثاراً سلبية.

ومن جهةٍ أخرى، قد تضعف قدرةُ المجاهدين شيئاً فشيئاً، ويبدأ إحساسهم بفقدان القدرة على إدامة الحرب والصمود مقابل الأعداء، وبالنتيجة إذا استمرّت تلك الحالة من التداعي في أنفسهم فسوف نراهم – لا سمح الله – يخضعون للأعداء ويتهيّأون للاستسلام النهائي.

لكنَّ القرآن الكريم يصفُ أولئك المجاهدين في ركاب الأنبياء وضدَّ أعداء الله بأنهم أقوياء، ومدحهم بقوله تعالى: ﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُو﴾3.

فمع طول مدة الحرب وقسوتها والمصائب النازلة والعذابات المختلفة لا ترى أثراً أو علامة للضعف أو الوهن أو الاستسلام عندهم، لذا بشّر القرآن هؤلاء الصابرين والمُتحمّلين للمشكلات والمصائب ووعدهم بأعلى منزلة يمكن تصوّرها، ألا وهي: الحبّ الإلهي لهم. قال تعالى: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾4.

هذا الحبّ هو ثواب إلهي أعطي للتعبويين المجاهدين الذين صبروا في الجبهات، ويُعطى لكل من يثبت في طريق الحقّ، وفي الحقيقة لا يمكن تصوّر أيّ ثواب أعلى من الحب الإلهي، لأنَّ الذي يصبح محبوباً لله تعالى سوف يكون مورداً للنِّعَمِ الكُبرى ومحلاً للفيوضات الإلهيَّة.

التعطّش للمغفرة الإلهية

يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَ﴾5.

تريد الآية الشريفة أن تشير إلى مسألة قد يظنّها البعض تناقضاً في شخصية المجاهدين، وهي أنّ لسان حال أتباع وأنصار الأنبياء عليهم السلام في مقابل المصائب والعذابات هو طلب الغفران لذنوبهم ولإسرافهم، لكن لماذا؟

لأنّ الذين كانوا في ركاب الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا أناساً معصومين، بل كانت لديهم هفوات وزلات، وأخطاء وسكرات، هؤلاء يطلبون من الله تعالى أن يغفر لهم زلاتهم ويُوفقهم ليقدموا كامل وجودهم في طريق نصرة الأهداف الإلهية، وبالمقابل فإنّ الله تعالى يتجاوز – نتيجة صبرهم وتحملهم – عن إفراطهم وتفريطهم وما سلف من ذنوبهم.

طلب النصر والثبات

إنّ المجاهدين يواصلون السير في طريق الهداية بالرغم من كل النقائص والهفوات، والأمواج الشديدة والفتن التي تعترض طريقهم. لكن أشد ما يُقلقهم في هذا المسير وبشكل دائم هي (الحيل الشيطانية)، إذ أنهم يخافون الوقوع في خُدع الشَّيطان فيلينون للباطل، وتضعف إرادتهم عن نُصرة الحقّ وبالتّالي هم دائماً في خطر الانحراف عن مسير الهداية.

وبعد مرحلة طلب المغفرة من الله تعالى، ينتقل المجاهد إلى استنزال النصر من عند الله، عبر الدعاء والتوسّل إليه، يقول الله تعالى: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾6.

فبالتثبيت الإلهي والتسديد الربّاني يستطيع المجاهدون إكمال المسيرة للوصول إلى الهدف المنشود والانتصار على الكفر والكافرين، لأنّه بحسب تربيتهم لا ملجأ لهم إلا إلى الله فهو القوّة العظمى والمطلقة، وهو كهفهم الحصين، وملاذهم الآمن وغياثهم عند الضرورة.

الحب المتبادل

إذا تتبّعنا الصّفات التي وردت في القرآن لأنصار الأنبياء عليهم السلام ومن زمن بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليوم، فإننا سنجد التعبويين المجاهدين مصداقاً جميلاً لهذه الصفات في زماننا.

نعم، لقد كانت في صدر الإسلام ثلَّةٌ أو مجموعة من أفضل الأصحاب والأنصار حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كانت مُجاهدة، مُضحّية، يملؤها الإخلاص والحبّ وقد حاربت حتى النهاية. أو كأنصار سيد الشهداء الذين حاربوا وثبتوا حتى النهاية واستشهدوا. لكن الآية الشريفة تقول: ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ يعني مجاهدون كثر، وبناءً عليه يمكن القول: إنه لا مصداق لهذه الآية في عصرنا أبرز وأوضح من هؤلاء التعبويين، لأنّنا شاهدنا هؤلاء الشهداء بأعداد كثيرة وبمئات الآلاف قد قدّموا أنفسهم وأرواحهم قرابين لله تعالى خلال الحرب الدّامية على إيران أو في لبنان على مرّ سنين الاحتلال والمقاومة.

فعلى هذا النحو يوجد آيات عديدة في القرآن، وقد وردتْ في تفسيرها روايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام مفادها أنها نزلت في شأن مجموعة من شيعة الإمام علي عليه السلام سوف تظهر في آخر الزمان.

ومن جملة الآيات التي يمكن تطبيقها على مصداق ﴿رِبِّيُّونَ﴾ في المجتمع الإسلامي، إضافة إلى أنّ شأن النُّزول يؤيّد هذا المطلب، هي الآية التالية حيث يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾7.

فإنّ لَحْنَ هذه الآية يفيدُ أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من حوله كانوا يعانون من وجود أفرادٍ ضعيفي الإيمان ومُزلزلي العقيدة، يغيّرون عقيدتهم ومواقفهم بين لحظة وأخرى.

والجدير بالذكر أنَّ عدَّةً من هؤلاء المسلمين كانوا يشاركون في صلاة الجماعة، ويصومون ويقومون بأعمال عبادية أخرى، لكنهم فيما بعد تراجعوا عن دينهم وتخلوا عن عقيدتهم، عندئذٍ أنزل الله هذه الآية لتعطي البشارة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقول له: لا تقلق ولا تحزن، وتخاطب المؤمنين الذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مُحذّرة لهم: لا تتوهّموا أنّ دين الله لن يقوم إلا بكم! وبدونكم سوف يُمحى هذا الدين! فحتَّى لو تخلى عدَّةٌ من النَّاس عن نُصرة دين الله، فلن يمض ِالوقت حتّى يأتي الله بقوم يُحبهم ويُحبونه، يعشقونه ويعشقون الشهادة في سبيله، هذا العشق وهذا الحبّ قد استقر من كلا الطرفين: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾، لا يَلجُون ساحات الجهاد أداءً للتكليف فقط بل لأنّهم أهل الحب الإلهي أيضاً، وهذه هي نيّتهم وغايتهم الأسمى.

وهذه في الحقيقة بشارة عظيمة، تقوى بها العزائم والإرادات، وتجعل أصحاب الإيمان الضعيف يندفعون إلى ساحات العمل والحركة في سبيل الله لعلّهم يحظون بالحبّ الإلهي.

التواضع للمؤمنين والشدة على الكافرين

ومن العلامات المهمّة والصفات المميّزة للذين يُحبّهم الله ويحبونه: أنّهم أهل تواضع للمؤمنين، لا يعاندون أو يتكبّرون عليهم. غير أنهم في مقابل الأعداء والكفار والذين يعاندون الحقّ هم أهل شدّة وبأس، فلا ترى فيهم أيَّ خضوع أو استكانة، ولا تلمس في طرفهم أيّ لين وعطف، فهم كما وصفهم القرآن الكريم: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾8.

وقد أعطى القرآن الكريم للذين يأتون في آخر الزمان، أربع ميزات:

أ- ميزتان باطنيتان: لا يمكن لأحد تشخيصهما ومعرفتهما سوى الله تعالى.
الأولى: أنّهم يحبّون الله فهم (عشَّاق الله).
الثانية: أنَّ الله عزَّ وجلَّ يُحبُّهم.
وهاتان الميزتان سرّيتان، باطنيتان، خاصّتان فيما بين هؤلاء العشاق وبين ربهم.

ب- ميزتان ظاهريتان:
الأولى: التواضع واللين مع المؤمنين من ناحية.
الثانية: والشدة والبأس على الكافرين من ناحية أخرى.

فهذه المواصفات الهامة جداً، والدقيقة، والجميلة، هي مواصفات من الواجب على التعبوي الجهادي أن يتصف بها، والحقيقة أنّ كثيراً من المجاهدين يتحلّون بهذه الصّفات.

الاتكال على القدرة الإلهية

في نظر التعبويين الجهاديين تعد أقوى القدرات وأعتاها في الدنيا ضعيفة، لأنّهم في الحقيقة لا يعبأون ولا يبالون بأي قدرة على وجه الأرض، لاتكالهم على القوة العظمى الإلهية. وعلى سبيل المثال: بعد اقتحام وكر التجسّس الأميركي في طهران، شاع آنذاك في المجتمع أنَّ أميركا تريد إرسال أسطولها الحربيّ إلى الخليج الفارسيّ، وتشنُّ حملةً عسكرّيةً على إيران، لكنّ الإمام الخميني قدس سره تحدّث وبكل اقتدار وواجه أميركا قائلاً: بأن تلك القوى لا قدرة لها على فعل أيّ شيء!.

ففي الوقت الذي تموضعت فيه كلّ القوى المستكبرة، ضدّ الثّورة الإيرانيّة المباركة ولم يكن هناك بعد أيّ تشكيلات عسكريّة نظامية في إيران سواء على مستوى الجيش أو الحرس أو التعبئة، لكن على الرغم من كل تلك الظروف، قال الإمام الخميني قدس سره وبكل قوة: أميركا لا تستطيع أن ترتكب أية حماقة. لماذا؟

لأنّ المؤمنين لا يخضعون لأية قدرة شيطانية، ولأنّهم متّكلون على القدرة الإلهية اللامحدودة. هؤلاء المؤمنون هم أهل إيمان صادق ويقين جازم بقدرة الله المطلقة، ويعلمون أنّ الله سبحانه وتعالى والنبي والإمام الحسين وصاحب الزمان صلوات الله عليهم أجمعين لن يتخلوا عنهم، وسوف يكونون دائماً إلى جانبهم في أوقات الشدة، ولأنهم عليهم السلام هم خير ناصر ومُعين لتلك الثلة المجاهدة والمؤمنة.

مثل هؤلاء المجاهدين، ماذا يطلبون من الله؟ غاية طلبهم منه تعالى هو إلهامهم الثبات والنصر: ﴿…وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾9.

1- ما هو شرط استدامة النصر والعناية الإلهية؟
إنّ النّصر الإلهي إنّما يأتي لمن هم يتّكلون على القدرة الإلهية وحدها، ولا يرون ناصراً غير الله عزّ وجل، لكن لو استبدلنا توكُّلنا على القدرة الإلهية بتوكّلنا على كثرة النَّاس، والتكنولوجيا المتطوِّرة، والمساعدات الخارجية وغير ذلك، فإنّ المدد الإلهيّ سوف يقلّ أو ينتفي، لأنَّ المدد الإلهي مرهونٌ بمدى ارتباطنا نحن مع الله عز وجل.

ففي هذا الكون سنّة ٌحاكمةٌ وهي: أنَّ كلّ من ينصر دين الله وأحكامه وقيَمَه، سوف ينصره الله ولن يخذله، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾10. كما أن الوعد الإلهي لا يمكن أن يتخلَّف أبداً: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾11.

لذا لا بدَّ من التنبيه هنا إلى أنَّ نصر الله تعالى في حال كان شاملاً لفردٍ أو مجموعةٍ ما، فإنّه لن يكون دائماً ومستمرّاً، ولن يكون هذا الفرد أو تلك المجموعةُ موردَ العنايّة الإلهيّة دائماً، لأنّ هناك شرطاً مهمّاً لاستدامة هذه العناية الإلهيّة وهذا النّصر، فما هو: هذا الشرط؟

إنّ هذا الشرط يتمحور حول حقيقة إقامة الناس لشعائر الله. فمتى ما كان الناس يُقيمون شعائر الله في المجتمع، ويُحيون ذكر الله في القلوب، فسوف يكونون دائماً مشمولين لرحمة الله ونصره وعنايته، أمّا لو اتكل النّاس على أنفسهم ولم يعبأوا ولم يلتفتوا إلى القدرة الإلهية المطلقة فعندها سوف يترك الله نصرة هؤلاء المغرورين بالكثرة والنّاس، ويكِلهُم إلى أنفسهم الضعيفة الفقيرة.

2- نموذج قرآني لتضييع النعم:
يتحدَّث القرآن عن تلك النِّعم التي أعطاها الله للعباد، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾12.

فبقدر محافظة النَّاس على لياقتهم المعنويّة والروحيّة لنيل تلك النِّعم والإمدادات الإلهيَّة، وعدم تبدّلهم عن الحقّ، ومعرفتهم بقدر تلك النّعم فإنّ الله يجزيهم بإبقائها ولا يسلبهم إياها.

إنّ القرآن ذكر لنا أنَّ الله أنعم على قومٍ، وبَدَلَ أن يشكروا نعمه قاموا بإضاعة الصلاة واتباع الشهوات، قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّ﴾13.

لقد كان هؤلاء في البداية أصحاب ارتباط قوي ومُحكم بالله تعالى، لكن شيئا فشيئاً ضعفت هذه الرابطة إلى أن وصلوا إلى الحد الذي أضاعوا فيه الصلاة واتبعوا الشهوات، وبذلك أضاعوا نعمة الهداية وضلوا الطريق.

ولو نظرنا إلى حال المؤمنين كيف هي اليوم؟ حيث بتنا نستبدل العبادات، وقيام الأسحار، وتهجّد وبكاء الليل، ونترك زيارة عاشوراء ودعاء كميل، نستبدل كلّ أشكال الارتباط بالله تعالى، بقضاء الليالي بمشاهدة الأفلام، والاستماع إلى أنواع الموسيقى الصاخبة والرائجة، واللهو، واللعب، والثرثرة والغيبة وغير ذلك من الأمور. ففي هذه الحالة يُصبح حضور القلب في الصلاة ضعيفاً وتجف الدموع أو تقل، ويصبح روح عباداتنا فارغاً، ولونها باهتاً، وبالتالي سوف يضعف ارتباطنا بالله تعالى!.

وإذا ضعف الارتباط بالله عز وجل، فإنَّ المجتمع سيضلّ طريقَهُ وستحُرَم الأمّة في المستقبل من الإمدادات الإلهيَّة، لأنّها لم تحافظ على شروط النّصر الإلهي، ولم تعد لائقةً ومؤهّلة لنزول مدد ربّاني أو استقبال نصر جديد.

ومن المهم هنا أن نعرف، أنّ معارف وقصص القرآن الكريم ليست مجرّد نقل تاريخي، فالقرآن كتابُ نورٍ وهدايةٍ نزل للنَّاس كافّةً، مخاطباً أهل كلِّ زمان، ومن هنا جاء التّحذير القرآني في هذه الآية: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّ﴾، ليقول إنّ أكثر ما يجب على الإنسان أنْ يقلقَ ويحذرَ منه وبشكل دائم، هو العاقبة! كيف ستكون هذه العاقبة؟ وهل سوف يبقى هذا الإنسان ثابتَ القدم إلى آخر الطريق؟ أم أنّه سوف يصبح رفيق نصف الطريق! على حد تعبير العالم العارف الشيخ بهجت قدس سره إذ يقول: إنّه كان هناك نماذجُ كثيرةٌ من أناس قاوموا لسنوات وسُجنوا وتعرّضوا للتّعذيب، وآخرون قاتلوا في الجبهات لكن انظر إلى عاقبتهم: بعد مدة رأيناهم قد اتخذوا طريقاً آخر وانحرفوا عن مسيرتهم الجهادية، لماذا؟ وما هي الظروف التي تجعل الإنسان المجاهد ينحرف؟

هذه الظروف ناتجة عن قطع الارتباط بالله تعالى وتخلّينا عن التوسّل بأوليائه الأطهار عليهم السلام، وبالتالي فإنّ شبهات الشيطان سوف تسلبنا ديننا وإيماننا، وسوف تجذبنا لارتكاب المحرّمات بل وإشاعة الفساد.

التمسّك بالولاية واتباعها

إنّ الناس متى ما كانوا مرتبطين ومتمسّكين بولاية الفقيه النائب عن إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف فإنّهم سوف يأمنون نزول أنواع كثيرةٍ من الابتلاءات والعقوبات.

فعلى سبيل المثال فلننظر إلى العراق مثلاً، فرغم أنَّه بلدٌ مسلمٌ، والشّيعة فيه كُثر.

فلو عدنا إلى الماضي قليلاً. في زمان المرحوم آية الله العظمى السيد محسن الحكيم قدس سره، وعندما بدأ حركته في العراق كانت ظروف حركته أفضل من ظروف قيام الإمام الخميني قدس سره في إيران، ففي البداية كانت كلُّ عشائر العراق مطيعةً للسيد الحكيم، لكن نتيجة لغلبة الشهوات وحبّ الدّنيا وصل الأمر إلى حدّ جعل السيد الحكيم يتوجّه بنفسه من النجف إلى بغداد لدعوة العشائر المُسلمة إلى القتال والمقاومة، لكنهم لم يستجيبوا لدعوته ولم يطيعوه، ولعل هذا التخاذل من الناس كان مورد انزعاج السيد الشديد وغصّته التي أثّرت فيما بعد على صحّته وأدّت إلى وفاته قدس سره.

والحاصل: إنَّ عدم طاعة هكذا أمرٍ من نائب إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف هو السبب في رزح العراق اليوم تحت هذا الوضع السيّء14!.

ومن هنا نعلم أنّ الولاية هي الحبل المتين بين الله تعالى والأمة، وإذا ما وفّى الناس بعهدهم الذي قطعوه مع الله تعالى والأولياء، فإنّ الله سوف يتجاوز عن هفواتهم وزلاتهم وينجيهم من ابتلاءات عديدة. وأما فيما لو خان هؤلاء العهد وقطعوا تلك الرابطة، فإنّهم لن يأمنوا من مكر الله، ويجب أن لا يغتروا بنصر ومدد إلهي سابق، ويظنّوا بأن الابتلاءات لن تصيبهم من جديد.

ومن هنا أيضاً، ومن باب الحفاظ على الإسلام، على الإنسان المؤمن أن يجعل المستقبلَ نُصب عينيه، ويحتاط من الشبهات والانحرافات، خاصة الانحرافات الفكرية، وبالأخص تلك الآتية من بعض الذين يستخدمون حرية التعبير من أجل تبرير الانحراف. يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾15، وفي آية أخرى يخاطب الله نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾16.

فالله تعالى هنا يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم الجلوس في الأماكن التي تُوجّه فيها الإهانات للدِّين ويُستهزأ فيها بالمقدّسات، وهو خطاب عام لكل المؤمنين يُحرّم عليهم الاشتراك في أيّ تجمّع أو مجلس يقوم بالاستهزاء بالدين وتوهن فيه مقدّسات الإسلام، ويأمرهم بالابتعاد عن المجالس التي تطرح فيها الشبهات على الدين، لأن مثل تلك المجالس ليست بمجالس المؤمنين ولا تليق بهم.

أضف إلى أنّه في كثير من الأحيان، لا يتوفّر الشخص القادر على ردّ تلك الشبهات والإجابة عنها، خصوصاً فيما لو طُرحت هذه الشبهات في قوالب مخادعة وماكرة، وعُرضت على الموجودين الذين لا ميزان لديهم لتشخيص الحق من الباطل. لذلك يحرّم الله على المؤمنين الحضور في مثل تلك المجالس، لأن النتيجة الطبيعية لذلك الجلوس والاستماع، هو إيجاد الترديد والشك في عقائد المسلمين ما يفتح الطريق للشياطين كي تسلب روح الإيمان من قلوبهم وتستبدله بالنفاق، وشيئاً فشيئاً سوف يتبدّل هؤلاء الأشخاص إلى أناس مسلمين ظاهراً، بينما قلوبهم خاليةٌ من الإيمان باطناً.

المصدر: الربيون عطاء حتى الشهادة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


المصادر والمراجع

1- سورة آل عمران، الآية 146.
2-
سورة آل عمران، الآية 146.
3-
سورة آل عمران، الآية 146.
4-
سورة آل عمران، الآية 146.
5-
سورة آل عمران، الآية 147.
6-
سورة آل عمران، الآية 147.
7-
سورة المائدة، الآية 54.
8-
سورة المائدة، الآية 54.
9-
سورة آل عمران، الآية 147.
10-
سورة محمد، الآية 7.
11-
سورة آل عمران، الآية 9.
12-
سورة الأنفال، الآية 53.
13-
سورة مريم، الآية 59.
14-
بالإشارة إلى مرحلة الاحتلال الأمريكي للعراق.
15-
سورة الأنعام، الآية 68.
16-
سورة النساء، الآية 140.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى