ثقافة

قبسات من زبور عاشوراء

 

ما هو السر الذي تنطوي عليه جنباتكِ يا عاشوراء حتى يهيم فيك العاشقون، ويجنّ في جمال معناكِ الوالهون؟ أيةُ عظمةٍ هذه التي حوتها ساعاتُكِ القصار حتى صارت دروسكِ معيناً لا ينضب، ونوراً يجذب فراشات الأرواح الوالهة تجاه بهائك؟!

كيف تمرّدْتِ على الزمن، وهدّمتِ أسوار المكان فصرتِ حاضرة في كل مكان، وكل زمان، فصار كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء؟! ما الذي جرى فوق رمالك اللاهبة الحمراء حتى صرتِ أنشودة لكل الأحرار، وكل الثوار، وكل سالك نحو الله(تعالى)!

نعم، إنها العبودية لله(تعالى) حين تصدق كل الصدق، وحبُ الله(تعالى) حين يخلص كل الخلوص!

 

عرفان الحسين(عليه السلام):

تعلمنا من مدرسة الحسين(عليه السلام) أن العرفان الحقيقي، والحب الحقيقي لله(تعالى)، إنما هو ذلك العرفان الذي يستقي كل أفكاره وسلوكياته من شرع الله(تعالى)، وليس في الشريعة الغراء ما يدعو للانزواء عن صناعة الحياة، ولا الفرار عن تكليف الأخذ بالحياة والواقع نحو الله(تعالى)، وتطهير الواقع من كل ما يبعد المسيرة الإنسانية عن سيرها نحو الله(تعالى).

إن هذا العرفان الحسيني هو ذلك الذي يتقرّب إلى الله(تعالى) في خضم حضوره بين عباده، ويناجيه عبر أداء المسؤوليات التي فرضها الله(تعالى) على عباده، ومنها المسؤوليات الاجتماعية والسياسية، ومسؤولية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد أعداء الله(تعالى)، والثبات على الحق مهما كلف من ثمن.

إن العبادة الحقيقية ليست في الفرار من بيعة يزيد إلى الحرم – كما فعلها ابن الزبير – وإنما في كلمة حق عند سلطان جائر، ومناهضة الظلم، وتقديم التضحيات العظيمة حين يتعرض الإسلام إلى الخطر، وما قيمة العبادة التي ترى الله(تعالى) يعصى ولا تسعى للتغير بكل الطاقة؟!

إن العبادة الحقيقية والالتزام الحقيقي لهو في أن يجدنا الله(تعالى) حيث أمر، ويفقدنا حيث نهى، وإذا عربد الظلم، وتفرعن الطغاة، وساد الفساد؛ فلا عبادة أوجب وأفضل وأصدق من عبادة النهوض والتصدّي الشجاع لتغيير الواقع، وإعادته إلى سكة الطريق إلى الله(تعالى).

 

ثورية الحسين(عليه السلام) وصموده:

إن الثورية، والصمود وعدم التنازل عن الحق، والثبات عليه يتخذ إحدى صورتين:

1- أن يدّعي الإنسان ذلك قولاً، ويرفع به الشعار مدوِّياً مجللاً، ثم لا يُرى ذلك في السعي الميداني الرجولي عبر مواجهة ضرب الحق، والتصدّي الشجاع لهدر الكرامة، وردع المعتدي على حرمة الحق وأهله، ومعاقبته.

2- أن يحمل الإنسان الثورية قولاً وفعلاً، ومنهجاً ومساراً، فلا يشذ الشعارُ عن السلوك، ولا السلوك عن الشعار، ويبقى الثبات على الحق سيد كل المواقف، مهما عظمت التضحيات، واحتشدت الصعوبات البلاءات؛ فالإنسان المؤمن الشريف العزيز عند كلمته. قال (تعالى) :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} الصف/2-3.

وما تعلمنا إياه مدرسة عاشوراء أن كل شعاراتها كانت سلوكيات عملية ثورية ثابتة قبل أن تكون كلمات، وظلت مُجلجلة ثابتة برغم قتل الأصحاب، وذبح الأبناء، والجراحات، وتقطيع الأشلاء، وبقيت تلك الشعارات متجسدة في كل موقف حتى آخر نفس من أنفاس الثوار، وعلى رأسهم إمامهم شهيد كربلاء العظيم أبو الأحرار(عليه السلام)!

لقد بقيت المواقف منسجمة – كل الانسجام – مع شعار”هيهات منا الذلة” وشعار “مثلي لا يبايع مثله”، وشعار”لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد”، فكان ثوار عاشوراء مصداقاً لقوله (تعالى): {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} الأحزاب/23.

وهكذا يجب أن يكون أتباع هذه المدرسة إذا أرادوا أن يصدقوا في الولاء، ويقدموا الثورة بصدق وجاذبية لبقية العالم. إن الواقع العملي المقتفي لهدى مدرسة عاشوراء الذي قدمه “حزب الله” بكل توهّج وعزة، جعل الكثيرين يعتنقون هذا الخط، وما ذلك إلا لما للصدق في الإنتماء من أثر على الذات والآخرين.

أما إذا أهين ديننا، وهتكت حرمة مقدساتنا وشعائرنا، ودنّست أعراضنا، وفررنا فرار العبيد عن مواجهة الرجال، وردع المعتدي، أو لم نمارس حتى أدنى أساليب الضغط الحقيقي الفاعل؛ فسيمتعض الأحرار من المفارقة القبيحة بين ما عليه إمامنا(عليه السلام)، والذي قدم الأضاحي والتضحيات للدين والكرامة، وبين ما عليه واقعنا الذليل، ولن تقنعه كل التبريرات التي تساق باسم العقلانية وعدم القدرة، أو الاحتياط للدماء؛ لأنه سيكون خارج دائرة التخدير، وتهديد مصالحه الشخصية، وللتاريخ والأجيال القادمة حكم صارم لا يجامل أحداً، ولا يخشاه.

 

سلمية الحسين(عليه السلام):

رأينا الحسين(عليه السلام) يبكي على أعدائه؛ لأنهم سيدخلون النار بسببه، ورأيناه يكره أن يبدأهم بقتال، ولكنهم حين أصرّوا على مناجزته، وبدأوا بالتعدّي، وحاربوا ولي الله(تعالى)، أطاح ذلك الرحيم الذي بكى شفقة عليهم برؤوسهم، وقطّع أشلاءهم، وسفك بسيفه دماءهم؛ فعرفنا سلمية الحسين(عليه السلام)؛ وأنها ليست سلمية الاستسلام والخنوع، ولا سلمية تلقّي الصفعات والملاينة، ولا سلمية السكون وخفض الصوت عند تعرّض الدين للخطر، والعرض للتدنيس، والمقدسات للهتك، والكرامة للهدر والسحق، وليست سلمية الفرار عند لقاء أعداء الله(تعالى).

فبهرتنا سلمية الحسين(عليه السلام)؛ لأنها شرعية عزيزة شريفة، واستبشعنا سلمية الاستسلام والخنوع والاستجداء؛ لأنها ما عرفت ولا شمت رائحة سلمية عاشوراء الأبية المجاهدة، الموشحة بشعار: “هيهات منا الذلة” والمجللة بعزة ” والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرُّ فرارَ العبيد”.

 

الفتح والشهادة في مدرسة الحسين(عليه السلام):

قال الإمام الحسين(عليه السلام): “أمّا بعد: فإنّ من لحق بي استشهد، ومَن لم يلحق بي لم يُدرك الفتح، والسلام“.

رسالة مختصرة بالغة الدلالة، بليغة المعنى يفسّر بها نتيجة نهضته المقدسة، وما سيؤول إليه قيامه ضد يزيد(لعنه الله)،” لقد أخبر الأسرة النبوية بأنّ من لحقه منهم سوف يظفر بالشهادة، ومن لم يلحق به فإنه لا ينال الفتح، فأي فتح هذا الذي عناه الإمام (عليه السلام)؟

إنّه الفتح الذي لم يحرزه غيره من قادة العالم وأبطال التأريخ، فقد انتصرت مبادئه وانتصرت قيمه، وتألّقت الدنيا بتضحيته، وأصبح اسمه رمزاً للحق والعدل، وأصبحت شخصيته العظيمة ليست ملكاً لأمّة دون أمّة، ولا لطائفة دون أخرى، وإنّما هي ملك للإنسانية الفذّة في كلّ زمان ومكان، فأي فتح أعظم من هذا الفتح، وأي نصر أسمى من هذا النصر؟“. حياة الحسين(عليه السلام)، الشيخ القرشي: 3/ 45.

إن النصر في مدرسة عاشوراء لا يختص بالنصر العسكري؛ فقد يتحقق النصر الكامل الذي يشمل النصر العسكري والمادي، وقد لا يتحقق العسكري ويتحقق نصر أعظم منه وأبهى وهو الانتصار المبدئي والقيمي.

“وقد ورد هذا المعنى في جواب الإمام السجّاد (عليه السلام) على السؤال الذي عرضه على حضرته إبراهيم بن طلحة حيث سأله: من الذي غلب؟

فقال له الإمام (عليه السلام): “إذا دخل وقت الصلاة، فأذّن وأقم تعرِف مَن الغالب”…

النصر العسكري يزول عادة بنصر عسكري آخر. لكن الانتصار المبدئي – ولا سيما إذا اقترن بالتضحية العظمى والمظلومية – يبقى حياً في الضمير الإنساني، ويجد على الدوام أنصاراً ومؤيدين له على مر الأجيال. وهذا الفهم، وهذه الرؤية بالنسبة للفتح تجعل الإنسان المجاهد والمكافح أكثر أملاً واندفاعاً ونشاطاً”. موسوعة عاشوراء، جواد محدثي، عنوان: الفتح.

 

وبناء على ما تقدم، يمكن أن يقرر:

1- الهزيمة الحقيقية إنما هي في التخلّف عن أداء التكليف الشرعي، في مساحة الذات، أو المجتمع، سيما فيما يتعلق بالواجبات الكبرى من حفظ الإسلام، والمقدسات، والأعراض، والمبادئ والقيم الإسلامية والإنسانية الرفيعة.

2- النصر الذي يأتي عبر الذل، والاستجداء، أو التحالفات غير المشروعة – سيما مع القوى الاستكبار العالمي التي لا تدخل إلا فيما يؤمِّن مصالحها – إنما هو هزيمة قيمية ساحقة، و”الغالب بالشر مغلوب” كما يقول أئمة الشريعة (عليهم السلام).

3- لا يقاس النصر – في مدرسة عاشوراء – بالقلة والكثرة، ولا بالعدة والسلاح؛ فقد كان الواحد في يوم عاشوراء يقابل ألفاً على بعض أقل التقادير، ثم بعد استشهاد الثوار قابل الإمام الحسين(عليه السلام) كل تلك الآلاف وحده، ولكنه صمد وطّن النفس على لقاء الله(تعالى) بكل رضا ويقين.

وقد أرتنا الدنيا أحد هذه النماذج التي وعت درس عاشوراء – كل الوعي – وتشبّعت بقيمها فأسقطت “شرطي الخليج” وركّعت قوى الشرق والغرب، وهذا ما يصنعه إتقان الدرس العاشورائي، والإيمان، والشجاعة، ولا يصنع المقياس المادي لعوامل النصر، والجبن والفرار من ساح الجهاد والرجولة، إلا الذل والعار ولعنات التاريخ والأجيال.

4- تقرر مدرسة عاشوراء أن حفظ الدين، والعرض، والقيم، والعزة الإيمانية، مقدمة على حفظ الدماء، وأن حفظ الدماء، والمصالح الشخصية للعيش بذل مناقض لأحد دروسها الأساس: “إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً”.

 

غيرة الحسين(عليه السلام):

عن النبي(صلى الله عليه وآله): “إني لغيور، والله (عز وجل) أغير مني، وإن الله (تعالى) يحب من عباده الغيور“. وعنه (صلى الله عليه وآله): “إن الغيرة من الإيمان“.

ولقد ألقى معلّم عاشوراء الأول (عليه السلام) أروع الدروس، وضرب أبهى أمثلة الغيرة على العرض والناموس، فما أعظم ذلك المعلم، وما أروع تلك الدروس!

“بعد أن قُتل جميع أنصار الحسين(عليه السلام) وأصحابه وأهل بيته، وقبيل الاشتباك بالآلاف، صاح عمر بن سعد بالجمع: هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب، احملوا عليه من كل جانب. فأتته (عليه السلام) أربعة آلاف نبلة، وحال الرجال بينه وبين رحله، فصاح بهم:

يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون.

فناداه شمر: ما تقول يا ابن فاطمة؟

قال: أنا الذي أقاتلكم والنساء ليس عليهن جناح، فامنعوا عتاتكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حياً. فقال الشمر: لك ذلك. وقصده القوم”. الأخلاق الحسينية، جعفر البياتي، ص224- 225.

فانظر كيف أبى مولانا صاحب الغيرة والحميّة أن تُمس النساء بمحضره!

 

مشهد آخر:

عندما “ازدحم عليه العسكر، واستحرى القتال، وهو يقاتلهم ببأس شديد وشجاعة لا مثيل لها. وحمل (عليه السلام) من نحو الفرات على عمرو بن الحجاج – وكان في أربعة آلاف – فكشفهم عن الماء، وأقحم الفرس الماء، فلما مد الحسين يده ليشرب ناداه رجل:

أتلتذ بالماء وقد هتكت حرمك؟!

فرمى الماء ولم يشرب، وقصد الخيمة.

وفي رواية الشيخ الدربندي (رحمه الله): فنفض الماء من يده، وحمل (عليه السلام) على القوم فكشفهم، فإذا الخيمة سالمة… إن الإمام (عليه السلام) كان سيد سادات أهل النفوس الأبية، والهمم العالية، فلما سمع أن المنافقين يذكرون اسم الحرم والعترة الطاهرة كف نفسه عن شرب الماء بمحض ذكرهم هذا، فقد سنَّ (روحي له الفداء) لأصحاب الشيم الحميدة والغيرة سنة بيضاء، وطريقة واضحة في مراعاة الناموس والغيرة “ الأخلاق الحسينية، جعفر البياتي، ص 225.

وهنا يحق لنا أن نسأل شرفاء الدنيا وحكمائها وأهل تقواها:

لماذا لم يشرب الإمام (عليه السلام) الماء، ثم يذهب لحماية حرمه وهو أقوى على النزال بعد أن يروّي عطشه؟!

وكم سيستغرق شربه للماء من وقت حتى ينفضه من يده ويهرع نحو خيمة النساء؟

ما أبلغ الدرس يا مولاي! وما أعظم العبرة!

 

مشهد ثالث:

“حينما عاد الإمام الحسين (عليه السلام) إلى المخيم ورام توديع العيال الوداع الثاني؛ ليسكن روعتهم، ويخفف لوعتهم، ويصبرهم على فراقه، قال عمر بن سعد لأصحابه: ويحكم! اهجموا عليه ما دام مشغولا بنفسه وحرمه، والله إن فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم.

فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتى تخالفت السهام بين أطناب المخيم، وشك سهم بعض أزر النساء فدهشن وأرعبن وصحن ودخلن الخيمة ينظرن إلى الحسين كيف يصنع، فحمل عليهم كالليث الغضبان، فلا يلحق أحداً إلا بعجه بسيفه فقتله، والسهام تأخذه من كل ناحية وهو يتقيها بصدره ونحره، ورجع إلى مركزه يكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم” الأخلاق الحسينية، جعفر البياتي، ص226.

لقد أبت غيرة الحسين (عليه السلام) وحميته أن تُمس نساؤه ما دام فيه عرق ينبض، وفي ذلك درس بليغ يقدمه الإمام (عليه السلام) للبشرية جمعاء، وعلى الخصوص لأتباعه وشيعته، أن لا يقبلوا بأن تدنس أعراضهم، ويمس شرفهم، وأن يقدموا الموت بشرف على الحياة بعار تدنيس العرض، ومس الناموس!

السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين(عليه السلام).

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى