ثقافة

الشهيد في الإسلام

أولاً: قدسية الشهيد

ثمة كلمات لها في عرف البشرية عامّة وفي عرف المسلمين خاصّة قدسية وعظمة واحترام.

العالم، والفيلسوف، والمخترع، والبطل، والمصلح، والمجتهد، والأستاذ، والطالب والعابد، والزاهد، والمؤمن، والمجاهد، والمهاجر، والصدّيق، والآمر بالمعروف، والولّي، والإمام والنبيّ، كلمات بعضها مقرون بالعظمة والاحترام لدى أبناء البشر عامّة، وبعضها الآخر يحمل هذه الصفة عند المسلمين خاصّة.

ومن الطبيعي أنّ اللفظ لا يحمل طابع القداسة بنفسه، بل بما ينطوي عليه من معنى.

جميع المجتمعات البشرية تنظر بعين التقديس إلى بعض المفاهيم مع اختلاف طفيف بينها. وهذا التقديس يرتبط بجوانب خاصة من نفس هذه المجتمعات في حقل تقييمها للأمور غير الماديّة.

وهذه المسألة تحتاج إلى دراسة فلسفيّة وإنسانيّة معمّقة لسنا بصددها الآن.

و”الشهيد” كلمة لها في الإطار الإسلامي قداسة خاصّة.

والإنسان الذي يعيش المفاهيم الإسلامية ينظر إلى هذه الكلمة وكأنّها مؤطّرة بهالة من نور.

كلمة الشهيد مقرونة بالقداسة والعظمة في جميع أعراف المجموعات البشرية مع اختلاف بينها في الموازين والمقاييس، ولسنا بصدد الحديث عن المفهوم غير الإسلامي لهذه الكلمة.

الشهيد – في المعايير الإسلامية – هو الذي نال درجة “الشهادة” أي الذي بذل نفسه، على طريق الأهداف الإسلامية السامية، ومن أجل تحقيق القيم الإنسانية الواقعية.

والإنسان الشهيد في المفهوم الإسلامي يبلغ – بشهادته – أسمى درجة يمكن أن يصلها الإنسان في مسيرته التكاملية.

نستطيع أن نفهم سبب قدسية كلمة “الشهيد” في الإسلام وفي أنظار المسلمين من خلال الآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن الشهادة والشهيد، وكذلك من خلال ما وصلنا من روايات في هذا الحقل.

ثانياً: مكانة الشهيد في القرآن

القرآن الكريم يقول عن الشهيد: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾1.

فالشهداء – إذن – “أحياء” و”عند ربهم” يرزقون، وما أعظمها من منزلة!

والسنة تكثر من تشبيه المكانة السامية التي يمكن أن ينالها إنسان في حياته بمكانة الشهيد، لأنّها ذروة الرقي والتكامل في المسيرة الإنسانيّة.

فالسائرون على طريق طلب العلم، من أجل التعرف إلى الحقيقة، وطلباً لمرضاة الله تعالى، لا بهدف الترفع والاتجار، هم شهداء في مفهوم الروايات الإسلامية إن توفّاهم الله على هذا الطريق.

وهذا التشبيه يدل على علو مكانة طالب العلم إضافة لما له من دلالة على أنّ الشهادة هي الذروة في مسيرة الإنسان التكاملية.

ونظير هذا التشبيه ورد بشأن الساعي على طريق إدارة دفَّة اقتصاد عائلته، وبالتالي على طريق إدارة اقتصاد مجتمعه، في الحديث: “الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله”2.

حقّ الشهيد
كلّ أولئك الذين خدموا البشرية بشكل من الأشكال لهم حقّ على بني الإنسان، سواء أسدوا خدماتهم عن طريق العلم أم الفكر أم الفلسفة والاختراع والاكتشاف أم الأخلاق والحكمة العملية.

لكن أحداً من هؤلاء ليس له على البشرية حقّ كما الشهيد.

ومن هنا فإنّ ما يكنه أبناء البشر من تعاطف وانشداد تجاه الشهداء يفوق ما يكنّونه تجاه سائر خدمة البشرية.

ثالثاً: لماذا هذه المكانة للشهيد؟

الدليل واضح: كلّ المجموعات التي أسدت خدمات إلى البشرية مدينة للشهداء، لكن الشهداء قلما كانوا مدينين لهذه المجموعات.

العالم في علمه، والفيلسوف في فلسفته، والمخترع في اختراعه، ومعلّم الأخلاق في تعاليمه، محتاجون إلى أجواء حرة مساعدة كي يقدّموا خدماتهم. والشهيد بتضحياته يوفر هذه الأجواء.

الشهيد كالشمعة التي تحترق وتفنى لتضيء الطريق للآخرين. الشهداء شموع البشرية على طريقها اللاحب الطويل.

ولولا هذه الشموع لما استطاعت المسيرة البشرية أن تواصل طريقها، ولما استطاع أبناء البشر في ظلمات الاستعباد والاستبداد أن يمارسوا نشاطاتهم ويقدموا خدماتهم إلى الإنسانية.

والله سبحانه يخاطب نبيّه الكريم قائلاً: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرً﴾3.

و(السراج المنير) مفهوم يدلّ على الإضاءة، وينطوي على معنى الاحتراق وإزالة دياجير الظلام.

جسد الشهيد
أحكام الإسلام تقوم كلّها على أساس الحكمة والمصلحة، وجميعها لها دلالاتها الخاصّة، ودلالاتها الاجتماعية خاصّة.

ومن هذه الأحكام ما يتعلّق بالميت من غسل وتكفين وصلاة ودفن. وكلّها ذات معان خاصّة لسنا بصدد الحديث عنها.

إلّا أن أحكام الميت هذه، لها استثناء، وهذا الاستثناء يختص بجسد الشهيد. فأحكام الميت لا تطبّق على جسد الشهيد سوى الصلاة والدفن.

أمَّا الغسل والتكفين، فلا، فالشهيد يدفن بدمه وملابسه.

وهذا الاستثناء له مغزاه العميق، إنّه يرمز إلى أنّ روح الشهيد بلغت درجةً من السمو والطَّهارة بحيث ترك هذا السمو والطّهر آثاره على جسد الشهيد وعلى دمه، بل وحتّى على ما يرتديه من لباس.

بدن الشهيد “جسد متروّح” إن صحّ التعبير، أي أضحى وجوداً تجري عليه أحكام الروح.

ولباسه أضحى “لباساً متجسداً” أي تجري عليه أحكام الجسد الذي يضمّ تلك الروح الطاهرة.

فجسد الشهيد ولباسه اكتسبا الشرف من طهر روحه وعلوّ فكره وسموّ تضحيته، وتلك دلالة أخرى على قداسة الشهيد في المفهوم الإسلامي.

رابعاً: منشأ القدسية في الشهادة

ما هو مبعث القدسية في “الشهادة”؟!
من الواضح أن هذه القدسية لا تأتي من كونها مقرونة بالقتل.

فكثير من حوادث القتل لا يعدو أن تكون هلاك إنسان، وربما اقترن أحياناً بالعار بدلاً من الفخار. لنوضح هذه المسألة أكثر. موت الأشخاص ذو أنواع وأقسام:

1- الموت الطبيعيّ: الإنسان يموت بشكل طبيعي بعد أن يقضي عمره الطبيعي، ومثل هذا الموت لا ينطوي على عار ولا فخار، ولا يستتبعه عادة أسفٌ عميقٌ.

2- الموت الاخترامي4وهو ما يحدث على أثر انتشار الأمراض الفتّاكة والأوبئة أو وقوع الزلازل والسيول ونظائرها من السوانح الطبيعية. هذا النّوع من الموت لا يتضمن عاراً ولا فخاراً أيضاً، لكنّه يقترن بالأسف عادة، لأنّه يؤدِّي إلى إتلاف الأفراد.

3- الموت المصحوب بعمل جنائي: 
حيث المقتول بريء، والقاتل ينقضُّ على فريسته إرضاءً لهواه وقضاء على من يتصوّر أنّه يزاحمه في مصالحه الشخصية. مثل أنواع هذا القتل نقرأ أخباره باستمرار في أعمدة الصحف وفي صفحات التاريخ. فهذا رجلٌ قتل صاحبَهُ لمنافسةٍ بينهما على مالٍ أو متاعٍ. وهذه امرأةٌ قتلت طفل زوجها كي تستأثر وحدها بحب الزوج.

وذاك الوالي أعمل السيف في رقاب أبناء والٍ آخر تجنباً لمنافستهم إيّاه في المستقبل.

وعلى مسرح مثل هذه الحوادث جانبان، جانب يقف فيه القاتل ويداه ملطختان بدم الجناية، وعيناه يتطير منهما الخبث والشرر ومنظره يثير النفرة والاحتقار، وجانب آخر يظهر فيه المقتول صريعاً مظلوماً، مهدور الدم، يثير تجاهه عواطف الأسف والترحم.

ومن الواضح، أن هذا النوع من الموت – مع ما يتضمنه من أسف وترحم على القتل – لا يقترن بالإعجاب والافتخار، لأنّ المقتول لم يكن له دور في العملية، بل إنّ عوامل الحسد والعداء والحقارة هي التي أردت هذا الإنسان قتيلاً.

4– الاستشهاد: وهو الموت الذي يتجه نحوه القتيل تحقيقاً لهدف مقدس إنساني، أو “في سبيل الله”، على حدّ التعبير القرآني، مع ما يحتمله أو يظنه أو يعلمه من أخطار في طريقه.

خامساً: ركنا الشهادة ووجهاها

1- للشهادة ركنان:
الأوّل:
 قدسية الهدف، والموت على طريق تحقيق هذا الهدف المقدس، أي أن يكون “في سبيل الله”.
الثاني: أن تكون الشهادة قد تمت عن علم ووعي.

2- للشّهادة وجهان:
الأول:
 وجهٌ مقدّس في انتسابها للمقتول
الثاني: وجهٌ بشعٌ إجرامي في انتسابها للقاتل.

الشهادة – بما تحمله من صفات سامية كالوعي، والاختيار وقدسية الهدف وخلوها من الميول الذاتية – عملٌ بطولي يبعث على الإعجاب والافتخار.

هذا النوع من (الموت) هو وحده الذي يفوق (الحياة) عظمة وقدسية وأهمية.

وهنا ينبغي أن نشير إلى ظاهرة مؤسفة تطغى على مجالس ذكر الحسين بن علي عليهما السلام.

هذه المجالس تضفي على مقتل الحسين عليه السلام طابع النوع الثالث من الموت، أي موت الإنسان البريء الذي ذهبَ دمه هدراً، مع أنّ هذه المجالس تذكر الحسين عليه السلام على أنّه “شهيد” بل “سيِّد الشُّهداء”.

كثير من الموالين لآل البيت يذرفون الدموع على مظلومية سيد الشهداء، وكأنَّهم يبكون على طفلٍ بريءٍ ذهب ضحية أهواء طاغية من الطغاة5.

لو كان الحسين عليه السلام كذلك، لو كان مظلوماً عديم الدور في حادث مقتله، كسائر المقتولين ظلماً وعدواناً، لما كان شهيداً، فما بالك بكونه سيد الشهداء!

ليس من الصحيح أن نحصر الحسين عليه السلام في إطار الإنسان الذي ذهب ضحية أهواء الطواغيت.

نعم، الوجه الآخر لفاجعة كربلاء يمثل بشاعة القاتلين وإجرامهم واستفحال أهوائهم الدنيئة.

لكن الوجه الآخر الذي يرتبط بالحسين عليه السلام هو الشهادة، أي المقاومة الواعية الذكية على طريق الهدف المقدس. فمع علم الحسين عليه السلام بالمصير الذي سيواجهه نتيجة مواقفه المتصلبة رفض البيعة مع الطغاة رفضاً باتّاً.. وأبى السكوت واعتبر المداهنة معصية ما بعدها معصية.

تاريخ الحسين عليه السلام وما سجّله في التاريخ من كلمة وعمل، أوضح دليل على ما نقول.

الشهادة تكسب – إذن – قداستها من صفتها التضحوية الواعية على طريق الهدف المقدس.

سادساً: مسؤولية الشهيد في القرآن والروايات

العمليّة التي تؤدّي إلى الشهادة أي إلى الموت الواعي على طريق الهدف المقدس، قد اتّخذت في الإطار الإسلامي شكل مبدأ هو “الجهاد”.

ولو أردنا أن نوضح هذا المبدأ، فثمة أسئلة متعددة تطرح نفسها على بساط البحث منها:

هل أنّ ماهية هذا المبدأ دفاعيّة أو هجوميّة؟ وإنْ كانت دفاعيّة، فهل ينحصر في إطار الدّفاع عن الحقوق الشّخصية والقوميّة، أم يتَّسِعُ نطاقه ليشمل الحقوق الإنسانيَّة، كالحرية والعدالة..؟

وهل التوحيد جزء من الحقوق البشرية والإنسانية أم لا؟

وهل مبدأ الجهاد يتنافى أساساً مع حقّ الحرية أم لا؟

الإجابةُ عن هذه الأسئلة تتطلَّبُ الخوض في بحوثٍ وتفصيلاتٍ شيِّقَةٍ مفيدةٍ لا مجال لها في حديثنا هذا.. فنكتفي بالقول: إنّ الإسلام ليس بالدين الذي يدعو الفرد إلى إدارة خدّه الأيسر إنْ صُفع على خده الأيمن، وليس بالدين الذي يقول: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر. وليس الإسلام بدين يفتقد الهدف ويعدم خط الدفاع والدعوة.

آيات عديدة في القرآن الكريم تذكر ثلاثة مصطلحات مقرونة مع بعضها بعضاً (الإيمان) و(الهجرة) و(الشهادة).

إنسان القرآن موجود مرتبط بالإيمان ومتحرّر من كلّ شيء آخر، وهو الموجود الذي يهاجر لينقذ إيمانه، ويجاهد لإنقاذ إيمان المجتمع، أو بعبارة أخرى، لإنقاذ المجتمع من براثن الكفر والشرك.

يطول بنا الحديث لو استعرضنا الآيات والروايات الواردة في هذه الحقل. لذلك نكتفي بإلقاء الضوء على جمل معدودات من إحدى خطب أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: “أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى وَدِرْعُ اللهِ الْحَصِينَةُ وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ الذُّلِّ وَشَمِلَهُ الْبَلَاءُ وَدُيِّثَ6 بِالصَّغَارِ وَالْقَمَاءَةِ7 وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْداد8 وَأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ9 بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ وَسِيمَ الْخَسْفَ10 وَمُنِعَ النَّصَفَ1112.

فالجهاد، باب من أبواب الجنّة، فتحه الله لخاصّة أوليائه. نعم لخاصّة أوليائه، وهي كلمة لها مدلولها العميق.

بابُ الجهاد غير مفتوح بوجه الجميع، لأنّ وسام المجاهد لا يتقلّده إلّا من كان لائقاً لذلك، وأولياء الله غير لائقين بأجمعهم لتقلّد هذا الوسام، بل خاصّة أولياء الله.”

ورد في القرآن الكريم: إنّ للجنّة ثمانية أبواب.

فلم هذه الأبواب الثمانية؟! أللتخفيف من شدّة الازدحام؟ غير معقول! لأنّ العالم الآخر ليس بعالم تزاحم. والله قادر على أن يدخل جميع عباده الجنة دونما تأخير أو انتظار كقدرته على محاسبتهم السريعة ﴿وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾13.

هل الهدف من تعدّد الأبواب تقسيم الناس إلى طبقات بحسب مكانتهم أو مشاغلهم الدنيوية؟!

كلا.. هذا غير ممكن أيضاً، فليس ثمة معيار سوى التقوى.

تعدّد الأبواب ليس له مفهوم سوى تعدّد الدرجات، لا الطبقات.

للإيمان والعمل والتقوى مراتب ودرجات، ولكلّ درجته ومنزلته في مدارج الإيمان والعمل والتقوى، بمقدار ما طوى من المراحل التكاملية لهذه المدارج في الحياة الدنيا.

ولكلّ فئة طوت مرحلةً معينةً من مراحل تكاملها بابٌ تدخلُ منه الجنَّةُ في الحياة الأخرى حسب درجتها ومنزلتها، أي حسب ما طوته من أشواطٍ على طريق إيمانها وعملها وتقواها في هذه الحياة، فذاك العالم تجسُّدٌ ملكوتيٌّ لهذا العالم.

الباب الذي يدخل منه المجاهدون – إذن – هو الباب المفتوح لخاصّة أولياء الله، يلجون منه لينالوا فوز القرب الإلهي.

والإمام يصفُ الجهادَ بعد ذلك بأنّه لباس التقوى. والتقوى تعني “الطهر الحقيقي”، الطهر الحقيقي من كلّ الآثام.

من المعلوم أنّ جذور الآثام الروحية والخلقية هي الكبر والغرور والأنانية. ومن هنا فإنّ المجاهد الواقعي أتقى الأتقياء.

فربّ متّق طهر من الحسد، وآخر من الكبر، وآخر من الحرص، وآخر من البخل..

لكنّ المجاهد أطهر الطاهرين، لأنّه ضحى بكلّ وجوده، ولذلك اختص بباب من أبواب الجنّة لا يناله سائر الطاهرين.

مفهوم التقوى وارتباطه بالجهاد
مفهوم “درجات التقوى” يوضحه القرآن بجلاء في الآية: الكريمة: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾14.

هذه الآية: توضح مفهومين رائعين من المفاهيم القرآنية:

الأوّل: فلسفة الحياة وحقوق الإنسان. فالآية: تقول: النِعَم خلقت للإنسان. والإنسان خُلق للإيمان والعمل والتقوى. والإنسان يستطيع أن يتمتع بالنِعَم الإلهية إذا كان ملتزماً بالحركة على الخط التكاملي، أي على خط الإيمان والتقوى والعمل الصالح.

الثاني: درجات الإيمان والتقوى، وعلماء الإسلام – انطلاقاً من هذه الآية: وغيرها من النصوص – قسموا مراتب التقوى إلى: العامّة، والخاصّة، وخاصّة الخاصّة.

وتقوى المجاهدين تقوى التضحية والفداء، والشهداء قدموا كلّ ما يملكون مخلصين إلى الله تعالى، واختاروا لأنفسهم هذا (اللباس) من ألبسة التقوى.

ثم يصف الإمام الجهاد أنّه “درع الله الحصينة وجنته الوثيقة”.

لو تربّت أمّة مسلمة على روح الجهاد، وتسلّحت بهذا الدرع الإلهي، فلن تنثني أمام أعتى الضربات.

والدرع، لباس من حلقات حديدية يرتديه المقاتل كي يبطل مفعول الضربة على الجسم..

والجنّة15 تحول دون وقوع الضربة على البدن، فالأوّل عمله المناعة والثاني: الدفاع.

وربما كان الإمام يشير في وصفه هذا إلى نوعين من الجهاد، جهاد وقائي يعطي للأمّة مناعة من آثار الضربات المهلكة، وجهاد دفاعي يقف بوجه الضربات.

سابعاً: الآثار السلبية لترك الجهاد

ثمّ يستعرض الإمام الآثار السلبية لترك الجهاد. والآثار السلبية التي تتحدث عنها العبارة جماعية لا فردية، أي ترتبط بالمجتمع لا بالفرد.

هذه الآثار السلبية عبارة عن:

1- الذلة والمسكنة.

2- الشدائد والمصائب:
 وهما خلاف ما يمكن أن يتصوّر في هذا المجال، فربّ أمّة تترك الجهاد طلباً لرغد العيش، لكنَّ الشدائد والمصائب تتوالى على مثل هذه الأمّة.

3- الإحساس بالحقارة النفسية.

4- فقدان البصيرة والرؤية الصحيحة،
 وهذه مسألة تلفت النظر كثيراً. علي عليه السلام يجعل الجهاد طريقاً لتفتح البصيرة وللرؤية الواضحة الصحيحة. النصوص الإسلامية التي تؤكّد على أنّ البصيرة وليدة العمل صريحة وكثيرة.. لكنّ هذا النّص أكثر صراحة، وذهب إلى أكثر ممّا ذهبت إليه النّصوص الأخرى حيث اعتبر ترك الجهاد يؤدي إلى إسدال الحجب على القلب أو على الفهم الصّحيح والرّؤية الواضحة للأمور.

5- فقدان مراكز القيادة،
 فالأمة التي تترك الجهاد لن تعود قادرة على حمل راية الإسلام والدعوة إلى الحق.

6- الحرمان من إنصاف الآخرين،
 فالأمّة ذات اعتبار ومكانة واحترام ما دامت مجاهدة، وإن افتقدت روحها الجهادية فقدت شخصيّتها ومكانتها فلا يراعى لها حقّ، ولا تعامل بإنصاف.

قال الرّسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: “الخير كلّه في السيف وتحت ظلّ السيف”16.

وقال أيضاً: “إنّ الله أعزّ أمّتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها”17.

وهذا يعني أنّ القدرة والقوّة لا تنفصلان عن الأمّة الإسلامية، والإسلام دين القوّة والقدرة ومدرسة تخريج المجاهدين.

يقول ويل ديورانت في “قصة الحضارة”: ليس كالإسلام دين في حثّ أتباعه على التزود بالقوّة والمقدرة.

وحديث آخر عميق المغزى، روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “من لم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق”18.

فالإنسان المسلم إمَّا أن يعيش حياة الجهاد عملياً أو على مستوى الأمل على الأقل. وبهذا المعيار يُعرف الإنسان وإخلاصه في إسلامه.

وروي أنّه سُئل النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما بال الشهيد لا يفتن في قبره؟

أجاب: “كفى بالبارقة فوق رأسه فتنة”.

فالشهيد قد اجتاز امتحانه تحت السُّيوف التي كانت مشهورةً بوجهه، أي إنَّه أثبت إخلاصه وصدقه وبيّن حقيقته حين اختار الشَّهادة، فليس من اللازم أنْ يؤدِّي امتحاناً آخر في عالم البرزخ.

ثامناً: الاندفاع نحو الشهادة

الاندفاع نحو الشهادة ظاهرة نلمسها بوضوح في جمهرة غفيرة من مسلمي صدر الإسلام. وحين يتطلع الإنسان إلى هذه الظاهرة يحسّ أنّ في أعماق هذه الفئة المؤمنة شوقاً ولهفة إلى الشهادة.

هذا علي عليه السلام يقول: إنّه لما أنزل الله سبحانه، قوله: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾19 علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا.

فقلت: يا رسول الله! ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها؟

فقال: يا عليّ، إنّ أمّتي سيفتنون من بعدي.

فقلت: يا رسول الله! أوليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين، وحيزت عني الشهادة، فشق ذلك عليّ، فقلت لي “أبشر فإنّ الشهادة من ورائك”؟

فقال لي: إنّ ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذن؟

فقلت: يا رسول الله! ليس هذا من مواطن الصَّبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر”20.

ويقول عليّ عليه السلام أيضاً: “إنّ أكرم الموت القتل! والذي نفس ابن أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على الفراش في غير طاعة الله”21.

هذا الاندفاع لم يكن مقصوراً على عليّ وأمثال عليّ، بل إنّ عامة الناس كانوا يأتون إلى الرسول يطلبون منه أن يدعو الله لهم بالشهادة22.

نماذج خالدة من الشهداء
1- هذا “خيثمة” واحد من سائر الناس يتنازع مع ابنه ليسبقه في الاستشهاد. الأب يصر على الابن أن يبقى في البيت ليذهب هو إلى الجهاد. والابن يصرّ على الأب كذلك بالبقاء في البيت ليذهب هو. فيقترعان، فتقع القرعة على الابن، فيذهب، ويستشهد. ثم يرى الأب ولده في عالم الرؤيا يقول له: يا أبت، إنّه قد وعدني ربي حقّاً! تصاعد شوق الاستشهاد في نفس الرجل العجوز فهرع إلى النبيّ يقوله له: لقد وهن عظمي وخارت قواي، لكنّي اشتاق إلى الشّهادة، فاسأل الله أن يرزقني إياها.. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يمر عام حتى نال الرجل ما تمناه.. فقد سقط في معركة أحد مضمَّخاً بدم الشهادة!

2- “عمر بن الجموح”.. كان قد أصيب في إحدى رجليه وسقط عنه حكم الجهاد إذ ليس على الأعرج حرج. وحانت معركة أحد فتجهز أولاد هذا الرجل للمعركة، وهمّ هو أيضاً أن يشارك مع أبنائه.. نصحه أولاده فلم يستجب لهم. اجتمع أهله وأقاربه ينصحونه بالبقاء فأبى أن يصغي لهم.. وذهب إلى الرسول شاكياً يقول: أبنائي يمنعونني أن أفوز بالشهادة. فأجازه رسول الله أن يشارك في المعركة، وطلب من أبنائه أن يدعوه يحقّق أمنيته في الاستشهاد. فخاض المعركة واستشهد. وعندما بلغ خبر فشل المسلمين في أحد إلى المدينة سارع من كان في المدينة إلى جبل أحد، وبينهم امرأة عمر بن الجموح.

عثرت هذه المرأة على جسد زوجها وابنها وأخيها، فوضعت الأجساد على ظهر بعير، وقفلت راجعة إلى المدينة لتدفن قتلاها في البقيع.. لكنها ألفت البعير يأبى الاتجاه نحو المدينة، ولا يتحرّك إليها إلّا بمشقة. فالتقت بنسوة قادمات من المدينة نحو أحد بينهن عائشة زوج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
سألتها عائشة: من أي مكان تأتين؟
أجابت: من أُحد.
قالت عائشة: فما هذا الذي على ظهر البعير؟.
أجابت ببرود تام: أجساد زوجي وابني وأخي، أذهب بهم إلى المدينة لأدفنهم هناك.
ثم سألتها عمّا وراءها.
أجابت المرأة: خيراً.. النبيّ سالم والحمد لله، ورد الله الذين كفروا بغيظهم.
ثم قالت المرأة لعائشة: إنّ هذا البعير يأبى العودة إلى المدينة وكأنّه يروم الذهاب إلى أحد.
قالت عائشة: لننطلق معاً إلى النبيّ في أحد، ثمّ قصت المرأة على النبيّ ما كان من شأن البعير.
فسألها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمّا قاله زوجها حين غادر المنزل، قالت: رفع يده إلى السماء وسأل الله تعالى أن لا يعيده إلى بيته.
فأخبرها النبيّ باستجابة دعوة زوجها، وأمر بدفنه مع سائر الشهداء في أحد.

3- روح الاندفاع نحو الشّهادة تجسّدت في كلّ أئمّة آل البيت عليهم السلام وأتباعهم، وهذه الرّوح تطفح في أدعيتهم التي خلفوها لنا ومنها: “اللهم برحمتك في الصالحين فأدخلنا، وفي عليين فارفعنا.. وقتلاً في سبيلك مع وليك فوفق لنا”23.
وكان الحسين بن علي عليه السلام يردِّدُ وهو يسيرُ نحو كربلاء هذه الأبيات:
فإنّ تكن الدّنيا تعدّ نفيسة فدار ثواب الله أعلى وأنبل
وإنْ تكن الأموال للترك جمعها فما بال متروك به المرء يبخل
وإنْ تكن الأبدان للموت أُنشِئَت فقتل امرئ بالسيف في الله أجمل

تاسعاً: منطق الشهيد

لكلّ إنسان منطق خاص، وطريقة تفكير خاصّة. وهناك معايير ومقاييس يحدِّد بموجبها موقفه من المسائل والظواهر المختلفة.

وللشهيد منطق خاصّ.. إنّه “منطق الشهيد” الذي لا يمكن قياسه بمنطق الأفراد العاديين. فمنطق الشهيد أسمى.. إنّه مزيج من منطق المصلح ومنطق العاشق.. منطق المصلح الذي يتضوّر قلبه ألماً لمجتمعه، ومنطق العارف العاشق للقاء ربّه.

بعبارة أخرى: لو امتزجت مشاعر عارف عاشق للذات الإلهية بمنطق إنسان مصلح لنتج من ذلك “منطق الشهيد”.

لا أحسب أني استطعت أن أعطي “منطق الشهيد” حقّه من التصوير والتوضيح فلأضرب لذلك مثلاً: حين توجه الحسين بن عليّ عليه السلام نحو الكوفة، أجمع عقلاء القوم على منعه من السفر قائلين إنَّ عزمه على السفر إلى العراق غير منطقي.

وكانوا صادقين فيما يقولون.. لم يكن عزم الإمام ينسجم مع منطقهم.. مع منطق الإنسان الاعتيادي.. مع منطق الإنسان الذي يدور فكره حول محور مصالحه ومنافعه. لكن الحسين عليه السلام كان له منطق أسمى، كان منطقه منطق الشهيد، ومنطق الشهيد أسمى وأرفع من منطق الأفراد العاديين.

لم يكن “عبد الله بن عباس” و”محمّد ابن الحنفيّة” من عامة الناس، بل كانا سياسيين عالميين، ومنطقهما منطق السياسة، والمصلحة، منطق الحنكة والذكاء الذي يدور حول المصلحة الفردية والانتصار الشخصي على المنافسين.

وذهاب الحسين إلى العراق عملية خاطئة استناداً إلى هذا المنطق.

وهنا تجدر الإشارة إلى اقتراح ذكي قدمه ابن عباس إلى الحسين عليه السلام.

لقد اقترح عليه أن يسلك طريقاً سياسياً من نوع الطرق التي يسلكها “الأذكياء” ممّن يتّخذون النّاس وسيلةً لتحقيق أهدافهم وممن يقفون في المؤخّرة دافعين الجماهير نحو مقدّمة الجبهة، فإنْ أحرزوا النَّصر نالوا ما جنته يدُ الجماهير، وإنْ فشلت الجماهير وقفوا على التَّل سالمين.

قال ابن عباس للحسين عليه السلام: “يا بن عم إنّي أتصبّر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إنّ أهل العراق قوم غدر فلا تقربهم، أقم في هذا البلد، فإنّك سيد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك – كما زعموا – فاكتب إليهم، فلينفوا عاملهم وعدوهم، ثم أقدم عليهم”24.

فابن عباس يريد أن يضع جماهير العراق في مقدمة الجبهة والحسين عليه السلام في المؤخرة.

يريد أن يقول للحسين عليه السلام: دع أهل العراق يواجهون العدو بأنفسهم فإن انتصروا فقد استتب الأمر لك، وإن لم يفعلوا كنت في حل منهم، ولن يصيبك مكروه.

لم يعر الحسين عليه السلام أي اهتمام لهذا الاقتراح وأعلن عن عزمه على الذهاب.

فقال له ابن عباس: فإن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك.

أجابه الحسين عليه السلام: يا بن عم، إنّي لأعلم أنك ناصح مشفق، وقد أزمعت وأجمعت المسير!

نعم، منطق الشهيد منطق آخر، منطق الشهيد منطق الاشتعال والإضاءة، منطق الانصهار والانحلال في جسم المجتمع من أجل بعث الحياة في هذا الجسم وبعث الروح في القيم الإنسانية الميتة.. منطق تسجيل الملاحم.. منطق النظرة البعيدة.. البعيدة جداً.

ومن هنا كانت كلمة “الشهيد” مقدسة عظيمة. ومن هنا فإنّنا لا نعطي الشهيد حقّه إن وصفناه أنّه “مصلح”، لأنّه فوق المصلحين، أو أنّه “بطل”، لأنّه أعظم من الأبطال.

لا يمكن وصف الشهيد إلّا أنّه “شهيد” وليس بمقدورنا أن نستعمل كلمة أخرى.

دم الشهيد
الشهيد يقف بوجه العدو، فإمّا أن يصرعه وإما أن يُصرع، لكن عمل الشهيد لا ينحصر في هذا الموقف! فلو كان عمله منحصراً بهذا لذهب دمه هدراً حينما يخرّ صريعاً في ساحة المعركة. وهذا ما لا يحدث، فدم الشهيد لا يذهب هدراً.. دم الشهيد لا يراق على الأرض.

كلّ قطرة من دم الشهيد تتحوّل إلى آلاف القطرات.. بل إلى بحر من الدماء يدخل جسد المجتمع. ومن هنا قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: “ما من قطرة أحب إلى الله من قطرة دم في سبيل الله”25.

الشهادة تزريق لجسد الأمّة بدم جديد. والشهداء يضخُّون في شرايين المجتمع، والمجتمع الذي يعاني فقر الدم خاصّة، دماً جديداً.

الشهيد يسجّل بدمه ملحمة يحيي بها روح الحماسة في مجتمع ماتت فيه روح الحماسة والحماسة الإلهية خاصّة.

ولهذا فالإسلام بحاجة إلى شهيد.

لأنّه بحاجة مستمرة إلى حماسة متجددة، وإلى ولادة متجددة.

خلود الشهيد
العالم يخدم المجتمع بعلمه، وعن طريق قناة العلم يخرج هذا العالم من فرديته ليرتبط بالمجتمع. أي، عن طريق العلم تتّحد شخصيته الفردية بشخصية المجتمع كما تتَّحد القطرة بالبحر.

بهذا الاتحاد، يخلّد العالم جزءاً من شخصيته، أي يخلّده فكره وعمله.

والمخترع يتّحد بالمجتمع عن طريق اختراعه، ويخلّد وجوده عن طريق ما يقدمه للمجتمع من مخترعات، وهكذا الفنان والشاعر ومعلّم الأخلاق.

والشهيد يخلّد نفسه في المجتمع عن طريق دمه، أي عن طريق الدم الجديد الخالد الذي يهبه شرايين المجتمع، وبعبارة أخرى يكتسب الشهيد صفة الخلود عن طريق تقديم كلّ وجوده وحياته، لا عن طريق تقديم جزء من وجوده وشخصيته، كما يفعل غيره من الخالدين.

ولهذا فالنبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “فوق كلّ ذي برٍّ برّ حتّى يُقتل الرَّجل في سبيل الله، وإذا قتل في سبيل الله، فليس فوقه برّ”26.

شفاعة الشهيد
ورد في الأثر أنّ الله يقبل الشفاعة يوم القيامة من ثلاث طبقات: طبقة الأنبياء وطبقة العلماء ثم الشهداء. وهنا ينبغي أنْ نوضح أنّ الشفاعة هذه هي “شفاعة الهداية”.

إنّها تجسيد لما حدث في الدنيا من حقائق.

فعن طريق الأنبياء اهتدى الناس ونجوا من الظلمات.

والعلماء – في هذا الحديث – هم العلماء الربانيون بما فيهم الأئمّة الأطهار عليهم السلام والرهط الصالح من أتباعهم ومن حذا حذوهم، وهؤلاء أيضاً ساروا على طريق الأنبياء وأخرجوا الناس من الظلمات إلى النور.

والشهداء ينهضون بالدور نفسه، يضيئون الدرب أمام الناس، فيهتدي من يريد الهداية، وبذلك يكون الشهداء شفعاء لمن اهتدى بهم.

عاشراً: البكاء على الشهيد

“حمزة بن عبد المطلب” عمّ النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، استشهد في أحد، ولمع اسمه بين شهداء صدر الإسلام، وحاز لقب “سيد الشهداء”، وقبره الآن بين شهداء أُحُد مزار لكلّ الذين يقصدون زيارة المدينة المنورة.

كان حمزة قد هاجر من مكّة إلى المدينة حيث مكث وحيداً ليس معه فيها من ذويه أحد، حتّى استشهد.

حين رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد معركة أحد إلى المدينة، وجد أصوات البكاء تتصاعد من بيوت الشهداء إلّا بيت حمزة.. فقال عبارته المعروفة: “أما حمزة فلا بواكي له”27.

سرعان ما انتشرت هذه الكلمة في أرجاء المدينة، فأسرعت النساء الثكلى والأيامى إلى بيت حمزة ليبكينه احتراماً لمقولة النبيّ ولحمزة عمه.

فأصبحت العادة منذ ذلك الوقت أن يذهب كلّ من يريد أن يبكي على شهيد، إلى بيت حمزة ليبكيه أوّلاً.

وهذه الحادثة دلّت على أن الإسلام – وإن لم يشجّع البكاء على الموتى – يميل إلى أن يبكي النّاس على الشهيد، لأنّ البكاء على الشهيد اشتراك معه فيما سجله من ملاحم، وتعاطف مع روحه، واتساق مع نشاطه وتحركه وتياره.

بعد حادثة عاشوراء، احتلت شهادة الحسين عليه السلام مركز الذروة على مسرح الشهادة، وانتقل لقب “سيد الشهداء” إلى الحسين عليه السلام، وبقي حمزة سيّداً للشهداء، لكن عبارة “سيد الشهداء” إن أطلقت دون ذكر اسم فلا تنصرف إلّا إلى الحسين عليه السلام.

كان حمزة سيد شهداء زمانه، وحاز الحسين عليه السلام على لقب سيد شهداء جميع العصور والدهور، كمريم العذراء التي كانت سيدة نساء زمانها، ثم أضحت فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين.

كان حمزة – قبل استشهاد الحسين عليه السلام – رمزاً للبكاء على الشهيد، وكان البكاء عليه مظهراً من مظاهر الانشداد بطريق الشهادة، ثم انتقلت هذه المكانة إلى الحسين عليه السلام بعد واقعة كربلاء.

فلسفة البكاء على الشهيد
من الضروري أن نقف – ولو قليلاً – عند مسألة “البكاء على الشهيد”، وهي مسألة لاكتها الألسن بكثير من عدم الفهم، وواجهت كثيراً من الاعتراضات.

تهجم بعضهم بصراحة على هذه الظاهرة مدّعياً أنّها وليدة نظرة خاطئة إلى مسألة الشهادة وأنّها ذات آثار اجتماعية سلبيّة.

أتذكر أنّي قرأت أيّام التلمذة كتاباً للكاتب المعروف آنذاك “محمّد مسعود” طرح فيه مسألة البكاء على الحسين بن علي عليهما السلام وقارن ذلك بما دأب عليه المسيحيون بالاحتفال، بل بالابتهاج في ذكرى استشهاد المسيح!

قال: انظروا إلى أمّة تبكي على شهيدها لأنّها تحسب الشهادة فشلاً وخسراناً وأمراً يبعث على الحزن والأسف، وأمّة أخرى تبتهج بذكرى شهادة شهيدها لأنّها تنظر إليها نظرة اعتزاز وافتخار.

وأمّة تبكي ألف عام على استشهاد شهيدها وتحترق ألماً وأسفاً عليه لا بدّ أن تكون ضعيفة مهزوزة مهزومة. لكن أمّة تبتهج حين تحيي ذكرى شهادة شهيدها خلال القرون المتمادية لهي أمّة قويّة مقتدرة مضحية حتماً.

هذا الكاتب يريد أن يقول إنّ البكاء على الشهيد مظهر ضعف الأمّة وانحطاطها، والابتهاج بذكرى الاستشهاد ينمّ عن روح قويّة مقتدرة. لكن المسألة في رأيي هي عكس ما ذهب إليه الكاتب، فالابتهاج في ذكرى الاستشهاد يعبر عن “الروح الفردية” في المسيحية، والبكاء على الشهيد يعبر عن “الروح الاجتماعية” في الإسلام.

لا أريد هاهنا طبعاً أن أبرّر أعمال كثير من الناس ممن ينظرون إلى الحسين عليه السلام على أنّه مجرد شخصية تثير الحزن والأسف والأسى، لأنّه قتل مظلوماً، ولأنّه ذهب ضحية أهواء الطاغوت.

لا أريد أن أبرّر أعمال أولئك الذين لا يضعون نصب أعينهم مواقف الحسين عليه السلام البطولية في إحيائهم لذكرى سيد الشهداء، فقد سبق أن انتقدنا هؤلاء حين تحدثنا عن (منشأ القدسية) في الشهيد. بل أريد أن أوضح فلسفة تعليمات قادتنا الميامين في حقل البكاء على الشهيد.

هذه الفلسفة التي يتفهمها جيداً كلّ الواعين ممّن يشاركون في مجالس عزاء الحسين عليه السلام.

المصدر: كتاب الجهاد والشهادة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


المصادر والمراجع

1- سورة آل عمران، الآية: 169.
2-
الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص88.
3-
سورة الأحزاب، الآيتان: 45 و 46.
4-
اخترمه: أهلكه واستأصله.
5-
هذه الظاهرة السلبية التي يذكرها المؤلف الشهيد، هي انعكاس طبيعي لما كان يسود المجتمع الإيراني من روح هابطة. أما حين سمت هذه الروح وتكاملت أبان أحداث الثورة الإسلامية، وبلغت مستوى فهم الشهادة والشهيد فقد تغير وجه أكثر المجالس الحسينية بشكل واضح، وزالت منها تقريباً هذه الظاهرة السلبية التي يذكرها المؤلف. (م).
6-
دُيّت: مبني للمجهول من ديثه، أي: ذلله.
7-
القماءة: الصغارة والذل.
8-
الأسداد: جمع سد، أي الحجب.
9-
أديل الحقّ منه: أي صارت الدولة للحقّ بدله.
10-
الخسف، الذلّ والمشقّة.
11-
النصف: العدل.
12-
نهج البلاغة: الخطبة 37.
13-
سورة البقرة، الآية: 202.
14-
سورة المائدة، الآية: 93.
15-
الجنّة والمجن والمجنة, كلّ ما وقى من السلاح.
16-
الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص2.
17-
الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج6، ص123.
18-
مروي في صحيح مسلم، ج6، ص49.
19-
سورة العنكبوت، الآية: 2.
20-
نهج البلاغة، الخطبة156. (تحقيق صالح).
21-
نهج البلاغة، ص180. (تحقيق صالح).
22-
تكررت هذه الظاهرة في إيران أبان الثورة الإسلامية، فاندفعت الملايين تطلب الموت، فوهب الله لها الحياة. والإمام القائد ذكر مراراً أنّ الأفراد يأتون إليه باستمرار يطلبون منه أن يدعو الله لهم أن يرزقهم الشهادة!!. (المعرب).
23-
السيد ابن طاووس، إقبال الأعمال، ص224.
24-
ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج4، ص16.
25-
الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص53.
26-
الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص348.
27-
ابن عبد البر، الاستيعاب بهامش الإصابة، ج1، ص275.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى